مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الريف في مواجهة الحرب الكيماوية الأولى
نشر في هسبريس يوم 31 - 01 - 2008


الخطابي في مواجهة الغازات السامة ""
في مارس 1991 كتب المؤرخ الهولندي، البروفسور يان هوفنار المختص في التاريخ العسكري، مقالا من الأهمية بمكان، يحمل عنوان (المغرب كحقل تجارب للغازات الألمانية السامة)، وقد نشر في جريدة هولندية مشهورة تدعى، NRC) ، الصحيفة التجارية)، وهذا المقال هو عبارة عن عرض تفصيلي ومركز لأهم كتاب أجنبي، تعرض بموضوعية لا نظير لها لحقيقة الحرب الكيماوية، التي مورست على الريف المغربي في منتصف عشرينيات القرن الماضي، وقد ألف هذا الكتاب، الذي كتب عام 1990، من قبل الألمانيين؛ الصحافي روديبرت كونز، والمؤرخ رولف ديتر مولر، وهو موسوم ب (الخطابي في مواجهة الغازات السامة). في حقيقة الأمر، إن أغلب من تناول هذه القضية اعتمد على هذا الكتاب، الذي أصبح يشكل مرجعا أساسيا، بل مرجعا لا يمكن الاستغناء عنه في الكتابة عن حرب الغازات السامة في منطقة الريف، وتكمن أهميته القصوى في العناصر الثلاثة الآتية:
1-يعتبر تاريخيا هو السباق إلى طرح هذه القضية الإنسانية المسيجة بالطمس والكتمان، في الوقت الذي كان فيه الجميع؛ مثقفين وإعلاميين وشعبا، يجهلون أن أول مكان في العالم قصف بالأسلحة الكيماوية هو الريف، ثم إن ما يعزز هذا السبق التاريخي أكثر، هو أن الكتاب ألف من قبل ألمانيين، اعتمدا على شتى طرائق البحث العلمي والتحري التاريخي، مما يشكل نوعا من رد الاعتبار الانساني للريف، لاسيما وأن المسألة طرحت بأسلوب علمي خلو من أي نزوع أيديولوجي، ليس كما هو الشأن بالنسبة إلى مشروع القانون الذي تقدم به عضوان من الفريق النيابي لحزب اليسار الجمهوري الكطلاني في البرلمان الإسباني، في فبراير 2007، وهو مشروع يتمحور حول فضيحة استخدام إسبانيا للأسلحة الكيماوية في منطقة الريف، أثناء مواجهتها للمقاومة الريفية الباسلة، ويطالب السلطات الإسبانية بالاعتراف بجرائمها الكيماوية التي مارستها على الريف. فإن كان يظهر أن هذه الخطوة التي قام بها هذا الحزب الكطلاني هي في صالح المواطنين الريفيين، الذين مازالوا يتحملون نتائج هذه الحرب المحرمة الوخيمة، رغم مضي أكثر من ثمانية عقود على وقوعها، فإن ثمة أكثر من علامة استفهام حول سواء، الكيفية التي تم بها تناول هذا الملف، أم الظرفية التي شهدت هذا الأمر، بمعنى أن الهاجس الأيديولوجي يظل حاضرا لدى العضوين الكطلانيين اللذين يعود إليهما الفضل في إثارة هذا الإشكال التاريخي الواقعي الشائك من جديد.
2-فيما يتعلق بمضمون الكتاب، يمكن التسليم بأنه نجح في إماطة اللثام عن جملة من الحقائق التاريخية التي غيبها المؤرخون الرسميون، أهمها أن حرب الريف تعتبر أول حرب في التاريخ استعملت فيها الأسلحة الكيماوية، ليس على أرض الميدان عن طريق المواجهة الندية، وإنما بأسلوب القصف الجوي للمدنيين والمرافق العمومية والمزروعات والأشجار والمياه وغير ذلك، وذلك في صيف 1925، مما يؤكد أن الحرب الإيطالية التي استخدمت فيها الأسلحة الكيماوية ما بين 1934 و1936 ليست هي الأولى تاريخيا، كما يناقش الكتاب الخرق السافر الذي مارسته إسبانيا لمعاهدة جنيف التي تحظر استخدام الأسلحة الكيماوية، خصوصا وأنها تعتبر من الموقعين على هذه الاتفاقية في يونيو 1925، إلى جانب كل من ألمانيا وفرنسا، غير أنها لم تأخذ هذا الوعد بعين الاعتبار، لأنها سوف تعمد في صيف تلك السنة إلى استعمال السلاح الكيماوي! هذا ناهيك عن حقائق أخرى، مثل مصالح ألمانيا في المغرب التي دفعتها لمساعدة إسبانيا بالتكنولوجيا الكيماوية، والأضرار الخطيرة التي ترتبت عن استعمال تلك الأسلحة، ثم عدم السماح لمنظمة الصليب الأحمر الدولية منح المساعدات المادية والمعنوية والصحية لضحايا تلك الحرب الظالمة، وغير ذلك من الحقائق التاريخية المغيبة.
3-كما تجدر الإشارة إلى أن المنهجية المتبعة في تأليف هذا الكتاب تحيل، بشكل أو بآخر، على أن الباحثين تحريا أقصى مراتب النزاهة والحياد، مادام أنهما أسسا أطروحتهما على أفكار مدعومة بمعطيات صادقة، يمكن لأي ناقد تقصيها ومعالجتها، وأهم هذه المعطيات مستقاة من الأرشيف العسكري الألماني، في حين يظل الأرشيف الإسباني مغلقا، أما المغرب فغير مستعد للتعاون مع أي أحد فيما يتعلق بهذا الملف الذي أصبح بمثابة طابو محرم جديد!
استنادا إلى هذه الملاحظات المقتضبة نثبت أنه مر ما يربو على ثمانية عقود من الحرب الكيماوية، التي مارستها كل من إسبانيا وفرنسا وألمانيا علانية على سكان الريف العزل، كما أنه مر حوالي عقدين عن أول اعتراف غربي بهذه الجريمة الشنعاء، وهو اعتراف من لدن باحثين نزيهين، يعكسان وجهة نظر المثقف الغربي الحقيقي الغير راضي عن السياسات الغربية الممارسة في بلدان العالم الثالث؛ قديما وحديثا. والآن، تطرح القضية من جديد، في ظرفية زمنية تنم عن أن ثمة وعيا غير مسبوق لدى المجتمع المدني الريفي، الذي سارع إلى تبني هذا الملف الذي يشكل نقطة سوداء في تاريخه غير البعيد، غير أن هذا الوعي وحده غير كاف لتعبيد العقبات التنظيمية والسياسية، التي من شأنها أن تعرقل سير هذه القضية.
لذلك نعتقد أن إنجاح هذا الملف، غير مرهون بمدى استجابة السلطات الإسبانية لمطالب الجمعيات الريفية، التي تكفلت بتبني قضية الحرب الكيماوية التي مارسها الاستعمار الإسباني على أرضهم، بقدرما هو متعلق بمرحلتين؛ في أولهما تتكتل سائر الجمعيات والمنظمات والتمثيليات وغير ذلك، التي أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن ضحايا الحرب الكيماوية، فتنشىء هيئة مشتركة عليا تتقدم بمشروع جاد ومتكامل إلى الدولة المغربية، طالبة منها عبر مختلف الوسائل العلمية والسياسية والنضالية أن تجعل من هذه القضية قضية وطنية، وعندما يتحقق هذا المطلب، مثل غيره من المطالب التي كان تحققها ضربا من المستحيل، نعبر إلى المرحلة الثانية التي سوف تكون على مستوى رسمي وموسع بين المغرب وإسبانيا، كما يحدث الآن بين الجزائر وفرنسا، حيث تطالب الأولى الثانية بالاعتراف بجرائمها النكراء في حق الشعب الجزائري، أو تكون من قبل جهات تمثل ضحايا تلك الحرب مدعومة قانونيا من الدولة المغربية، دون نسيان الدور الكبير الذي قد يؤديه المثقفون المغاربة المقيمون في أوروبا عامة، وفي إسبانيا خاصة، أما أن تنفرد بتمثيل هذا الملف جمعيات غير مدعومة قانونيا ولا رسميا، فهذا يعني أنها تمارس، من جهة أولى، خروجا على إرادة السلطة المغربية، مما سوف يعرضها للتعسف والتوقيف والعرقلة، وتستفز، من جهة ثانية، الدولة الإسبانية التي تتمتع باتفاقيات وحقوق لدى المغرب!
الضحية واحدة والجلاد متعدد!
لقد مر ما يناهز ثمانية عقود على قصف منطقة الريف في شمال المغرب، بالأسلحة الكيماوية من قبل الاحتلال الإسباني، بعد عجزه الفادح عن مواجهة المقاومة الباسلة لمجاهدي الريف الشرفاء، بزعامة قائدهم الروحي والميداني محمد بن عبد الكريم الخطابي، حيث تحكي المصادر التاريخية أن اندحار جيش العدو في معركة أنوال، التي التهمت عشرات الآلاف من الضحايا، زرع المخاوف في القيادة الإسبانية، التي توجست خيفة من أن تتكرر تلك الهزيمة، فما كان أمامها إلا أن تهرع إلى السلطات العليا في مدريد، التي بدورها سوف تستنجد بحلفاء أجانب؛ مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
سوف لن نتوقف عند الأحداث التاريخية بنوع من التفصيل، بقدرما نستأنس ببعض المواقف التي تحيل على موضوعة القضية التي نحن بصدد تناولها، لنخلص بعد ذلك إلى نتائج تتداعى إلى واقعنا المعيش من ماضينا الغابر، الذي نظل نحمله معنا أينما ارتحلنا، إلى درجة أننا نشعر بأنه لا فكاك من ظلاله الممتدة إلى وجودنا، وخير مثال حول ذلك موضوع هذه الورقة، حيث في الوقت الذي كنا نعتقد فيه أن الاحتلال الإسباني قد ولى، وأن المقاومة الريفية صارت مجرد صفحة وضاء في سجل الماضي، نتباهى برموزها التي سكنت التاريخ الإنساني، تصدمنا الحقيقة التي كانت مغيبة في دهاليز الزمن، بل ويزيد من وقع الصدمة ما يتمخض عنه الواقع من دلائل قاطعة لا حيز لردها أو دحضها؛ فما زرعته يد العدو في الماضي رصاصا وقنابل وكيماويات، نحصده في الحاضر كوارث وفواجع وسرطانات! كما أنه كتب علينا أن نحيا ماضينا ثانية، ليس تداعيا وحلما، وإنما معاناة وألما، تقول إحدى المصادر الموثوق بها: "إن الغازات السامة قدمتها ألمانيا لإسبانيا، حيث تم قصف منطقة الريف ب 10 آلاف قنبلة تحوي 500 طن من المواد الكيماوية، من قبل القوات الجوية الإسبانية. وقد أنتج ثلث من هذه الكمية من الغازات السامة التي سقطت على الريف، أثناء الحرب العالمية الأولى من لدن بريطانيا وفرنسا".
على أساس هذا الدليل القاطع، يتأكد لنا أن جريمة الاعتداء على منطقة الريف بأسلحة محرمة دوليا، مثبة بوثائق واتفاقيات ماتزال شاهدة على حقيقة هذه الجريمة، وقد شاركت فيها أربع دول سبق لها وأن وقعت على تلك الاتفاقيات، وهي بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا، وثمة من المصادر التي تضيف حتى الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك لا ينبغي أن يقتصر خطاب المثقفين والسياسيين على متابعة إسبانيا وحدها، والكل يعلم أن فاعلي الجريمة متعددون، مما يدفعنا للتساؤل عما إذا كان يقف وراء اقتصار جمعيات ضحايا الحرب الكيماوية الإسبانية، على الفاعل الإسباني فقط، بسبب التأثير السياسي الذي مارسه حزب اليسار الجمهوري الكطلاني، الذي حاول مؤخرا تبني هذا الملف، وسرقة الأضواء ممن سبقه من الباحثين القلائل، الذين كانوا قد كشفوا القناع عن هذه الجريمة وجلاديها! هذا يعني بوضوح تام أنه إلى جانب متابعة ومحاسبة الدولة الإسبانية، ينبغي كذلك أن نتابع ونحاسب باقي الحلفاء، الذين شارك كل واحد منهم بنصيبه في هذه الجريمة الكيماوية الأولى من نوعها في التاريخ الإنساني، مما سوف يمنح خطابنا بعدا استراتيجيا أكثر واقعية ومصداقية.
سر الصمت المغربي
ثم إن هناك عنصرا من الأهمية القصوى بمكان، وهو يتعلق بموقف الدولة المغربية آنذاك من الحرب التي شنتها إسبانيا على الريف، وهو موقف يتراوح بين الصمت النابع من انشغال السلطان وحاشيته بأمور الحماية الفرنسية، التي قبلها، فقبل بذلك أن يكون موظفا ساميا لدى الجمهورية الفرنسية! وبين الاحتفاء الخفي بما يتعرض إليه الريف من قمع وتخريب، لأنه كان في طور الانفصال التلقائي عن الدولة المغربية التقليدية، وتشكيل الجمهورية الريفية المستقلة، بل وثمة من يذهب إلى أن سلطان المغرب حث الإسبان أو شارك إلى جانبهم في مواجهة الحركة الريفية، غير أن هذا الرأي يظل في مسيس الحاجة إلى التحري والدعم الموضوعي بالأدلة والمعطيات.
هذا عن موقف الدولة المغربية القديم إبان تعرض منطقة الريف للحرب الكيماوية، فماذا عن الموقف الحديث، والريف يتعرض من جديد لمخلفات تلك الحرب، حيث تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 60 في المائة من إصابات داء السرطان في المغرب تسجل في مناطق الريف! وقد ثبت بالبحث العلمي والطبي أنها متولدة عن ذلك التلويث الكيماوي، الذي مارسه العدو الإسباني في منتصف عشرينيات القرن الماضي على شمال المغرب.
ومع ذلك يظل موقف المغرب الرسمي جامدا، لم يحرك ساكنا لهذه الزوبعة، التي بدأ يحدثها ملف ضحايا الحرب الكيماوية على الريف، بل وتظل الأحزاب المغربية قاطبة راضية بصمت الدولة المغربية، وهو رضى نابع عن نزعتها البرغماتية المعهودة، حيث أنه بمجرد ما يتغير الموقف الرسمي، سوف تهب لمباركته والانتظام في بوتقته، وهذا ما حدث لملف القضية الأمازيغية، حيث ظلت أغلب الأحزاب تغض عنه الطرف؛ صلفا أو خشية، لكن عندما عبر القصر عن تبنيه للأمازيغية ورد الاعتبار إليها، هرع الجميع أحزابا ومثقفين وسياسيين يخطبون ود الأمازيغية، ليس حبا في عيونها، وإنما تلبية لنداء القمة! ترى ما هي الأسباب الخفية التي تقف وراء جمود الموقف الرسمي المغربي من ضحايا الحرب الكيماوية؟
لا يمكن استيعاب هذا الجانب إلا في السياق العام الذي يحكم علاقة المغرب بإسبانيا، وقد كنا تساءلنا في إحدى مقالاتنا؛ حول ما إذا كانت هذه العلاقة علاقة تكافؤ أم علاقة تبعية؟ فخلصنا بعد التحليل إلى أنها، للأسف العميق، علاقة تبعية! لاسيما وأن أمام الدولة المغربية جملة من التحديات التي تحضر فيها إسبانيا بقوة، مثل قضية الصحراء المغربية، وملف الهجرة السرية، وتنقل البضائع المغربية عبر التراب الإسباني، واستمرار احتلال المدينتين المغربيتين سبتة ومليلية، واستقرار اليد العاملة المغربية بإسبانيا، وغيرها من التحديات، التي تقيد حرية الدبلوماسية المغربية في تعاملها مع السياسة الإسبانية في المنطقة، فتظل جملة من القضايا الاستراتيجية عالقة، لا يستطيع المغرب مجرد النقاش مع جاره الأوروبي الجنوبي حولها، ومادام أن ملف الحرب الكيماوية هو في حد ذاته يشكل تحدّيا جديدا في وجه مغرب الألفية الثالثة، فكيف له أن يجازف بفتح أو تبني هذا الملف، وكاهله يرزح تحت وطأة ملفات من الوزن الثقيل، كملف الصحراء المغربية، وملف المدينتين السليبتين وبعض الجزر المتنازع عليها، وغيرهما.
ثم إن تعرض الريف للحرب الكيماوية تم في آونة تشهد بأنه كان مستقلا سياسيا عن السلطان المغربي، الذي لعله كان يرى في ذلك الاستقلال تمردا على المملكة المغربية التقليدية، وما يؤيد هذا الطرح هو الجو التاريخي العام الذي تلا تلك المرحلة، وهو جو مشحون بالصراع بين الريف والمخزن، بين المغرب غير النافع والمغرب النافع، مما كان يضع هذه المنطقة؛ تاريخا وثقافة وساكنة، في اللائحة السوداء للسياسة المغربية المعاصرة، فاعتراها ما اعتراها من التهميش والتفقير والإقصاء، من هذا المنطلق فإن الريف كان يتخبط في وضعية لا يحسده عليها أحد، مما ولد لدى الدولة المغربية عقدة سيكولوجية تجاه أي حركة ثقافية، أو وعي سياسي، أو تنمية اقتصادية تنشأ في هذه المنطقة، التي تنضوي جغرافيا وسياديا تحت الراية المغربية، لكن وجوديا تقع خارج التاريخ المغربي!
بناء على هذا، نعتقد أن الأسباب الخفية التي تجعل السلطات المغربية تحيد عن تبني ملف ضحايا الحرب الكيماوية بالريف، تنبثق، من جهة أولى، من العلاقة المغربية الإسبانية غير المتوازنة، التي تفرض على المغرب التقيد بالمواثيق السياسية والتجارية والاقتصادية والأمنية وغير ذلك، التي تجمعه في الوقت الحالي مع إسبانيا، ولو على حساب مجموعة من القضايا الحيوية التي تمت بصلة وطيدة إلى هوية المغرب وتاريخه وترابه. وتنبثق، من جهة ثانية، من السياق التاريخي الذي كانت تندرج فيه منطقة الريف، وهو سياق يبرر للمخزن الفعل الإقصائي الذي مارسه على شمال المغرب، طوال أكثر من نصف قرن، فكيف له الآن أن يفكر في تجشم هذا التحدي الخطير، الذي قد يزيد الطين بلة؟!
جملة القول..
إن الغرض من كتابة هذه الورقة هي بعث الوعي الكافي في الأذهان، بحقيقة قضية الحرب الكيماوية الإسبانية على الريف المغربي، وهي حقيقة قائمة بالحجة والدليل، تثبت بأن ثمة أكثر من جلاد ساهم في هذه الفعلة اللاإنسانية، وهذا ما يجعل القضية أكبر مما يمتلكه المجتمع المدني الريفي من إمكانيات، فليس أمامه إلا أن يلجأ إلى كل من يحاولون تبني هذا الملف، بأسلوب بريء من الأدلجة والتسييس، لذلك نرى أنه يحق لنا أن نستثمر كل ما يتاح لنا من فرص تخدم هذه القضية، لكن بعيدا عن أي انسياق غير واعي خلف سراب الشعارات، وفي الوقت ذاته نوجه خطابنا إلى الداخل، إعلاميا وأكاديميا وجمعويا، وفي نيتنا أن نحول ملف ضحايا الحرب الكيماوية إلى قضية وطنية.
بقلم/التجاني بولعوالي
كاتب مغربي مقيم بهولندا
www.tijaniboulaouali.nl


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.