تسع سنوات بعد توليه مهمته أمينا عاما للأمم المتحدة، فشل بان كي مون ومبعوثه الشخصي في إحياء العملية السياسية المتعثرة ووضع حد للنزاع حول الصحراء المغربية. فعندما تقلد بان كي مون مهامه على رأس الأممالمتحدة، بدَت الظروف واعدة أكثر مما كانت عليه في عهد أسلافه. فبعد أكثر من خمس عشرة سنة من الجهود الحثيثة لإقناع الأطراف المعنية بالالتزام بمخطط التسوية لسنة 1991، استنتجَ الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، أن الوقت قد حان لكي يجد ملف الصحراء حلاً سياسيا يحمي مصالح الأطراف بعيدا عن مقاربة "الرابح يأخذ كل شيء". دعوات مجلس الأمن إلى حل سياسي منذ 2007 في أبريل من العام 2007، تبنى مجلس الأمن القرار رقم 1754 الذي دعا فيه الأطراف المعنية إلى الخروج بمقترحات جديدة بغية التوصل إلى حل سياسي دائم ومتوافق عليه. لذا كان حَرياً ببان كي مون أن يتخذ من هذا القرار أرضية لإستراتيجيته في أفق وضع حد للنزاع المفتعل، خاصةً وأنه في مطلع سنة 2004، توصل مجلس الأمن إلى خلاصة مفادُها أن انفصال الصحراء بات من الخيارات المستبعدة، وهو ما تعزز بتبنيه للقرار سالف الذكر بعدما فشل جيمس بيكر مرتين في إقناع المغرب والبوليساريو بحل النزاع عبر الاستفتاء. وقد جاء تصريح المبعوث الأممي السابق إلى الصحراء، بيتر فان والسوم، في سنة 2008، منسجماً مع دعوات مجلس الأمن الأطراف المعنية إلى الخروج بحل سياسي متوافق عليه حين قال إن الحديث عن كيان مستقل في الصحراء أمر "غير واقعي". لقد تيقنَ والسوم بعد إشرافه على أربع جولات من المحادثات المباشرة بين المغرب والبوليساريو بأن السبيل نحو تحقيق تقدم في الملف رهين بضغط الأممالمتحدة للوصول إلى حل وسطي واستبعاد خيار "تقرير المصير" كآلية تقود بالضرورة إلى قيام كيان جديد بالمنطقة، بمعنى أن الحل السياسي يقتضي موافقة الأطراف المعنية، وبذلك يتجنب أي قرار قد يُلحق الخسارة بأحد الأطراف. وفي أبريل من سنة 2007، قدمت المملكة المغربية مقترح الحكم الذاتي كأساس للتوصل إلى الحل السياسي الذي دعا له قرار مجلس الأمن رقم 1754 وباقي القرارات التي أعقبته. لقد كان المقترح المغربي نسخة منقحة لمخطط الحكم الذاتي الذي جاء به المبعوث الأممي إلى الصحراء، جيمس بيكر، في مقترحيه الاثنين في سنة 2001 وسنة 2003، حيث حظيت المبادرة المغربية بإشادة مجلس الأمن الذي وصفها ب"الجادة وذات المصداقية والواقعية"، والتي يمكنها أن تشكل أساساً للتوصل إلى حل سياسي متوافق عليه. مجلس الأمن يرحب بمجهودات المغرب "الجدية وذات المصداقية" ويحيط علماً بمقترح البوليساريو في كل القرارات التي تبناها منذ سنة 2007، سجل مجلس الأمن، باهتمام كبير، مقترح الحكم الذاتي المغربي، "مُرحبا بالجهود المغربية الجادة وذات المصداقية للدفع قدما نحو حل للنزاع"، بينما "أحاط علماً" فقط بالمقترح النقيض الذي طرحته البوليساريو. ولم ترحب أي من القرارات التي تم تبنيها منذ عام 2007، وهي القرارات 1754 و1783 لسنة 2007 و1813 لسنة 2008 و1871 لسنة 2009 و1920 لسنة 2010 و1979 لسنة 2011 و2044 لسنة 2012 و2099 لسنة 2013 و2152 لسنة 2014 و2218 لسنة 2015 (لم ترحب كل هذه القرارات) بمقترح البوليساريو، ولم يصف أي واحد منها مقترحات الجبهة ب"الجدية وذات المصداقية"، أو بأنها قد تساعد على المضي قدماً للوصول إلى حل سياسي. وقد يكون أبلغ دليل على الدعم الواضح للمقترح المغربي والثقة في قدرته على تشكيل أرضية عملية لحل سياسي طال أمدهُ، هو اللغة المُستعملة في قرارات مجلس الأمن. فكل العارفين بخبايا المفاوضات التي تجري بخصوص أي قرار يتم اعتماده في الأممالمتحدة يعلمون جيدا أنه لا تُنتقى كلمة في قرار أممي إلا ولها دلالات سياسية دقيقة وذات مغزى. وقد يتطلبُ الأمر في بعض الأحيان انكباب بعثات الدول الأعضاء لساعات، وربما لأيام، على مناقشة كلمة أو عبارة في مشروع قرار. ولعل اللغة المختلفة التي استعملها مجلس الأمن في الإشارة إلى المقترح المغربي ومقترح البوليساريو، في الفقرة نفسها، لذات دلالة ومغزى كبيرين في هذا السياق. فحينما اختار مجلس الأمن أن يغير من إطار المفاوضات بين المغرب والبوليساريو، قام بذلك ليقينه باستحالة الخروج بحل عبر الاستفتاء على النحو الذي تريده الجزائر والبوليساريو. إلا أن بان كي مون لم يلتزم بالمهمة التي رسمها له مجلس الأمن، والتي تُحتم عليه مساعدة الأطراف المعنية من خلال تقريب وجهات النظر بينها بغية التوصل إلى تسوية سياسية، بل ارتأى اختيار مسار مغاير وقرر تعيين مبعوث خاص إلى الصحراء يحمل رؤية رجعية عن العالم، رؤية متشبثة بتعريف "تقرير المصير" نفسه الذي كان سائداً في ستينيات القرن الماضي. ولقد شكلت التصريحات الأخيرة لبان كي مون بالجزائر ما بين 5 و7 مارس الجاري، والتي وصف فيها سيادة المغرب على صحرائه بأنها "احتلال"، تعارضاً صارخاً مع اللغة التي لطالما اعتمدتها الأممالمتحدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث لم يأت في أي من القرارات التي أصدرتها الأممالمتحدة على مدى ست وثلاثين سنة، ذكر المغرب على أنه محتل للصحراء، بل كأحد الأطراف المعنية أساسا بالنزاع المفتعل. وعوض أن يعترف بان كي مون بإخفاقه، وهو مقبل على تسليم مشعل الأممالمتحدة لخلفه، قرر أن يسبح عكس التيار. وليس المقلق في الأمر إخفاقه ومبعوثه الشخصي في لعب الدور المنوط بهما، بل الانحياز الذي أبانا عنه لصالح البوليساريو، والذي يمكن أن يعيد مجريات النزاع عقدا من الزمن إلى الوراء ويعمق من فقدان المغرب ثقته في الأممالمتحدة ويدخل، بالتالي، النزاع في نفق مسدود. ولم يقف بان كي مون عند زلة لسانه، بل تابع الحديث بأن بعثة الأممالمتحدة إلى الصحراء، المينورسو، على أتم الاستعداد لإجراء استفتاء حول تقرير المصير. فأن يخرج الأمين العام للأمم المتحدة بهذا التصريح في تندوف، فذلك يعني صراحة أنه يتبنى مواقف البوليساريو والجزائر وبأنه عاجز عن تصور التوصل إلى تسوية دون الاستفتاء. تصريحات بان كي مون خرق صارخ لصلاحياته لا تبعث تصريحات بان كي مون على القلق فحسب، بل تحمل في طياتها خرقاً سافراً للصلاحيات التي منحها له مجلس الأمن، إذ إن دور الأمين العام في بنية الأممالمتحدة ليس سياسيا، بل إدارياً. فهو لا يضع سياسات وأولويات الهيئة الأممية، بل إن مهمته محددة في لعب دور الوسيط في النزاعات المختلفة المُدرجة على أجندة الأممالمتحدة. كما أنه يرفع التقارير الدورية في حدود المهمة التي تسطرها له مختلف مؤسسات الأممالمتحدة، وعلى رأسها مجلس الأمن. وتبعاً لأحكام ميثاق الأممالمتحدة، فإن أمينها العام هو "المسؤول الإداري الأول" الذي يجب أن يمارس صلاحياته على هذا الأساس، ويقوم بوظائف أخرى يخولها له مجلس الأمن والجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي وهيئات أممية أخرى. ومن بين الأدوار البارزة الموكولة للأمين العام للأمم المتحدة، مشاركته من خلال "مساع حميدة" في مبادرات علنية، وأخرى في الخفاء، بالاعتماد على استقلاليته وحياده وحرصه على الحيلولة دون بروز أو تفاقم أو انتشار النزاعات عبر العالم. إن تحليلاً دقيقاً لدور الأمين العام للأمم المتحدة داخل الهيئة وللتصريحات التي خرج بها بان كي مون نهاية الأسبوع الماضي في الجزائر العاصمة ومخيمات تندوف، يبين، بالملموس، أنه خرق أحكام ميثاق الأممالمتحدة الذي هو مُلزم بالامتثال لها. كما أنه خرق كل قرارات مجلس الأمن حول الصحراء منذ أبريل من سنة 2007. ويبدو أن بان كي مون قد نسي أن دوره محدود في استعمال "مساعيه الحميدة" والعمل جاهداً لإقناع الأطراف المعنية بالتوصل إلى حل وسط في انسجام مع أحكام هذه القرارات دون أن تكون له صلاحية رسم مسار الملف، حيث إن تحديد إطار المفاوضات يدخل في مهام مجلس الأمن الذي يتلخص دوره في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. إن إطار المفاوضات يرتكز على القرار رقم 1754 الذي دعا إلى حل سياسي متوافق عليه وأسدل الستار في المقابل على خيار الاستفتاء الذي دعت إليه البوليساريو والجزائر. فعندما أشار بان كي مون إلى خيار الاستفتاء، وأكد على أن المينورسو مستعدة لإجرائه، فقد أبان عن أجندة سياسية فاضحة خارقة لإطار مجلس الأمن والجمعية العامة، كما كشف عن سذاجة واضحة واستخفاف بتعقيدات ملف الصحراء وتجاوز لصلاحياته كأمين عام. فلو قام بان كي مون وفريق عمله بواجبهم على الوجه الأمثل، لخلصوا إلى أن آفاق إجراء الاستفتاء كانت مستحيلة منذ اليوم الأول، وذلك بسبب فشل مجلس الأمن في الأخذ بتحفظات المغرب والبوليساريو تجاه مخطط التسوية لسنة 1991. ولعل الملاحِظُ لصيغة حديث بان كي مون عن الاستفتاء الأسبوع الماضي قد يظُن أن المشكل تقني بالأساس. وفي هذا الصدد، ذكرت آنا ثيوفيلوبولو، التي اشتغلت مساعدة لجيمس بيكر حينما كان مبعوثاً شخصياً للأمين العام للأمم المتحدة للصحراء ما بين سنة 1997 و2004، في تحليل نُشر لها سنة 2006، أن السبب الرئيسي في إخفاق الأممالمتحدة في حل النزاع هو مقاربة المشكل من زاوية تقنية دون الأخذ بعين الاعتبار جانبه السياسي المتعلق بإصرار كل من المغرب والبوليساريو على كسب الاستفتاء. وفي هذا السياق، تقول ثيوفيلوبولو في تحليلها: "حاولت الأممالمتحدة خلال مراحل معالجة الملف أن تخرج من المأزق الذي أوجدته الأطراف، وذلك عبر حلول تقنية عالجت المشكل المطروح دون التطرق للمشكل السياسي الأساسي المتمثل في إصرار الطرفين على كسب الاستفتاء". وعندما أعاد بان كي مون إشكالية الاستفتاء إلى الواجهة، كانت تراودهُ الأفكار نفسها التي عبّر عنها مجلس الأمن من قبل حين قرر أن يتبنى مخطط التسوية في سنة 1991 وغض الطرف عن تحفظات الأطراف المعنية على أمل التوصل إلى تسوية، بينما يتمثَل المشكل الأساسي والمفصلي في تحديد هوية المصوتين في الاستفتاء، وهو ما استعصت معه تسوية النزاع. كما أن وساطة بان كي مون تُحتم عليه أن يبقى محايداً وأن يستعمل لغة دبلوماسية وأن يحجم عن استعمال أي عبارات أو اتخاذ أي خطوات أو مواقف خارج العُرف الأممي. فباستعماله مصطلح "الاحتلال" وتبنيه لغة طرف معين، يكون بان كي مون قد دق آخر مسمار في نعش نزاهته وحياده، وكفى بالتاريخ شاهداً أن أياً من وثائق الأممالمتحدة الصادرة منذ سنة 1980 لم تصف المغرب كدولة "محتلة" للصحراء. ولعلَ المثير للدهشة والاستغراب فيما نطق به لسان بان كي مون، هو أنه لم يستعمل أبدا مصطلح "الاحتلال" حينما يتطرق للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، رغم أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية (منذ حرب الستة أيام في يونيو 1967) حاضر في وثائق أممية لا حصر لها، وهي الوثائق التي تصنف إسرائيل على أنها "القوة القائمة بالاحتلال". والشيء نفسه ينطبق على سوريا، إذ على الرغم من أن مواثيق الأممالمتحدة كانت منذ بداية الأزمة السورية داعمةً للمعارضة، إلا أن بان كي مون قرر التشبث بحياده، ولم يستعمل أبداً عبارات من قبيل "النظام السوري" أو "نظام الأسد" كلما أتى على ذكر سوريا. وتبقى إشارة النصر التي لوح بها بان كي مون أثناء تواجده في مخيمات تندوف أسوأ ما أقدم عليه، إذ في ذلك دلالة على تحيزه ومبعوثه إلى طرف معين، وهو ما قد يفسر سبب إبقائه على كريستوفر روس حتى بعدما سحب المغرب ثقته فيه في سنة 2012. لقد اختار الأمين العام للأمم المتحدة، بتصريحاته المسايرة لأطروحة البوليساريو، أن يتعمد تجاهل وضعية حقوق الإنسان في مخيمات تندوف. ويكفي أن منظمة "هيومن رايتس واتش" دعته، عشية زيارته إلى مخيمات العار، إلى التدخل للإفراج عن النساء الصحراويات الثلاث الحاملات للجنسية الإسبانية، مالوما موراليس دوماتوس وداريا مبارك سلمى ونجيبة محمد، واللواتي تم احتجازهن في مخيمات تندوف رغماً عنهن حيث كن قادمات في زيارة لعائلاتهن. ولم يعر أحد أي اهتمام لقضية مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، المدير السابق لشرطة البوليساريو، الذي سُجن ثم أُبعد عن مخيمات تندوف بعد تصريحه في شهر غشت من العام 2010 بأن مقترح الحكم الذاتي المغربي قد يشكل أساساً لحل سياسي. وقد ظل مصطفى سلمى مقيماً طيلة السنوات الخمس الماضية بموريتانيا حيث حُرم من حقه في التمتع بصفة لاجئ ومن زيارة عائلته. ولا تنسى الذاكرة ما حصل عندما تبنى مجلس الأمن القرار رقم 2218 في أبريل من سنة 2015، والذي دعا فيه إلى إجراء إحصاء للسكان في مخيمات تندوف. وقد أحجم الأمين العام للأمم المتحدة عن مناقشة الموضوع في مباحثاته مع قادة البوليساريو والجزائر. وزاد بان كي مون الطين بلة حينما أعلن عن عزمه على الدعوة إلى مؤتمر للمانحين بهدف توفير الدعم المالي للبوليساريو، وتجاهل، عمداً، التقارير التي نشرتها هيئات أممية وأوروبية، والتي أثبتت تورط البوليساريو وعرابتها الجزائر في جريمة التلاعب بالمساعدات الإنسانية الموجهة لساكني مخيمات تندوف على مر العقود الأربعة الماضية. إن تصريحات بان كي مون الأخيرة لا تعبّر عن "الشجاعة"، بل هي دليل على أنه لم يؤد مهمته بالشكل المطلوب لمساعدة الأطراف المعنية على التوصل إلى حل سياسي. فلو كان يمتلك الشجاعة وبعد النظر والقيادة الكافية، لاستطاع تقريب وجهات النظر بين الأطراف والعمل في نطاق صلاحياته على مساعدتهم على التوصل إلى الحل السياسي المأمول. وبما أنه يقضي سنته الأخيرة على رأس الأممالمتحدة، فيبدو أن بان كي مون أوهم نفسه أنه حر في التعبير عن آرائه دون إعارة أدنى احترام للعرف الدبلوماسي ولإطار مهمته. ولعلَ الدبلوماسي الكوري في حاجة للتذكير بأنه ما دام يجلس على كرسي الأمانة العامة للأمم المتحدة، فمن واجبه أن يعمل ضمن صلاحياته، وأن يستعمل اللغة الدبلوماسية، ويكُف عن التحيز لطرف معين في أي من النزاعات التي تستلزم تدخل الأممالمتحدة. وتبقى تصريحات بان كي مون إبان زيارته إلى المنطقة مؤشراً دالاً على أن هدفه سياسي محض بعيداً عن أي مبادرة لوضع حد للنزاع. فلا عجب إذن أن لا تحمل فترة ولايتيه الاثنتين على رأس الأممالمتحدة أي تقدم يُذكر في ملف الصحراء. فقد يخرج نزاع الصحراء في يوم من الأيام من عتمة نفقه المسدود إذا أتى على رأس الأممالمتحدة أمين عام جيد الاطلاع والإلمام بالتعقيدات الجيوسياسية للمنطقة، وإذا توفرت له من الشجاعة والقيادة ما يمَكن نزاع الصحراء من الوصول إلى بر الأمان من خلال حل سياسي يحفظ أمن وتوازن المنطقة. *مستشار دبلوماسي ورئيس تحرير Morocco World News