أبْدى المعتقلُ السلفيُّ السابق على خلفيّة "أحداث 16 ماي" التي هزّت الدارالبيضاء سنة 2003، محمد رفيقي، المعروف ب"أبو حفص"، موقفاً يُضاهي موقفَ "الحداثيين" إزاءَ مسألة حريّة المعتقد، حتّى إنّ عددا من الحاضرين في ندوةٍ نظمها "بيْت الحكمة"، اليوم الثلاثاء بالرباط، عبّروا عن اندهاشهم، معتبرين أنّها تكادُ تشابه مواقف الناشط الحقوقي أحمد عصيد، ذي التوجّه العلماني، الذي كانَ الطرفَ الثاني المشارك في الندوة. حرية المعتقد أبو حفص استهلَّ مداخلته بالتأكيد على اتفاقه مع أحمد عصيد في ما يتعلّقُ بتوظيف الأنظمة الحاكمة بالمنطقة للدّين في السياسة. وفيما قالَ عصيد إنَّ بناءَ دولٍ حديثة وديمقراطية يقتضي إبعادَ الدّين عن المجال السياسي، قالَ أبو حفص: "هذا فصْل موضوعي، وأنا أؤمن بهذا الأمر وأعتقدُ بهذا"، مؤكّدا أنّه بحثَ في الموضوع انطلاقا من طرح سؤال: "هل حرّية المعتقد كمفهوم حداثي علماني معارض للدّين؟". هذا السؤال كانَ يولّدُ لدى المعتقل السلفيِّ السابق شعورا داخليا موسوما بالتناقض، لأنَّ أغلبية النظريات الفقهية الإسلامية، والمنظومة الدينية التي يشتغلُ فيها، معارضة لحرية المعتقد، وهُوَ ما ولّدَ لديه رغبة في تعميق البحث في هذا الموضوع، ليخلُصَ في النهاية إلى أنَّ "الدين الإسلامي الذي يرفع شعار الحرية، وإنقاذ البشر من الأوهام وتحرير العقول من الخرافات والأباطيل التي سيطرت عليها قبل مجيئه، لا يُمكنُ أن يُكره الناس على اعتناق دين مُعَيَّن أو فكر مُعين". واسترسل أبو حفص أنه عادَ في رحلة بحثه إلى الدّين الأصل (القرآن الكريم)، فوجدَ أنّ هناك "نوعا من التناقض" بين آراء الفقهاء، أو "الدّين التاريخي" كما سمّاه، وبيْن ما هو موجود في القرآن. "ففي الدّين الأصل عبارات صريحة لا غبار عليها ولا تحتمل أي تأويل (النصوص المُحْكَمة)، على عكس ما استندَ عليه الآخرون لتعزيز طروحاتهم، وهي نصوص تاريخية لها تنزيلات وتأويلات مختلفة"، يقول أبو حفص. وشدّد المتحدث على ضرورة التفريق بين الدين الأصل و"الدين التاريخي"، الذي تأسس على مرّ العصور متأثرا بالأوضاع الاجتماعية والسياسية التي وسمتْ تاريخ المجتمعات الإسلامية، وما شابَ الحقب التاريخية للإسلام من صراعات سياسية، بينما الدّين الأصل، أو الدّين المؤسِّس، هو الذي جاءَ به القرآن، ما عدا ذلك -يردف أبو حفص- هو تأويلات مرتبطة بسياقات اجتماعية وسياسية معيّنة، مضيفا: "حين بحثتُ وجدت تناقضا كبيرا جدّا بين المنظومة الفقهية وما تفرزه، وبين ما جاءَ به القرآن". واعتبر أبو حفض أنّ حرّية المعتقد برزَت كمشكل كبير منذ العصر الأوّل للإسلام، إذ جرى توظيف الإسلام، الذي جاءَ بمبادئ تختلفُ جذريّا عمّا كانَ سائدا قبل مجيئه، في السياسة، وبرزَ ذلك بشكل أكبر في عهد دولة بني أميّة، إذ حصلت انتكاسة سياسية كبرى على مستوى الحُكم، فوقعت انتكاسة في مفهوم الحرية، وفي المفاهيم الأصلية في القرآن، مشيرا في هذا السياق إلى مبدأ "الجبْر"، الذي يقول به أهل العقائد والملل والنّحل، والذي اعتبر أبو حفص أنَّ البعض يعتقد أنه مبدأ عقَدي محض، في حين أنّه مبدأ سياسي، على حدّ تعبيره. لا إكراه في الدّين وبخلافِ موقف غالبية الفقهاء المسلمين المعارضين لمبدأ حرية المعتقد، دافعَ أبو حفْص بقوّة عن هذا المبدأ، وعن حقّ الإنسان في اتباع ما هو مقتنع به، انطلاقا ممّا ينصّ عليه القرآن الكريم في آية "لا إكراه في الدّين". وقالَ المتحدّث إنّ هذه الآية صريحة وغيرُ منسوخة، وتعني أنَّ طبيعة الإنسان التي جُبل عليها هي الحرّية وعدمُ قبول أن يكونَ مُكرها على اتّباع دينٍ معيّن. وأبْدى أبو حفْص مُعارضته لتفسير الآية على أنّها تعني عدمَ إكراه غير المسلمين، فقط، على اعتناق الإسلام، قائلا إنّها تشمل حتّى المسلمين، وتفيد بأنّ الإنسان مسؤول عن نفسه في أن يعتقد بما يريد. وذهب أبو حفص إلى القول إنَّ إحدى "أكبر الجرائم" التي يمكن أن تمارسها السلطة، أو المجتمع، هي إكراه الناس على اتباع دين معيّن، لأنّ ذلك يؤدّي إلى التوتّر ويُضيّع السلام وتماسك المجتمع، ويعرقل التنمية، متسائلا: "لماذا نُكره الناس على الدّين الإسلامي؟ هل الله محتاج لهؤلاء العباد ليكونوا قائمين على دينه؟ وهل الإسلام ضعيف إلى هذا الحدّ الذي يجعلنا نُكره الناس على اتّباعه؟ ..هذا يعني أنَّ الدّين عاجز بما يقدّمه عن الإقناع، وحينَ تعجز عن الإقناع تلجأ إلى العنف والإكراه، والإسلام لا يحتاج لذلك، فلماذا نُكره الناس على أن يعتقدوا به؟". أبو حفص أوضح أنَّ القرآن الكريم جاءَ بنصوص شرعيّة تتضمّن الجزاءَ والعقاب، ووقفَ عندَ هذه النقطة ليُشيرَ إلى أنّه من غير المنطقيِّ أنْ يكونَ هناك جزاءٌ وعقاب دون أن يكون الإنسان حُرّا، معتبرا أن إجبار الناس على اعتناق دين معين، وجعلهم على نمط واحد، هو "قتل للمسؤولية والوعي، ويُنتج جيلا من المنافقين، بينما المسؤولية الدينيّة تنحصرُ بين العبد وربه، ولا تهُمّ الدولة ولا السلطة ولا المجتمع"، على حدّ تعبيره، مستدلّا بالآية القرآنية (إنْ كُلُّ مَن في السماوات والأرض إلا آت الرحمان عبدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا". أفعالُ "داعش" من القرآن وعادَ أبو حفْص ليؤكّدَ ما سبق أن صرّح به في ندوة قبل أيام، حينَ قالَ إنَّ الأعمال التي يقترفها تنظيم "داعش"، باسم الإسلام، هي فعلا موجودة في القرآن، ففيما يبذل المسلمون جهودا لتبرئة دينهم من الأعمال الإجرامية التي يقترفها أتباع "أبو بكر البغدادي"، ويقولون إنّها لا تمتّ للإسلام بصلة، قال أبو حفص إنّ جُزءًا من هذه الأعمال موجود فعلا في القرآن، لكنّه شدّدَ على أنّها جاءتْ في سياقٍ تاريخيّ مُعيّن باتَ اليوم مُتجاوزا. ففي ما يتعلّق ب"الجزية"، أوضح المتحدّث أنّه نظامٌ كانَ سائدا قبل مجيء الإسلام، وكانَ عُرفا "دوليّا" وقتذاك، وحينَ جاء الإسلامُ عَملوا به، حيثُ يدفعُ أهل الذمّة (أهل الكتاب) الجزية للمسلمين لقاءَ حمايتهم في المناطق التي يحكمونها. وفسّر أبوحفص ذلك بكون الدول وقتذاك كانت دولا دينية، "ولا يُتصوّر حتى عند غير المسلمين أنْ يضمّ جيشٌ واحد أتباع ديانات متعدّدة، لذلك يدفع أهل الذمة الجزية لأنهم لا يشاركون في الحروب. وقد استُثني من ذلك الأطفال والنساء لعدم قدرتهم على القتال". وأكّد المتحدّث أنّ نظامَ الجزية الذي كانَ معمولا به في ذلك العصر، والذي أحياه تنظيم "داعش"، أصبح اليوم "متجاوزا"، لأنّ الأسباب تغيّرت، وأضحت الجيوش تضمّ أتباع ديانات مختلفة، "ولم يعد ممكنا الحديث عن الدولة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية"، يقول أبو حفص. وبخصوص مسألة الردّة، قالَ الشيخ السلفي إنَّ حديثَ "من بدّل دينه فاقتلوه"، الوارد في صحيح البخاري، لا يُمْكن تأويله على أنَّ المرتدَّ عن الدين يجبُ قتله، لأنّ نصوص السنّة لا يُمكن أن تتعارض مع ما جاء به القرآن، الذي نصّ على حرّية العقيدة. وأوضح أبو حفص أنَّ أفعالَ الرسول ليست كلها تشريع، "فهو يتصرف أحيانا كقائد سياسي للدولة، وبالتالي لا يُمكن أن تصيرَ كلّ الأحكام صالحة لكلّ زمان ومكان"، موضحا أنَّ الردّة عن الإسلام في ذلك العصر تختلف عن الردّة في العصر الحالي، لأنّ من يخرج من الإسلام حينذئذ يعني انضمامه إلى جيش آخر، "بينما اليوم نتحدّث عن الردّة الفكرية"، على حدّ تعبيره.