العلاقات المغربية الروسية عرفت بداياتها الأولى سنة 1777، حسب الخارجية الروسية، التي تُوثّق لمراسلات دبلوماسية بين السلطان سيدي محمد بن عبد الله (محمد الثالث)، والإمبراطورة الروسية كاثرينا الثانية. ولكن علينا أن ننتظر سنة 1897، لتفتتح روسيا أوّل بعثة دبلوماسية لها في طنجة. ثم تعززت العلاقات بعد أول زيارة قام بها رئيس للاتحاد السوفييتي للمغرب سنة 1961 على عهد الراحل ليونيد بريجنيف، تلتها زيارة للملك الراحل الحسن الثاني إلى موسكو سنة 1966. إلاّ أن أهم محطة في العلاقات بين البلدين، تبقى هي الزيارة التي قام بها الملك محمد السادس سنة 2002 إلى موسكو والتي توجت بالتوقيع على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية. ثم جاءت زيارة الرئيس الحالي فلاديمير بوتين للدار البيضاء في شتنبر 2006 لتؤكد هذا المنحى التصاعدي في العلاقات الثنائية. وتأتي الزيارة الملكية الثانية لروسيا يومي 15 و16 مارس 2016، لتعزيز الشراكة الاستراتيجية التي تم التوقيع عليها إبّان الزيارة الأولى. وكلا الطرفين يتطلّع إلى تحقيق مكاسب جيوسياسية غير خافية في الظرفية الحالية التي يمرّ منها البلدان. فروسيا بحاجة إلى كسب مواقع جديدة في لعبة شدّ الحبل مع غَريمَيْها الأوربي والأمريكي، والمغرب من جهته يبحث عن حَليف لا يتخلى عن أصدقائه وقت الشدة، لتعزيز موقفه الدولي إزاء قضيته الأولى ولتنويع شركائه بما يرسخ مكانته كقوة إقليمية صاعدة في إفريقيا. وغنيّ عن البيان أن روسيا تطمح إلى العودة بقوة كفاعل أساسي في الساحة الدولية. ويدعمها في ذلك تَعافِي اقتصادها في العشرية الأخيرة حيث فاق الناتج الداخلي الخام 2300 مليار دولار، وتفوُّقها التكنولوجي في بعض القطاعات الإستراتيجية كصناعة الفضاء والصناعات الحربية والنووية التي تُبوّؤها المرتبة الثانية عالمياً. إضافة إلى تحكّمها في شريان الطاقة العالمي بِوصفها أول منتج وثاني مصدر للنفط، وبِحكم تربّعها على أكبر احتياطي للغاز الطبيعي في العالم، ولكونها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي يتمتّع بحق الفيتو، كل هذه العوامل وغيرها تجعلها لاعباً لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات جيوسياسية. وفي هذا المنحى، تتبنى روسياالجديدة في سياستها الخارجية إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، بديلاً عن الهيمنة الأمريكية التي طبعت رُبعَ قرنٍ الماضي الذي تلا سقوط جدار بلين. ويعتبر محور "بريكس" للدول الصاعدة أحد مرتكزات هذا التوجه الجديد لإعادة تشكيل موازين القوى الدولية، على الأقل في شقه الاقتصادي. حيث وقعت الدول الخمسة لهذا المحور، وهي الصينوالهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وروسيا، على اتفاقات للتبادل التجاري، وأخرى لإحداث بنك للاستثمار قد يُشكل على المدى المتوسط والبعيد منافساً جِدّياً للبنك الدولي الذي تتحكم فيه الولاياتالمتحدة. وقد تمكنت روسيا خلال العشرية الماضية من نَسْج تحالفات إقليمية ثنائية ومتعددة الأطراف في آسيا وأمريكا اللاتينية. من أبرزها منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي، ومنتدى شانغهاي للتعاون بالإضافة إلى كومنولث الدول المستقلة عن الاتحاد السوفييتي سابقاً. ولم تكتف بهذه التحركات، بل عزّزتها بتحالفات تكتيكية تتخذ أحياناً صبغة عسكرية مع كل من إيران الثيوقراطية، وفنزويلا البوليفاريّة، بل وحتى مع الهند التي توصف بأكبر ديمقراطيات العالم، أو باكستان التي كانت إلى الأمس القريب حليفاً حصريّاً للولايات المتحدة. ويُعتبر ضَمّ جزيرة القرم إلى روسيا، والموقف من الأزمة الأوكرانية، ثم التدخل العسكري في سورية، أهمّ معالم هذا التحول الاستراتيجي لفرض قواعد لعبة جديدة. وقد استطاع بوتين أن ينتزع اعتراف الولاياتالمتحدة من خلال الاتفاق الموقع بين وزيري خارجية البلدين في 21 فبراير الماضي حول الأزمة السورية. وفي ظلّ التوتّر القائم بين المغرب والاتحاد الأوربي على خلفية حُكم المحكمة الأوربية القاضي بمنع استيراد المنتجات القادمة من الصحراء المغربية، ستفتح السوق الروسية آفاقاً واسعة أمام صادراتنا الفلاحية لسببين رئيسين على الأقل. الأول مرتبط بالحظر الذي فرضته روسيا على المُنتجات الزراعية الأوربية التي تُقدّر بحوالي 12 مليار يورو، حسب مؤسسة الإحصاء الأوربية "أوروستات". وذلك كإجراء ردعي لمواجهة العقوبات الأوربية بسبب تداعيات الأزمة الأوكرانية. وهو الأمر الذي سيعزّز مكانة المغرب التفاوضية مع الاتحاد الأوربي. أما السبب الثاني، فمردّه إلى مقاطعة الصادرات التركية على خلفية إسقاط طائرة حربية روسية في 24 نونبر 2015. ورغم التطور الذي شهدته المبادلات التجارية بين البلدين، والتي تضاعفت 12 مرة بين سنتي 2001 و2010، لتنتقل من حوالي 200 مليون دولار إلى أزيد من 2.5 مليار دولار، فإن السوق السياحية المغربية بحاجة إلى صدمة قوية لأنها لا تستقطب أكثر من 11 ألف سائح روسي من أصل 20 مليون يقضون عطلهم خارج بلدهم. ولنا أن نَتَصوّر الدفعة التي ستعطيها هذه السوق لاستراتيجية 2020 السيّاحية إذا ما عَرف المكتب الوطني للسياحة والخطوط الملكية وفدرالية الوكالات السياحية استغلال هذه الطاقات الكامنة. وبالرجوع إلى الشراكة الاستراتيجية، يُشكل فوز شركة "غاز-بْروم" الرّوسية بصفقة محطة الغاز الطبيعي المُسال التي ستُقام بالجرف الأصفر، والتي ستعبئ 4.6 مليار دولار من الاستثمارات، قفزة نوعية في العلاقات بين الجانبين. لأنّ هذا المشروع يملك مؤهلات تُصنّفُه في خانة المشاريع الإستراتيجية. ذلك بأنه يهمّ مجالاً حيوياً هو التخزين الاستراتيجي للطاقة، والذي يطمح على المدى المتوسط والبعيد أن يُزوّد بُلدان جنوب أوربا بهذه المادة الحيوية عبر أنابيب الغاز تحت البحر المتوسط. وهو ما سَيُكمل الطّوق الذي تضربه روسيا على أوربا عبر خط "السيل الشمالي" وخط "السيل الجنوبي" الذين يَعبُران على التّوالي بحرَ البلطيق والبحر الأسود. وقد ظهرت أهمية هذا السلاح الاستراتيجي خلال أزمة 2006 بين روسيا وأوكرانيا والتي أثّرت بوضوح على أوربا وتسببت في انقطاع الإمدادات عنها. وقد يتطور التعاون الاستراتيجي بين الرباطوموسكو في هذا الميدان ليشمل تزويد غرب إفريقيا. وهو ما سيعطي للمغرب، بالإضافة إلى مشروع الميناء الطّاقي بالناظور، دوراً فاعلاً في الميدان الاستراتيجي للطاقة العالمية، رغم كونه بلداً غير مُصدّر للغاز أو النفط. ولعلّ تأخر مُوافقة المغرب على هذه الصفقة، كان أحد العوامل التي ساهمت في تأجيل الزيارة الملكية لعدة مرات منذ 2013. وفي نفس الاتجاه، يُعتبر تفضيل البحرية الملكية شراء غواصة روسية، اختراقاً لزبون ظل وفياً للسلاح الفرنسي والأمريكي. وهذا بحدّ ذاته مكسبٌ رمزيّ لفائدة الكرِمْلين. وإذا ما استطاعت موسكو إقناع الرباط باقتناء أحدِ مفاعلاتها النووية، فإنّ ذلك سيمنح امتيازاً إضافياً للرّوس على حساب المعسكر الأورو-أمريكي. ومع توقيع الاتفاق الأخير لحماية المعطيات المصنّفة بين وزارتي الدفاع في البلدين، تُصبح الطريق مُعبّدة لتعاونٍ أمني قد يرقى إلى المستوى الاستراتيجي في ظل الإشارات التي بعثها البيان المشترك بين قائدي البلدي في ختام الزيارة، والذي فتح المجال للتنسيق على كل المستويات في الحرب على الإرهاب. وعلى غرار فرنسا، طلبت روسيا من المغرب المساهمة في تكوين الأئمة الرّوس لمواجهة التطرّف في مُربّعه الأكثر خطورة، ألا وهو الجانب العقائدي من خلال التعليم الديني. ممّا يُعزّز مكانة المغرب كمرجع إسلامي وكمخاطب أساسي في الشأن الديني، بالنسبة للعالم كلّه وليس إفريقيا فحسب. ختاماً، لا شكّ أن ترجيح المغرب للكفة الرّوسية في صفقة الغاز المسال الاستراتيجية ثم صفقة التسلح والتعاون الأمني، وما قد يتلوهما لاحقاً بالنسبة للمحطة النووية والتعاون التكنولوجي، يدخل في نطاق الذكاء الاستراتيجي. وفي هذا الحقل لا مجال للمجاملات، بل تبادلٌ للمصالح الحيويّة والتزامات مُعلنة وأخرى طيَّ الكتمان. وباستقراء تشكيلة الوفد والاتفاقات الموقعة، يبدو أنّ أول باكورة لهذا التعاون الاستراتيجي لن تَقلّ عن موقف واضح يدعم وحدة المغرب وسلامة أراضيه من طنجة إلى الكويرة. ولذلك كان اختيار توقيت الزيارة الملكية ملائماً لبعث الرسائل اللازمة للجوار الإقليمي المباشر وللمنتظم الدولي عموماً، خصوصاً في ظلّ تداعيات زيارة السيد بان كي مون للجزائر وتصريحاته المناوئة للمغرب./. * الباحث في القضايا الدولية