عرفت قضية الصحراء في الآونة الأخيرة عدة تحولات، سواء على مستوى مسار الملف، بحكم توقف مسلسل المفاوضات، أو على مستوى الهياكل والأطراف الدولية المتدخلة في النزاع، ابتداء بالأزمة الدبلوماسية التي وقعت بين المغرب والأمين العام للأمم المتحدة، بسبب انحيازه إلى المواقف المعادية لمصالح المملكة، إثر وصفه المغرب أثناء زيارته إلى مخيمات تندوف شهر مارس الماضي بالبلد "المحتل"، ومرورا بالتحول النوعي لمواقف بعض الدول، خاصة إعلان دول الخليج العربي خلال القمة المغربية-الخليجية الأولى التي عقدت يوم 20 أبريل دعمها للوحدة الترابية للمغرب، وكذلك "الحياد" الذي يمكن وصفه ب"الإيجابي" لكل من روسيا والصين، وانتهاء ب"الانحياز الأمريكي الغامض" والمعادي لمصالح المغرب، باعتباره حليفا إستراتيجيا قويا بشمال إفريقيا. هذا الموقف الجديد يحمل في طياته بعض الدوافع الخفية، لاسيما أن الإدارة الأمريكية تعاملت مع المملكة المغربية بازدواجية تتسم بنوع من العداء والمكر.. والغريب أن هذا الأسلوب توظفه عادة أمريكا ضد أعدائها ومعارضي سياساتها، وليس ضد حلفائها وأصدقائها. ومن مظاهر هذه الازدواجية أنه في الوقت الذي اكتفت إدارة أوباما بالتفرج وفضلت الصمت عندما وصف الأمين العام للأمم المتحدة المغرب ب"المحتل"، نزلت بكل ثقلها وضغطت على المملكة داخل أروقة الأممالمتحدة من أجل عودة المكون المدني بالمينورسو، الذي سبق وأن طرد خلال الأزمة مع بان كي مون. إن اصطفاف أمريكا إلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة خلال الأزمة مع المغرب يعتبر مؤشرا قويا على أن بان كي مون لم يكن يتحرك من تلقاء ذاته أو مرد تلك التحركات إلى أخطاء وتعثرات مساعديه، بقدر ما ينفذ ويعمل وفق أجندة ومقاربة أمريكية جديدة في إطار التبلور تجاه قضية الصحراء. فرضية تؤكدها الضغوط القوية التي مارستها أمريكا من أجل تضمين قرار مجلس الأمن الأخير رقم 2285 التوصية التي سبق أن قدمها الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره؛ والتي تنص على "ضرورة عودة المكوّن المدني للمينورسو، بما أن طرد المغرب لغالبية أفراده يؤثر سلبًا على المكوّن العسكري، ممّا يهدد وقف إطلاق النار"، إذ إنه بعد مفاوضات شاقة وتدخل مجموعة من الحلفاء، تم تخفيف النبرة الحادة الموجهة إلى المغرب التي تدعو إلى العودة الفورية للمكون المدني في الصيغة الأولى من القرار، وإعطاء مهلة 60 يوما في الصيغة الثانية، ليتم التوافق على مهلة 90 يوما كصيغة نهائية. إستراتيجية "الفوضى الخلاقة" في إطار محاولة فهم وتحليل خلفيات الموقف الأمريكي الأخير، واستشراف انعكاساته على ملف الصحراء، يمكن استحضار فرضيتين أساسيتين؛ الأولى أن إدارة أوباما بصدد مراجعة خريطة التحالفات والأصدقاء بحسب رؤية ونزعة الرئيس ومستشاريه، أما الثانية فمفادها أن أمريكا خلال السنوات الأخيرة غيرت من إستراتيجيتها التي كانت ترتكز على "القوة العسكرية"، واستبدلتها ب"القوة الناعمة" أو كما يسميها الخبراء العسكريون والإستراتيجيون "الفوضى الخلاقة"، التي غايتها خلق حلفاء جدد من خلال إضعاف وتقسيم الحلفاء السابقين، وتفكيك وإفشال التحالفات الإقليمية والدولية التي تمس نفوذها في مختلف المناطق، وتغير خريطة العالم وبناء نظام دولي جديد يخدم مصالحها الاقتصادية والمالية. وتقوم نظرية "الفوضى الخلاقة"، حسب الخبراء والمنظرين الأمريكيين، على أن تعمل الولاياتالمتحدةالأمريكية على زرع ونشر الفوضى على حساب الاستبداد؛ بمعنى أن الفوضى تصبح مظهرا من مظاهر الحرية، وعلى المعنيين بها، المبادرة إلى عملية بناء نظام سياسي جديد يناقض الاستبداد الذي تكون أمريكا قد تكلفت بإزاحته أو تدميره، وهكذا يتاح للشعب المعني الإقدام على خلق نظام جديد وفق التصور الذي يخدم مصالح أمريكا. وكما هو معلوم، فإن بلورة وإعداد السياسة الخارجية الأمريكية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالملفات الإستراتيجية والهامة، يتم وفق دراسات وأبحاث مراكز مختصة (بيوت الخبرة)، والاستعانة كذلك بتوصيات المؤسسات المؤثرة (استشارية الأمن القومي، البنتاغون، الاستخبارات، وزارة الخارجية..)، فيتم صياغة القرار بتنسيق بين هذه المؤسسات مع مراعاة المصالح الأمريكية، وبتوافق مع دينامية ودرجة تأثير اللوبيات؛ وبالتالي فتغير الرئيس أو الطاقم أو الحزب داخل مراكز القرار لا يعني بالضرورة تغيير المواقف والسياسات. والحالة هاته، فملف الصحراء يعتبر من الملفات الحساسة والهامة في شمال إفريقيا بالنسبة للإدارة الأمريكية كيفما كان لونها، الأمر الذي يجعل الفرضية الأولى مستبعدة، ويقوي ويرجح الفرضية الثانية، خاصة بالعودة إلى أبريل من سنة 2013 عندما تقدمت هذه الإدارة الأمريكية نفسها بمسودة توسيع صلاحيات المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان، كردة فعل على التقارب المغربي-الفرنسي، إذ لم تكن أنذاك أمريكا تنظر بعين الرضا لهذا التقارب وانعكاساته على المصالح والنفوذ الأمريكي بالشمال والجنوب الغربي لإفريقيا، لاسيما أن التدخل العسكري الفرنسي في تلك الفترة لإعادة ترتيب الوضع في دولة مالي تم بمساعدة وتنسيق مغربي، تجلى بالأساس في التسهيلات والمساعدات المرتبطة بالجانب العسكري-الأمني (السماح بمرور الطائرات والتزود بالوقود..) والدور الدبلوماسي الذي لعبته المملكة لحث دول الخليج قصد تمويل العمليات الفرنسية. إن هذه السابقة تؤكد أن خلفيات الغضب أو الموقف الأمريكي الأخير المعادي لمصالح المغرب ووحدته الترابية يرتبط بالأساس بالدور الذي لعبه المغرب في ليبيا (اتفاق الصخيرات)، والتحالف المغربي الخليجي، إذ إن انخراط المغرب ومشاركته عسكريا في "عاصمة الحزم" في اليمن ساهم بشكل كبير في حماية الأمن القومي الخليجي، دون الحاجة إلى الدور الأمريكي. كما يعتبر هذا التدخل المغربي إلى جانب دول الخليج سابقة في المنطقة.. ومن شأن مأسسة وتقوية هذا النمط أن يؤدي إلى إحداث نوع من التوازن الإستراتيجي وملء الفراغ أو "التراجع الإستراتيجي" الذي تركته أمريكا في بالمنطقة، خاصة في التصدي للنفوذ الإيراني الفارسي المتزايد. وبالتالي، فالأدوار الحيوية الجديدة التي أصبح المغرب يلعبها كقوة إقليمية على مستوى شمال افريقيا، بالإضافة إلى التحركات الدولية من خلال التحالف مع دول الخليجي عسكريا وأمنيا، وطموحاته المتنامية بغية التمدد في إفريقيا اقتصاديا رفقة شركاء جدد، جعل أمريكا تدخل على الخط، محاولة بذلك إرباك المغرب وتحجيم دوره الإقليمي وتقليص نفوذه المتنامي من خلال الضغط عليه على مستوى "اليد التي تؤلمه"، وهي قضية الصحراء، خاصة أن التحالفات التي نسجها المغرب مع روسيا والصين، والأدوار التي أصبح يقوم بها في ظل تراجع خصومه، بات ينذر بقرب إيجاد حل لملف النزاع، وفق السقف الذي رسمه المغرب.. وهذا الأمر ترفضه أمريكا في الوقت الراهن. إستراتيجية اللاحل قبل إصدار القرار الأخير لمجلس الأمن رقم 2285 المتعلق بتمديد بعثة المينورسو، قام المغرب بعدة محاولات لثني أو إقناع أمريكا بضرورة مراجعة مواقفها تجاه قضيته المصيرية الأولى، وفي هذا الإطار طلب من حلفائه الخليجين من خلال رسالة بعثها الملك محمد السادس إلى ملك السعودية، والتي حملها كل من المستشار الملكي فؤاد علي الهمة، والوزير المنتدب في الخارجية ناصر بوريطة، قصد عقد قمة مغربية خليجية قبل انعقاد القمة الخليجية الأمريكية بساعات، من أجل الضغط أكثر، خاصة بعد أن أبلغ المغرب الدول الخليجية أن مشروع القرار الأمريكي "معاد للمغرب وينحاز إلى طرف ضد طرف، وأن قرار طرد بعثة المينورسو قرار سيادي للمغرب". ورغم أن قضية الصحراء المغربية كانت من بين النقاط التي أثيرت في الحوار الأمريكي الخليجي الذي عقد يوم 20 أبريل من السنة الجارية، إذ دخلت السعودية على الخط من أجل نزع فتيل التوتر بين البلدين، لاسيما بعد أن صعد المغرب من خطابه الدبلوماسي، من خلال الخطاب الملكي الذي حمل رسائل قوية ومباشرة وغير مسبوقة للإدارة الأمريكية، فإن هذه الأخيرة تمادت في مواقفها المعادية وأصرت على عودة المكون المدني، رغم عدم أهمية ذلك، في محاولة منها لإذلال المغرب أمام المنتظم الدولي، وتقزيمه وإحراجه أمام حلفائه الجدد. وقد استمر التوتر بين المغرب وأمريكا حتى بعد صدور قرار مجلس الامن، إذ لم تستسغ المملكة انقلاب حليف الأمس بهذا الشكل والكيفية، ووجدت التقرير السنوي الذي تصدره الخارجية الأمريكية منتصف شهر أبريل من كل سنة حول وضعية حقوق الإنسان في العالم فرصة مناسبة لتعبر عن غضبها الشديد وعن عدم رضاها عن السياسة العدائية التي باتت تنهجها أمريكا تجاهها، فتطورت الأزمة وبدأ شبح القطيعة الدبلوماسية يخيم عليها، خاصة بعد ما وصل الأمر إلى استعمال الرباط آخر آليات العلاقات الدبلوماسية في التعبير عن عدم الرضا المتمثلة في استدعاء سفير الدولة المعنية للاحتجاج. من الواضح أنه في سياق التعاطي مع الموقف الأمريكي الجديد ومحاولة استباق الزمن قبل انقضاء مهلة 90 يوما المتعلقة بعودة المكون المدني ضمن بعثة المينورسو، يحاول المغرب الضغط بجميع الأوراق الممكنة، سواء التهديد بتعليق التعاون الأمني والاستخباراتي، أو تعبئة الحلفاء واللوبيات من أجل دفع البيت الأبيض إلى تغيير مواقفه وتجاوز وصرف النظر عن التوصية الخاصة بالمكون المدني، لاسيما أنها لا تقترن ضمن القرار رقم 2285 بأي أجراء محدد يمكن اللجوء إليه في عدم تطبيقها. بالنسبة إلى أمريكا، فالنزاع حول قضية الصحراء يعتبر ملفا حيويا وسلاحا إستراتيجيا لضبط إيقاع التوازنات بشمال إفريقيا بين المغرب والجزائر، قد تميل تارة هنا وهناك، ليس من منطلق الرغبة في إيجاد حلا للنزاع الذي يعتبر من أقدم النزاعات في العالم، بل للضغط على الأطراف وخدمة مصالحها في المنطقة المغاربية. وفي هذا السياق تسعى أمريكا من خلال انحيازها إلى الطرف الآخر إلى كسر شوكة المغرب، وتحجيم دوره خاصة في منطقة الخليج العربي. وخلاصة القول، فإن موقف الإدارة الأمريكية تجاه قضية الصحراء يعكس في نهاية المطاف نظرتها إلى المملكة المغربية.. هذه النظرة الكلاسيكية القديمة التي ترى المغرب مجرد بلد تابع وخاضع لحمايتها ونفوذها الإمبراطوري الممتد من شرق الأرض إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.. ولازال أمام المغرب طريق طويل وشاق ومليء بالأزمات والاحتكاكات مع هذه القوى العظمى كي تقتنع بموقعه الجديد في الخريطة الدولية، وتعترف به كقوة إقليمية كباقي القوى الدولية الأخرى التي دخلت بدورها في صراعات وموجهات طويلة الأمد مع أمريكا، قبل أن ترضخ للأمر الواقع وتعترف بها وتعمل على إشراكها في مختلف مخططاتها وسياساتها في المناطق الموجودة بها، مثل تركيا وإيران. اقناع المارد الأمريكي بالمكانة الجديدة للمغرب يمر عبر إقناع عقله الإستراتيجي الذي تمثله مراكز الدراسات والخبرة التي على دراية بشكل دقيق بالوضع دخل كل الدول ونقاط ضعفها؛ لذلك على المغرب أن يعمل على تقوية الجبهة الداخلية من خلال المضي قدما في المسار التنموي ودعم التوجه والخيار الديمقراطي، وبناء مؤسسات منتخبة وقوية، هذا بالإضافة إلى ضرورة تنويع الشركاء والحلفاء. *باحث في العلوم السياسية