جواسيسُ إليكترونية.. هي فينا ومعَنا، في غَدْوِنا وتِرْحالنا.. إننا نحنُ العالمُ تحت مُراقبةٍ رقميةٍ لا نعرفُ إلى أين تقودُنا.. مُراقبة من الآلات التصويرية المثبتة في الشوارع.. ومُراقبات أخرى في بيُوتنا، وحتى في جيُوبنا.. لقد دخلت حياتَنا إليكترونياتٌ مُتنوّعة، في شكل لُعب، وخدماتٍ أخرى، وإلى سمْعياتِنا البصرية، والثلاجات، والسيارات، وغيرِها.. وفي كلّ هذه عيُونٌ وآذان، وآلاتُ تنصُّتٍ وتصويرٍ ثابتةٍ ومُتحرّكة.. وفي جُيوبِنا بطاقةُ تعريفٍ بيُومترية.. وشرائحُ دقيقة (Puces) أخرى في الهاتف الذّكيّ.. ورُخصةِ السياقة.. وفي استخداماتٍ أخرى، منها ما هو موجود، وما هو في الطريق.. ونحنُ مُقْبِلُون أيضًا على تعميمِ زراعةِ شرائحَ دقيقةٍ جدًّا تحت جلدِ كلّ إنسان، بدون استثناء.. ويكونُ إجباريًّا أن تُزرعَ في المستشفيات شريحةٌ تحت جلدِ كل مولود.. الأطفالُ يبدأون أولَ يوم في حياتِهم بشريحة تحت الجلد، تُسجِّلُ بدايةَ حياةِ كلّ طفل.. وتبقى معه، رفيقةً لهُ من المهد إلى اللحد.. تُسجلُ عنه الصغيرةَ والكبيرة.. جاسوسٌ في جسمِ كل طفل.. رفيقٌ لكلّ طفل من المهد إلى اللحد.. هل ستمنعُ هذه التكنولوجيا أيَّ انحرافٍ لبني آدم؟ هل ستمنعُ اندلاعَ الحروب؟ هل ستمنعُ الإرهاب؟ وبتعبير أوضح: هل هذه الجواسيسُ الدقيقةُ ستجعل البشريةَ تُحقّقُ حُلمَها القديم، وهو أن تعيشَ السلامَ والمحبةَ والاحترامَ المتبادل؟ كلّنا معنيون بهذه الجواسيسِ الصغيرةِ المسماة: شرائح.. الشرائحُ سوف تكونُ بطاقةَ التعريف الخاصة بكل فرد، حتى في جميع أنحاء العالم.... بطاقةُ تعريف وطنية وعالمية، فيها جوازُ السفر، وتأشيرة، ورخصة السياقة، وتستطيعُ «الجهاتُ المختصّة» رصْدَها من قريب ومن بعيد، ومعرفةَ حاملِها ومن معه، وإلى أين هو ذاهب، ولماذا؟ وشرائحُ تكميليةٌ تُزرَعُ في الدّماغ.. وفي أعضاءَ أخرى من الجسم، حسبَ الاحتياجاتِ الصّحيةِ والعقليةِ وغيرِها.. لقد انتشرت بالفعلِ شرائحُ دقيقةٌ أخرى في أجسامِ حيواناتٍ أليفة، وفي البَقرِ والمعِزِ والطّيورِ والأسماك.. وكائناتٍ أخرى.. الشرائحُ تتضمّنُ معلُوماتٍ تعريفيةٍ عن حاملِها، وأخرى عن تحرُّكاته وسكناتِه، وعن أحوالِه الصّحية والنّفسية والعقلية والعصبية وغيرِها، وعن علاقاتِه.. وعن أكلِه وشُربه.. وعن عاداتِه العلَنية.. والسرّية.. وأيضا معلوماتٍ غير مكشوفة، ولا يَعرفُ جُلَّها حتى حاملُها.. إننا نحنُ العالم قد دخلنا عصرَ الجواسيسِ الرّقمية التي تتوغّلُ إلى خصُوصياتِنا، وتستطيعُ أن تُحوّلَ هذه الخصوصياتِ إلى تهديداتٍ مُباشرةٍ للإنسان.. وهذا مؤشّرٌ لخرْقٍ إليكتروني لحقوق الإنسان.. وبتعبيرٍ آخر، أصبحَ كلُّ حاملٍ لشرائحَ دقيقةٍ مُرتبطةٍ بالأقمارِ الصناعية، يحملُ معها في جَيْبهِ جواسيسَ رقميةً جُلُّها لا يُرى بالعين المجرّدة.. من الناس من يُسمّيها «شُرطة» عِلمية، ومن يُطلقُ عليها تسميةَ «الأمن الرّقمي».. وسواءٌ هذه أو تلك أو غيرها، أصبح الناسُ تحت مُراقبةٍ رقميةٍ محليةٍ وعالمية.. إنهُ الأمنُ الرّقمي جُزءٌ من حياتنا، نحنُ العالم.. وسوف تَتطوّرُ المراقبةُ الرّقمية أكثرَ فأكثر، في مُختلفِ الأرجاء، عندنا وعندَ غيرِنا، لنكُونَ جميعًا، من الصغيرِ فينا إلى الكبير، مسمُوعين، مرئيّين، مضبُوطين زمانيّا ومكانيّا، وحتى مُستقبليًّا.. النوايا نفسُها ستكونُ مضبوطة: في ماذا تُفكّر؟ ماذا تنوي؟ إنك أنت أيضا، قبل أن تُقْدِمَ على فعل، تُفكّرُ فيه.. إذن أنت تنوي.. ونيّتُك تكشفُها لنفسِك.. وهكذا أنت مضبوطٌ من «شريحةِ النّوايا».. نحنُ العالمُ أمام الخرْقِ الإلكتروني لحقوق الإنسان.. الغيرُ سوف يتتبّعُنا، في الليل والنهار، حتى ونحنُ نيام، دون أن نعْلمَ لماذا؟ وكيف؟ المراقبةُ الرّقميةُ قادرةٌ على تحديدِ مكانِ وزمان وجُودِ أيّ فردٍ منّا، بهذه البيُومتريّات التي لم نعُد نستغني عنها في تعامُلاتِنا.. ومع الأيام، ستتّسعُ رُقعةُ احتياجِنا إليها، ليس فقط على مُستوى تعامُلاتِنا المؤسّساتية، بل أيضًا في تنقّلاتِنا وفي التّواصُل السمعي البصري بين الأفرادِ والجماعات، ناهيك عن الاستخداماتِ المجّانية لشبكةِ الأنترنيت.. وبهذا تنتهي السريّةُ الفردية، ولن يكُون أيُّ شخصٍ منّا قادرًا على حفظِ أسراره الشخصية.. أسرارُنا لن تكُون أسرارًا.. ستكونُ تحت مُراقبةِ «الجهاتِ المختصّة»، وربما قَراصنةِ الرقميات.. التطوُّرُ العلمي الذي يحصُلُ أكثرَ فأكثرَ في مُختلف أرجاءِ العالم، سيفرضُ على البشرية تغييراتٍ جذريةً في سُلوكاتِها وأخلاقياتِها وسياساتِها وطُرُقِ تدبيرَها لشؤونِها الخاصة والعامة.. ثورةٌ كُبرى نحن مُقبلُون عليها بقُوّةِ التكنولوجيا الرقمية الجديدة.. وقد بدأت من الآن تجربةُ أقمارٍ اصطناعيّةٍ في حجمِ بضع سنتيمترات، تقومُ بنفس الدور الذي تلعبُه أجهزةٌٌ عملاقةٌ في فضاءاتِ الكُرة الأرضية، من حيث الاتصالاتُ والتجسّسُ ورصدُ مواقعِ الثروات تحت الأرض، واستكشافُ الآفاقِ البعيدة داخلَ وخارجَ مجمُوعتِنا الشمسية.. وإلى هذا نحنُ مُقْبِلُون على أنواعٍ جديدةٍ من الطاقات التي ستُسهّلُ الإنتاجَ البشري، ومن ثمّةَ الحياةَ على الأرض، والحياةَ خارجَ الأرض.. عالمُ الغد سيُحوّلُ حياةَ البشر رأسًا على عقب.. كلُّ شيءٍ ستصنعُه لنا الآلاتُ.. روبوتات في حجم حبّةِ أَرْز، ستكونُ في خدمةِ البيت، من حيث النظافةُ والغذاءُ والتعليمُ والصحّةُ وغيرُها... لقد دخلَ العالمُ عصرَ النّانُو.. وتكنولوجيا النّانُو هي صناعةُ آلاتٍ كلُّ واحدة منها في حجم جُزءٍ من مليون جُزء من السنتيمتر.. آلافٌ منها تستقرُّ على رأسِ إبْرَة.. وفيها شرائح على اتصالٍ مباشر، بالليل والنهار، بأقمارٍ اصطناعية، تستخدم تقنيةَ ال JPS.. وتستطيعُ الأسرةُ ضبطَ تحركاتِ بناتِها وأبنائها.. وكلُّ شيءٍ فينا، وحَوْلَنا، يتطوّرُ بشكلٍ سريعٍ مُذْهِل، فأين هو الإنسانُ فينا؟ هل سيُحافظُ على إنسانيتِه حتى وجسمُه خليطٌ من لحمٍ وحديد؟ وما العمل لحمايةِ الإنسان من رقميّاتِ اللاّإنسان؟ [email protected]