استفحلت قضية الأساتذة المتدربين ونحن نشهد الشهر الثالث للمقاطعة الوطنية الشاملة. فبات الحديث عن إسقاط المرسومين مسألة مُشْكَلَةً لم تعد تستدعي رأي نساء ورجال التعليم فقط، وإنما أضحت مدار حديث كل متتبع للحراك الاجتماعي في المغرب. لماذا نربط قضية الأساتذة المتدربين بالمجتمع؟ يتعلق الأمر في مقاربة هذا السؤال، بأمر أشرنا إليه في سياق سابق، يتعلق بكون المدخل القانوني أضعف ما يكون عن معالجة إشكالية سياسية واجتماعية لفئة التربية والتعليم. وليس تبجّح الحكومة بسلامة المساطر المؤثثة لوضع المرسومين سوى من باب جعل سطحية النص القانوني صماء، وتصيير محتوى مضمونه أجوفاً. لذلك، ارتأى هذا الحراك الأستاذي أنْ يكون مرحلة فاصلة بين زمن استصغار قدر نساء ورجال التربية، ومرحلة ستعيد إليهم دورهم الطلائعي كمحركين، من جديد، لنشاط القواعد الاجتماعية بمختلف فئاتها، قصد الدفاع عن حقوقها المكتسبة. أربك الحراك الأستاذي حسابات الحكومة المسؤولة عن هذه الأزمة، وتَرَكَ على مسارها أثراً شديد السواد ينمُّ عن عمق مأساة فئة نساء ورجال التعليم. ولم يبق من حل، بعد خطاب التعنت والمغالطات، سوى أنْ يُعبّرَ المسؤولون عن افتقادهم إلى كل جواب مُقنع، وإلى كل حكمة لتدارك الموقف، حتى بلغت بهم الجهالة أنْ جهلوا فوق جَهلِ جُهّالِهم إبان الخميس الأسود (= 7 يناير). يعتاص على كل امرئ سليم الفطرة إنكار فظاعة ما أتت به قوى القمع المخزنية من جرائم بشعة في حق الأساتذة المتدربين كل بقاع المغرب، ولا يصحّ لدى العاقل كل تبرير (= تزييف) أتى على لسان مسؤولين هنا وهناك، إلا أنْ يكون عربون جُبن حكومي أمام مسؤولية حادثة وقع ضحيتها مجموعة مواطنين يمثلون التعليم في أرقى تجلياته، ويرفض رئيس الحكومة، ووزير الداخلية أن يتحملا مسؤولية ما جر! لذلك، من المهم جدا الانتباه إلى أنّ ما بلغته المعركة إلى حدود الساعة ليس يدل عليه سوى تمنّع المسوؤلين عن الاعتراف بالضغط الكبير الواقع عليهم من جهات عدة، ولا نعجب إنْ تحوّلت قضية الأساتذة المتدربين إلى حراك اجتماعي واسع، تنخرط فيه فئات أخرى، خصوص بعد أسابيع القمع الأخيرة. أما إذا فسحنا مجالا أرحب للغباوة، فصدّقنا -فرضاً- أننا أمام معركة تدق طبولها جهات أخرى، كان الرد على ذلك: أنّ التنسيقية الوطنية، التي تستمد مشروعيتها من القواعد الجماهيرية الأستاذية بمختلف المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، لا تُعبّر عن موقف أو توجه أي جهة ما، أو تنظيم ما، كما تحاول نظرية المؤامرة، في حلّتها العجيبة مع الحكومة، أن تقول. وحتى لو حصل القبول -جدلا- بتدخل جهات وتنظيمات لتعزيز صفوف الأساتذة المتدربين في هذه المعركة، فإنّه سيكون من واجبنا كنساء ورجال التعليم أنْ نقدّم لهم خالص الشكر والامتنان على إيمانهم بعدالة قضيتنا بالأساس، وهو الأمر الذي لن نمنعه ما دام يصب في اتجاه إسقاط المرسومين وإعادة الاعتبار للأستاذ أولا وأخيرا. إننا نؤكد دوما على مسألة كون هذين المرسومين أقرب ما يكونان إلى ضرب فئة عريضة من المجتمع المغربي، منه إلى ضرب أسرة التربية والتعليم بالأساس؛ ونعلل ذلك اليوم بما يتوافد على كل السادة الأساتذة المتدربين من أشكال الدعم المعنوي من لدن فئات مختلفة من شرائح المجتمع، وهو ما يدعو إلى التوحيد أكثر في وجه الممارسات الجديدة للوزارة الوصية بغرض نسف الحراك من الداخل. لن نتمكن من مواجهة هذه الأشكال الماكرة من الضغط على القواعد الأستاذية بالمراكز الجهوية لمهن التربية بالمغرب، إلا بأمرين اثنين: أولهما، توسيع مدارك الملف المطلبي ليتحول إلى موضوع رأي عام شاسع تُستدمج فيه الهيئات الحقوقية بالمغرب وخارجه. وثانيهما، تنظيم لقاءات علمية وحقوقية واسعة ينشطها الأساتذة المتدربون أنفسهم، ويُعرِّفون من خلالها بقضيتهم من زاوية أكاديمية محضة تترفّع عن كل مزايدة سياسوية أو كاريزمية كيفما كانت. لم يتبق أمام الحكومة سوى حلين اثنين هما: أولا، تجنيد عدد أكبر من رجال الأمن استعدادا للتصعيد الذي أجمع عليه الأساتذة المتدربون؛ وثانيا، تجنيد فيالق من الرويبضة (= من لا همّة لهم) للتأثير على بعض "المؤلفة قلوبهم"، والمتدبدبة آراؤهم بين قبول المرسومين والرغبة في إسقاطهما. لهذا الغرض، ندعو كافة الجماهير إلى تجنّب كافة أشكال القذف المجانية للأساتذة المتدربين الذين ليست لهم قناعة راسخة لمتابعة المعركة إلى الآخر، والذين تغيبوا منذ انطلاق المقاطعة الشاملة للتكوين... تجب الدعوة إلى كل هذا من باب ترسيخ قيم التعاون بين الجميع، وتقريب حقيقة القضية، وإشعار الجميع بأهمية الجميع بما يحفظ للجميع مكانتهم بين زملائهم. بإغلاق هذه الثغرة فقط، ستنغلق سبل المشوشين. لم تتنزّل قضية التربية والتعليم المكانة الهامة التي ينبغي أن تتبوّأها في دولة كالمغرب، ولا تزال المزايدات بين النقابات والمتدخلين في هذا الشأن توطّد صور انحطاط القطاع، لتستغل الدولة هذا الوضع الرديء لصالحها في استصدار قرارات ومراسيم أبرزها هذا الذي يسعى إلى حرمان أجيال من الحق في الوظيفة العمومية، في أفق ضرب المدرسة العمومية أيضا، لصالح المستثمرين في القطاع التعليمي الخاص. كل هذه الاستنتاجات، ما هي إلا بصيص مما هو آت في القريب: يسحب من أسرة التعليم هيبتها ومكانتها، ويُشغلها عن الهم المعرفي والتوعوي بأشكال الضرب في مكتسباتها الاجتماعية والسياسية، ويبقى المدرّس المدان الأوّل في هذا السيناريو الخبيث الذي تنتهجه الجهات المسؤولة والفاعلة والمؤثرة في هذا القطاع. يستمد موقف الجماهير الأستاذية مشروعيته من إجماعه العام حول المضمون السلبي للمرسومين، وكذا الوعي بما ستؤول إليه الأمور إذا سمحنا بتمريره. في رفضنا للمرسومين رفضٌ لإهانة المؤسسة التي تخرجنا منها، وحمّلتنا أوزار شواهد عليا، ورفضٌ أيضا لاستصغار قدر وكفاءة مؤسسات التكوين التي نجحنا في ولوجها، وآمنّا بجودتها، وأهميتها، وقيمة أطرها. هذا علاوة على تنديدنا بما تخطط له الحكومة في مشاريعها المستقبلية التي بدأت بوادرها تلوح في الأفق، وعلى رأسها التخلص من مسؤولية التربية والتعليم لصالح جهات خاصة، مما سيضع فئة عريضة من الشعب المغربي أمام واقع صعب في سياق المشاكل الاجتماعية الأخرى التي يتخبط فيها (قروض السكن، غلاء المعيشة...). شاءت الأقدار أنْ يكون جيلنا هذا ابن هذه المرحلة، وحامل مشعلها، ومنقذ الأجيال اللاحقة من كارثة حقيقية ستحل بالتعليم. بذلك، صار لزاما على جميع من ينتمون إلى هذا الفوج (2015-2016م)، أنْ يعوا أهمية هذه المحطة تاريخيا، بالإعلان عن مواقفهم صراحة ودون حياد سلبي، خصوصا وأنَّنا قد وصلنا الآن إلى محطة يستحيل فيها الرجوع عن هذا الأمر؛ فإما إدراك المبتغى، وإما أنْ نهلك دون ذلك. مْضَى إرادَتَهُ فَسَوْفَ لَهُ قَدٌ == واستَقرَبَ الأقصَى فَثَمّ لهُ هُنَا يَجِدُ الحَديدَ على بَضاضةِ جِلْدِهِ == ثَوْباً أخَفَّ مِنَ الحَريرِ وألْيَنا (أبو الطيب المتنبي). *أستاذ متدرب بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين ابن رشد-مراكش.