إلى المكان عيْنه الذي أقْدمتْ فيه "مّي فتيحة"، بائعة الحلوى، على إحراق نفسها، أمامَ المُلحقة الإدارية السادسة ببئر الرامي بمدينة القنيطرة، وفَدَ عشراتُ المواطنين والحقوقيين والنشطاء المنتمين إلى هيئات مدينة مختلفة، للمُطالبة بعَدم إفلاتِ مسؤول السلطة المحلية الذي كانَ وراءَ الحادث من العقاب. "القايد اللي تّْكرفْص عليها وْهانها خاصّو يتحاكم، هُو كايمتّل الدولة، ولكن ما مْتّْلهاش بشكل ديمقراطي، ولم يُراع ظروف تلك السيدة"، يقول محفوظ المحجوب، عضو التنسيقية الوطنية للباعة المتجولين والتجار على الرصيف، مضيفا: "نحن نطالب بمحاكمته محاكمة عادلة". وتضاربتْ الأنباء حوْلَ مصير القائد المتهم بتعنيف "مّي فتيحة"، مَا دفعَ بها إلى الانتحار بإضرام النار في نفسها؛ فبيْنما قالَ مصدر من السلطة المحلية ببئر الرامي لهسبريس إنَّ القائدَ جرى توقيفه هو و"المقدّم" الذي وثَّق مشهد إحراق "مّي فتيحة" لنفسها بواسطة مقطع "فيديو"، لمْ تتمكّن الجريدة من التأكّد من ذلك. وحسبَ مصدر موثوق من وزارة الداخلية، فقدْ جرى إرسال لجنة للتحقيق في حيثيات القضية من طرف الوزارة إلى قيادة بئر الرامي، لكنّهُ لمْ يؤكّدْ خبرَ توقيف القائد أو "المقدّم" الذي صوّر مشهد إضرام "مي فتيحة" للنار في نفسها، إذ اكتفى بالقول: "هادْ القضية ما فراسيش، والتوقيف يحتاج إلى إجراءات". وصبَّ المحتجّونَ القادمون من الدارالبيضاء والرباط ومدن أخرى جامَّ غضبهم على السلطات، مطالبينَ إيّاها بترْك ملفِّ "مّي فتيحة" مفتوحا، إلى أنْ يَجريَ إنصافُها، وإنْ كانتْ قدْ رحلتْ إلى دار البقاء. واستهلّ المحتجون الوقفة بشعار: "مّي فتيحة ماشي بُّوحدها معاها حنايا كاملين، والقائد اللي قتلها معاه حنايا ما مفاكينش". وفي خضمِّ الشعارات القوية التي كانتْ تصدحُ بها الحناجرُ الغاضبة أمامَ مبنى المُلحقة الإدارية السادسة ببئر الرامي، كانتْ إحْدى جارات "بائعة البغرير" الراحلة تحْكي وعيْناها تنضحان غضبا تفاصيلَ الساعات القليلة التي سبقتْ إقدامها على حرْق ذاتها أمامَ الملحقة الإدارية. تحْكي السيدة بحُرقة أنّ "مّي فتيحة" كانتْ كعدد من نساء المنطقة تبيعُ حلوى "البوق" أمامَ المدارس الابتدائية، ولمْ يكنْ رأسمالها من الحلوى التي تعرضها على طاولة صغيرة يتعدّى عشرين درهما، تبيعُ القطعة الواحدة منها بدرهم، لإعالة والدها الكفيف، وبنْتها الأرملة، والتي لا يتعدّى عمرها 18 عاما. ورُغم أنَّ "مّي فتيحة" امرأة بسيطة، إلا أنَّ أعوانَ السلطة –حسب المتحدثة- ظلّوا يُلاحقونها في كلّ مكان.."مشاتْ عند المدرسة جْراو عليها المقدميّة، مشات عند مدرسة أخرى مْنعوها، حْطَّات قدام السويقة قالوا لها حِيّْدي من هنا، حْطّاتْ قدّام الحمام حيّدوها، فين مّا مشات كايمنعوها، وفي الأخير جاَ المقدّم حيّد لها الطبلة وْجابها لْهنا"، تشير السيدة إلى الملحقة الإدارية السادسة. وحينَ وصلتْ طاولة "مّي فتيحة"، وهيَ مصدرُ رزقها الوحيد، إلى المُلحقة الإدارية، لمْ تجِد أمامها من خيارٍ آخرَ غيرَ اللجوء إلى استعطافِ من هُو أعلى سلطة من "المقدّميّة". وحسبَ ما قالته جارتها لهسبريس، فقدْ لجأتْ إلى استعطاف القائد، وقبّلتْ يده.. "أنَا كنْتْ حاضرة، باسْتْ لو يّدّو، وقالتْ لو رجّعو لي غير الطبلة والميزان، ويلا بغيتو الحلوى غير خْدوها"، تقول المتحدثة. لكنَّ القائد –وفق رواية الجارة- لمْ يأبَه باستعطافِ وتوسّلات "مّي فتيحة". ولأنَّ الراحلة كانتْ ترَى في فقدان طاولتها الصغيرة انقطاعَ مورد رزقها الوحيد، فقد ظلّت تنتظر القائد إلى أنْ خرج، وارتمتْ على يديه تقبّلهما وتستعطفه، وكانَ ردُّ فعله النقطةً التي أفاضت الكأس، وكانت سبب إفاضة روح "مّي فتيحة".. "ناضْ شّعل معاها بْرْبعة ديال الطرشات مْتابْعين حْتى طارْ الزيف من فوقْ راسها...". بعد هذا المشهد الذي قالت الجارة إنّها كانتْ شاهدة عليه بأمّ عينيها، أخذت الأمور منْحى آخر، فحينَ كانَ يتوارى أيُّ أمَلٍ لدى "مّي فتيحة" في استرداد طاولتها المحجوزة، موازاة مع تصاعُد الإحساس بالمهانة يتعالى في صدرها، كانَ جوابها على صفعات القائد: "إيلا ما بغيتيش تعطيني الطابلة غادي نحرق راسي"، فردَّ القائد –بحسب رواية الجارة – "سيري ديري اللي عْجْبك". وتَلا ذلكَ إقدامُ "مْخازني" على إغلاق باب الملحقة الإدارية، ثمَّ تطوّرت الأمور بسرعة. واختلطَ دويُّ الصفعات الأربع مع عبارات الاستعطاف معَ الصرخات المنبعثة من حنجرة "مّي فتيحة" وهيَ تتلوّى على قارعة الطريق والنيران تلتهمُ الجزءَ العلويّ من جسدها، لكنَّ ما لم تستوعبه جارتها هو "كيفاش هاداك المقدم اللي كانْ كايصوّرها ولاحْها في الفيسبوك باش يشوفها العالم ما يطفيش العافية اللي شاعلة فالسيدة"، وتضيف بغضب: "بغاهَا تْموت". وفي حين كان "المْقدّم" يصوّر مشهد احتراق "مّي فتيحة" من داخل الملحقة الإدارية بئر الرامي، كانَ طٌفل صغير لا يتعدّى عمره اثنتا عشرة سنة يُحاولُ جاهدا إطفاء النيران التي أشعلها وقود "الحُكْرة"، ونجحَ في تمزيق قميص الراحلة، قبْلَ أنْ يعمد شخص آخر إلى إطفاء من تبقّى من النيران، وتغطية الجسد المحترق ببطانية.. تقول الجارة: "درّي صغير فيه روح الإنسانية، والمخزن وّالو". وتتساءلُ الجارة: "عْلاش اللي ما يْطفيوش العافية اللي شغلات فيها؟ كونْ القيادة هي اللي تحرقات غادين يطفيو العافية، ولكنْ هيَ حرام واش كاين شي واحْد اللي رْحمها وْلّا عْتقها، علاش؟ حيتْ هي غير بائعة متجولة، ما عندهاش، حيتْ أرملة، حيتْ بّاها أعمى..هادا راهْ ظلم". ورغم مرور بضعة أيّام على تسليم "مّي فتيحة" الروح إلى بارئها، إلا أنَّ غصّة الفراق لازالتْ عالقة في حناجر معارفها، وساكنة بئر الرامي..وتقول جارتها وهيَ تحاول أنْ تشرحَ كمْ كان حجمُ طاولة الحلوى التي كانت تكسبُ منها الراحلة قوتَها اليومي لإعالة والدها الكفيف وابنتها: "طابلة صْغيورة قْدّ هاكا، أنا نْحشم، واخا نكون وكيل الملك، أنني نحرمها منها، ما يْمكنش.. حْرموها مْسكينة واللي دَّاو ميزانيات الدولة ومشاو بها ما هضروش معاهم...". بالنسبة للمحفوظ المحجوب، عضو تنسيقية الباعة المتجوّلين، فإنّ "سبب انتحار مي فتيحة هو القائد اللي تكرفص عليها أوهَانْها"، وتُشاطره جارتها الراحلة الرأي بقولها: "را ماشي هي اللي حْرقات راسها، هاداك اللي حيّد ليها نْصّ الطبلة فاش كانت كاترزّق الله هو اللي حرقها..القايد والمقدم اللي حيّد لها الطبلة هوما السبب".