"من بَدّل دينه فاقتلوه". هذا هو الحديث المعتمد منذ قرون للحكم بالقتل على من ترك دينه؛ ولكننا عندما نعود إلى طبيعة هذا الحديث نجده يدخل في أحاديث الآحاد؛ وحسب الإمام الأكبر محمود شلتوت فإن "كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدم" (ص: 252)؛ وإذا كان الكثير من الذين يتشبثون بهذا الحديث يستندون في ذلك إلى كونه جاء مروياً عن ابن عباس وأنه ورد في الكتب الصحيحة، فإن المعلوم أيضاً أن ابن عباس لم يرْوِ هذا الحديث مباشرة عن الرسول، بل نقله عن غيره، إذ للتذكير فقط أن النبي (ص) تُوفي وفي عمر ابن عباس ما بين السابعة (07) والثالثة عشرة (13) سنة؛ بمعنى أن الراوي لم يكن قد وصل بعد سن النضج، في حياة الرسول، لكي يروي عنه مباشرة ؛ ومن الثابت أن من شروط حجية الرواية في الإسلام النضج والعقل والبلوغ. وإذا كان العلماء قد تناولوا هذا الحديث بالدراسة والتمحيص، وأكد جمهور منهم على أن به أثراً من شريعة اليهود التي تنص بدورها على قتل المرتد، فإن التساؤل الذي ظل مطروحاً هو: هل يتعلق الأمر هنا بالمسلم الذي بدل دينه أم أن الأمر يتعلق أيضاً بغير المسلمين، كأن يشمل -كما تساءل الإمام الأكبر محمود شلتوت- "من تنصر بعد أن كان يهودياً مثلاً؟". إن الحديث هنا لا يُقدم لنا تدقيقاً فيمن هو المقصود، بالرغم من ميل عدد من العلماء إلى التأويل الأول. ومع ذلك فإن الإشكال الأكبر يظل هو ذاك الذي يجعل لهذا الحديث قوة أكبر من النصوص القرآنية نفسها. إذ في الوقت الذي يؤكد فيه القرآن الكريم على أنه "لا إكراه في الدين" (القرة: 205)، ولا إكراه على الإيمان: "أفأنت تُكره الناسَ حتى يكونوا مؤْمنين" (يونس: 99)؛ وأن وظيفة الرسول الأساسية هي البلاغ وليس الحساب: "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" (الرعد: 40)، وأنه لا سلطان لأحد على أحد في الدين: "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" (الغاشية: 21-22)؛ وأن حرية الإيمان أو الكفر ترتبط بمشيئة الفرد: " فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"(الكهف: 29) بل وأن الرسول نفسه ليست لديه السلطة على أن يهدي من يحب :"إنك لا تهدي من أحببت" (القصص: 56)؛ إلخ. في هذا الظرف بالذات نجد توجهاً كبيراً يدعو للتّشدُّد والأخذ بهذا الحديث الذي لم يرْوِه غير ابن عباس، جاعلاً من القرآن الكريم الذي يؤكد على حرية الاعتقاد في الدرجة الثانية أو محاولاً أن يُقدم قراءات توفيقية غير مقنعة.
2- تطور مفهوم الردة
وبطبيعة الحال فإن مفهوم الردة عند الفقهاء والجماعات الدينية يختلف حسب الحوادث وحسب الأزمنة؛ فهو قد يتحدد بوصفه موقفاً سياسياً أو موقفاً فكرياً أو خروجاً من الإسلام واعتناقاً لديانة جديدة، كما قد يكون ادعاء للألوهية وللنبوة أو إشراكاً بالله، بما في ذلك الاستغاثة إلى الأولياء والتضرع إليهم، أو قد يكون توقفاً عن القيام بالفرائض الدينية، أوسباً لله عز جل وللدين وللرسول أو إلحاداً؛ وفي العصر الحديث أُضيف التجنيس الذي اعتُبر شكلاً من أشكال الموالاة للأعداء، أو أيضاً الانتقال من البلاد الإسلامية إلى البلاد غير الإسلامية للإقامة والذي اعتُبر نوعاً من أنواع الانتقال إلى "دار الحرب". وبطبيعة الحال فإن حكم المرتد لدى المذاهب الكبيرة كالمالكية والأحناف هو القتل بالإضافة إلى تطليق الزوجة من المرتد وحرمانه من الإرث وحرمانه من صلاة الجنازة عليه وعدم دفنه في مقابر المسلمين وحرمان أبنائه من الإرث الذي تركه لهم. واستناداً إلى مفهوم القوامة الإسلامية التي اختزلها عدد من الفقهاء في سلبية المرأة وتبعيتها للرجل في كل شيء فقد تم تحريم زواج المسلمة من غير المسلم على اعتبار أن الزواج بهذا الأخير سيؤدي لا محالة إلى تبعية الزوجة لزوجها في الكفر وفي ارتدادها عن دينها الأصلي. والملاحظ أنه في الوقت الذي يتم فيه التساهل في بعض ممارسات الردة (أو ما اعتُبر كذلك في سياقات خاصة): سب الدين، وسب الرب، والتهاون أو عدم القيام بالفرائض الدينية الواجبة كالصلاة والصوم والزكاة إلخ، أو الشرك والاستغاثة بالأولياء والتبرك بهم، أو التجنيس الذي أُثير حوله الكثير من النقاش الصاخب لما بدأت الدول الغربية في منح الجنسية للمسلمين المهاجرين إلخ، فإن ممارسات أخرى ظلت تثير حفائظ الكثير من التيارات الدينية وتطالب لذلك بتطبيق "حد الردة"، وعلى رأس هذه الممارسات إعلان الشخص عن موقف عقدي كالخروج من الإسلام والدخول في دين آخر، أو إعلانه عن موقف فكري كالتشكيك في الأسس الشرعية لدولة الخلافة، أو إعلانه عن موقف سياسي كالقول بالدولة المدنيةوالعلمانية. وظلت المواقف الفكرية هي الأكثر إثارة للجدل من المواقف العقدية التي نجد أحكامها في المظان التقليدية. فقد اتُّهم –مثلا- العالم والفقيه علي عبد الرزاق بالمروق عن الدين عندما ألف كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وأنكر فيه أن يكون الرسول قد جاء بمشروع دولة؛ إذ بالنسبة إليه أن محمداً ابن عبد الله بعثه الله رسولاً وليس ملكاً أو سلطاناً؛ فاتهم بكونه طعن في أصل من أصول الدين الإسلامي؛ كما اتُّهم طه حسين بالردة عندما أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي"؛ وهو الكتاب الذي أبرز فيه العلاقة العضوية بين تطور التفاسير التي أُعطيت للقرآن الكريم وبين المكانة التي احتلها الشعر الجاهلي في توجيه التأويل؛ وإلى جانب هؤلاء اتُّهم كتّاب ومبدعون كثيرون من أمثال صادق جلال العظم (الذي حُكم عليه بالإعدام وهرب إلى أوروبا)، وعباس محمود العقاد، وفرج فودة (الذي تم اغتياله) ونجيب محفوظ ( كانت هناك محاولة لاغتياله نجا منها) ونصر حامد أبو زيد (الذي حوكم وحاول بعض الإسلاميين تفريقه عن زوجته، فهاجر إلى هولاندا) إلخ. وأما بالنسبة للسياسيين فيمكن لنا أن نذكر كمال أتاتورك الذي اتّهم بالردة لكونه أعلن إنهاء الخلافة الإسلامية وأسس الدولة التركية العلمانية؛ وفي منطقة المغرب الكبير اتُّهم الحبيب بورقيبة بالإلحاد وخروجه عن الإسلام لكونه منع تعدد النساء وأفتى للشبابالعامل بأكل رمضان والصوم في مرحلة التقاعد؛ واعتُبر أنور السادات مرتداً لزيارته إلى إسرائيل (والذي انتهى باغتياله من طرف جماعة التكفير والهجرة)؛ كما اتجهت الكثير من الجماعات الدينية في مسار اتهام كل الحكام المسلمين بالردة لكونهم لا يطبقون الشريعة الإسلامية. وفي مراحل تاريخية محددة اعتُبرت كل التوجهات الفكرية والسياسية الماركسية والشيوعية والعلمانية خارجة عن الإسلام.
3- مفهوم الردة بين كونه اختياراً عقدياً وفكرياً وبين كونه موقفاً حربياً
لقد حاول الأستاذ مصطفى بنحمزة أن يُقدم قراءته لمفهوم الردة في الإسلام، معتبراً الأخيرة فعلاً حربياً وليس فقط فعلاً اعتقادياً وفكرياً؛ لقد قال في هذا الصدد:
"أما بخصوص تكييف فعل الردة في الإسلام، فإنه غير منظور إليه إطلاقا، وبكل تأكيد على أنه قضية تغيير اعتقاد، لأن الأصل الحاكم في الموضوع هو قول الله تعالى: (لا إكراه في الدين)؛ لكن الإسلام الذي واجه منذ زمن مبكر حركة ردة مفتعلة، استعملت أسلوبا في المواجهة وفي منع الناس من الإقبال على الإسلام، كان له حس سياسي واقعي تجاوز به اعتبار الردة ممارسة لاختيار فكري، وتفطن به إلى أنه مندرج ضمن موقف الصراع والمواجهة".
ولكن الإشكالية التي لم يتمكن فقيهنا من حلها هي أنه خلط هنا بشكل واضح بين الردّة بوصفها فعلاً يخص القناعة الفردية للأشخاص وبين جريمة ارتكاب الفعل الحربي ضد الأمة؛ وهما أمران مختلفان تماماً؛ إذ أن الفعل الأول (تبديل الدين) يرتبط أساساً بقناعة وموقف شخصيَّيْن ولا يمسان بسوء ظاهرٍ جماعة الأمة من قريب أو من بعيد؛ أما الفعل الثاني (الخيانة العظمى) فيرتبط بفعل تُجرم عليه كل الأمم والشعوب لأنه يتجاوز القناعة الشخصية ليمس الأمة في الصميم بسوء ظاهر. ويتمخض عن هذا سؤال كبير وعريض، هو: هل عندما نحكم على "المرتد" نحكم عليه لأنه اتخذ موقفاً اعتقادياً أو فكرياً خاصاً به، أم لأنه قام بجريمة الخيانة العظمى، فباع –مثلاً- أسرار البلاد للأعداء الذين يتربصون بالثغور؟. إن تسويغ الحكم بهذا الشرط أو ذاك يجعلنا أمام واقعة يُبَرَّرُ الحكم فيها بمسوغاتِ واقعةٍ أخرى. يقول الأستاذ مصطفى بنحمزة: "لم ير الإسلام بحسه السياسي وبذكائه العملي في الردة أنها مجرد اختيار فكري حر كما يريد البعض تصويره"؛ وإذن، فإن "الردة فعل حربي من الوجهة الفقهية". وهو أمر لا يمكن الاتفاق فيه مع السيد مصطفى بنحمزة. وهذا لأن الحس السياسي للإسلام في العصور الأولى ليس بالضرورة هو نفس الحس السياسي للإسلام في عصرنا الحاضر، كما أن الموقف المُعبّر عنه ليس في النهاية إلا اجتهاداً لفقيه محترم إلى جانب فقهاء آخرين محترمين لهم مواقف واجتهادات أخرى مختلفة وتصدر عن حس سياسي للإسلام مختلف يأخذ بعين الاعتبار أسباب النزول إلى جانب أسباب الإنزال. صحيح أن التسويغ الشرعي بالإعدام كان مشروعاً في سياقات تاريخية محددة، (وهذا بالرغم من وجود آيات تؤكد على مبدأ الحرية) على اعتبار أن كل من كان يكفر بالإسلام كان ينتقل بسرعة إلى فسطاط الجيوش المعادية، ويحمل السلاح لمقاتلة المسلمين؛ وهو الأمر الذي جعل الحنفيين - مثلاً- بحسهم السياسي للإسلام آنذاك لا يطبقون نفس الحكم على المرأة، لاعتبارات منها أن المرأة لم تكن تحمل السلاح ولم تكن تنخرط في الحروب. وهذا يثبت لنا أن الحكم يشمل أساساً المعنيّ بحمل السلاح ضد الأمة؛ إذ ما دامت "أحكام الردة هي من أحكام الحرب"، والمرأة لم تكن معنية بالحروب فإن ردتها عن الإسلام لم يكن فعلاً تُجرَّم من أجله بالشكل الذي يُجرّم به الرجل، ولم يكن لذلك يشملها الحكم. وهناك حديث نبوي رواه ابن مسعود وأورده كل من البخاري ومسلم يربط فيه الرسول بين الردة ومفارقة الجماعة؛ فقد خص الحديثُ "التاركَ لدينه المفارق للجماعة" بالحكم؛ وهو ما يعني أن ترك الدين وحده لا يشكل سبباً للقتل بل إن السبب الحقيقي هو ترك الجماعة، بما يتضمن ذلك من انتقال إلى الأعداء وإعلان للعداوة والتآمر لتقويض أركان الأمة؛ وعلى هذا الأساس فإن الحس السياسي للإسلام في العصر الحاضر يفترض أيضاً أن تدخل المرأة في هذا الحكم، على اعتبار أن الشروط الثقافية والاجتماعية والحضارية التي كانت تمنع المرأة قديماً من حمل السلاح لم تعد قائمة، مما يلزم إعادة النظر في فقه الحنفية وفي الفقه الذي يذهب في نفس الاتجاه عموماً؛ إن المرأة اليوم أصبحت تشارك في الحروب وتقوم بأدوار خطيرة في المجتمعات وتحتل مناصب حساسة داخل مؤسسات الدولة، فإذا ثبت أنها باعت أسرار بلادها للأعداء بما قد يؤدي إلى الإضرار بالأمة، فإن حكم القرون الماضية لن يكون عادلاً، بل قد يُستغل لهدم أركان الوطن. لقد كان مشروعاً، إذن، في زمن بدايات تشكل الأمة الإسلامية أن يتخذ الحكام موقفاً حازماً من المرتدين عن الإسلام، لأن هذا كان مقروناً في ذلك الوقت بمفارقة الجماعة والانضمام إلى الأعداء، وهو ما جعل الفقهاء يميزون بين "دار الإسلام" وبين "دار الحرب" والتي تشمل أيضاً كل الذين يعلنون عداءهم وتآمرهم على الدار الأولى بما في ذلك الملتحقين بها من المرتدين.
وهكذا فنحن إذا أخذنا بعين الاعتبار كل هذه الحيثيات، فإن الحكم بالقتل استناداً فقط إلى ظنّ متهافت يجعل من المواطن شخصاً متهماً بالخيانة العظمى (إعلان موقف حربي، التجسس لصالح دولة أجنبية، إلخ) لكونه أعلن عن قناعة دينية جديدة غير قناعته الأصلية سيشكل- في نظرنا- ضربة قوية لمفهوم العدالة في الإسلام، كما أنه سيؤسس لخلط كبير بين مفهومي الردة والخيانة العظمى.
وكل هذا استناداً إلى موقف فقهي إسلامي كان صالحاً في زمن محدد (نظراً لعلة الترابط بين إعلان الردة وإعلان الحرب على المسلمين)، ولم يعد اليوم صالحاً لأنه غير مؤسس على نفس العلة الفقهية القديمة (ليس كل مرتد متآمر على الوطن ومفارق للأمة) بل وغير مسند إلا على حجة ظنية أو على اعتقاد خاطئ مفاده أن كل مرتد هو بالضرورة خائن للوطن ومفارق للجماعة وحامل للسلاح ضده؛ وهو أمر غير صحيح بالمرة؛ فالمواطن قد يكون مسلماً يؤدي فروضه الدينية ويشهد أن لا إله إلا الله ويزاحم المؤمنين في المساجد إلخ. ولكنه مع ذلك قد يكون خائناً لوطنه؛ مما يستوجب، في هذه الحالة، الحكم عليه إذا ثبتت التهمة بالحجج الملموسة؛ كما أن المواطن يمكن أن يكون مرتداً ولكنه لم يثبت عليه أنه فارق الجماعة أو خان أسرارها أو تآمر ضد أبناء وطنه؛ وعلى هذا الأساس فإن العديد من الأمثلة التي ساقها السيد مصطفى بنحمزة ليحاجج بها، في هذا الإطار، لم تكن مقنعة بالنسبة لي على الأقل؛ فالمحميون –مثلا- لم يكونوا مرتدين لكونهم طلبوا الحماية الفرنسية من المستعمرين؛ إذ كان أكثرهم مؤمناً بالله ورسوله وملائكته واليوم الآخر؛ ومع ذلك يمكن أن يكون منهم من خان وطنه وتحول إلى طابور داخلي للتجسس، بل وقد يكون تآمر ضد الدولة لإسقاطها. وعليه فإن الحكم في هذه الحالة يجب أن تسوغه أفعال خطيرة ضد الأمة المغربية مثل التجسس والتآمر التي هي السبب الأساسي في مفارقة الجماعة وليس الردة عن الإسلام التي يمكن أن تعالج بوسائل أخرى. وحسب علمنا فإن محمد بن عبد الجليل الذي تنصر سنة 1927 لم يتآمر ضد بلده لكي يُقتل، وإذا كانت الكنيسة قد احتفت واعتنت به بالشكل الذي عبر عنه السيد بنحمزة، فأعتقد أننا نقوم بنفس الشيء عندما يسلم نصراني أو يهودي أو بوذي. إننا نفرح لذلك، ومن حقنا أن نعتني بهذا المسلم الجديد كما اعتنوا هم بنصرانيهم الجديد. وأما فيما يتعلق بالحالات الأخرى التي قدمها الأستاذ المحترم كحالة لورنس رجل الاستخبارات البريطانية الذي تظاهر بالإسلام كي يتمكن من إحداث الوقيعة بين العرب والعثمانيين أو كحالة دومينيكو بديع ليبليش الذي ادعى أنه لا جئ من سوريا واشتغل جاسوساً في عهد المولى سليمان لصالح إسبانيا ونابليون، أو كحالة ذاك الشاب الفرنسي الذي تظاهر بالإسلام وزوّجه عبد القادر بن محيي الدين الجزائري ببنته، في حين أنه كان يقدم التقارير للفرنسيين إلخ فأعتقد أن هذا لا يدخل بتاتاً في خانة المرتدين عن الإسلام؛ لأن هؤلاء لم يدخلوا الإسلام أبداً، وهو ما يجعلنا ندرجهم في خانة الجواسيس الأعداء المتآمرين ضد الوطن والذين اتخذوا الإسلام وسيلة وذريعة للوصول إلى أغراضهم الدنيئة، وعليه فإن الحكم عليهم يجب أن لا يكون حكم المرتد، بل هو حكم المرتكب لفعل حربي مُعادٍ. وهو أمر لا يقتصر فقط على الذين تظاهروا بالإسلام وينتمون إلى دول تدين شعوبها بغير الإسلام، بل يشمل حتى المسلمين الحقيقيين الذين ينتمون إلى دول تدين شعوبُها بالإسلام، ولكنهم استغلوا ثقتنا فيهم لتديننا بنفس الدين، فأخذوا يتجسسون على مصالحنا ومؤسساتنا الحربية والأمنية والاقتصادية إلخ ويقدمونها لأعداء وحدتنا الترابية أو لدولة أخرى تريدُ بنا شرّا.
ويمكن لنا في هذا الإطار اعتبار موقف أبي بكر الصديق فيما سُمّيَ بحروب الردةموقفاً حربياً ضد جماعة تمردت ورفضت أن تخضع سياسياً للدولة الإسلامية الناشئة؛ إذ المتوارد من الأخبار أن أبا بكر لم يقاتل هذه الجماعة لكونها خرجت من الإسلام ولكن لكونها اعترضت على دفع الزكاة التي كانت تشكل المرتكز الأساسي لاستمرارية الأمة؛ فقد كانت وفود العرب تأتيه وهم "يقرون بالصلاة ويمنعون الزكاة" كما يذكر الطبري (ص: 253)؛وأنشد شاعرهم عبد الله الليثي مؤرخا لهذه اللحظة العصيبة بقوله:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكْرِ ؟ أيورثها بكراً إذا مات بعده وتلك لعَمرُ الله قاصمة الظهرِ.
وهو ما يعني أن المتمردين عن الدولة الناشئة لم يكونوا مرتدين بالمفهوم الذي يجعلهم خارج بيضة الإسلام، ولكنهم كانوا يتخذون موقفاً سياسياً من أبي بكر الذي ورث الخلافة؛ ولما كان هذا الأخير واعياً بخطورة هذا الموقف على الأمة فإنه لم يتردد في اتخاذ قرار قتالهم، ولذلك قال كلمته المشهورة: " لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه" ( الطبري 255)؛وحسب روايات أخرى فإن كلا من عمر ابن الخطاب وعثمان ابن عفان وعلي ابن أبي طالب والكثير من المهاجرين والأنصار خالفوه في رأي قتالهم؛ ففي مجلس جمعهم للتشاور في هذا الأمر الجلل، طلب الخليفة أبو بكر منهم أن يشيروا عليه، "فأطرقوا طويلاً، ثم تكلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: أرى، والله، يا خليفة رسول الله أن تقبل من العرب الصلاة وتدع لهم الزكاة"؛ "فالتفت إلى عثمان رضي الله عنه فقال مثل ذلك، وقال علي رضي الله عنه مثل ذلك، وتابعهم المهاجرون، ثم التفت إلى الأنصار فتابعوهم"؛ (محمد يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة، ص: 442) ولكن الخليفة كان قد اتخذ قراره الحاسم، وقال: "والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي، وإن منعوني عقالاً" (الكاندهلوي، حياة الصحابة، ص: 445).ونعتقد أن هذا الموقف الصارم كان محكوماً أيضاً بالسياق العام الذي كانت تمر به الأمة الإسلامية، إذ أن الأمر لم يكن يتعلق فقط بمنع المتمردين لحق الزكاة المفروض، ولكن كان مصحوباً أيضاً بمواقف عدائية تذكرها كتب التاريخ، والتي منها تواعد الكثير من المرتدين على قتال جماعة أبي بكر؛ لقد " أخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم اشرأب النفاق بالمدينة، وارتد العرب وارتدت العجم وأبرقت وتواعدوا نهاوند () فجمع أبو بكر رضي الله عنه المهاجرين والأنصار، وقال: إن هذا العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم ورجعوا عن دينهم، وإن هذه العجم قد تواعدوا نهاوند ليجمعوا لقتالكم" ( حياة الصحابة، ص: 442).
هكذا، إذن، يتبين لنا أن موقف المرتدين لم يكن موقفاً عقدياً، أي خروجاً عن الإسلام، ولكنه كان موقفاً حربياً بالأساس؛ ومن مميزاته أنه لم يكن موقفاً شخصياً، أي يرتبط بالفرد في علاقته بمعتقداته وبإيمانه الشخصي؛ بل كان موقفاً جماعياً يتجاوز المعتقدات إلى اتخاذ مواقف خطيرة، منها:
1. رفض الانضواء تحت لواء السلطة الجديدة (عدم طاعة أبي بكر)؛ 2. رفض تقديم الزكاة التي هي المصدر الأساسي لخزينة الدولة؛ 3. التآمر ضد الدولة الفتية وإعلان الحرب ضدها.
وعلى هذا الأساس سيتخذ أبو بكر قراره؛ وكما ذهب إلى ذلك بعض المجتهدين، من أمثال محمد رشيد رضا وجاويش عبد العزيز وشلتوت محمد وغيرهم،فإن الإسلام لم ينص على قتل المرتد المسالم الذي لم يعلن الحرب ضد أمته بإيتائه أفعالاً كالتآمر والتجسس وحمل السلاح؛ بل ولم يثبت عن الرسول (ص) أنه عاقب شخصاً لكونه ارتد عن الإسلام؛ كما لم يرد أي نص قرآني يجوز فيه قتل المرتد على الإطلاق؛ إن كل ما لدينا هو قوله تعالى: "ومَنْ يرتَدِدْ مِنْكُمْ عنْ دينِه فَيَمُتْ وهُوَ كافرٌ فأولئِكَ حبِطتْ أعمالُهُم في الدُّنيا والآخِرة وأولئكَ أصحابُ النّار فيها خالدون" (البقرة: 217)؛ ويعلق الإمام الأكبر محمد شلتوت على هذه الآية قائلاً: " والآية كما ترى لا تتضمن أكثر من حكم بحبوط العمل والجزاء الأخروي بالخلود في النار" (الإسلام عقيدة وشريعة، ص: 252).
4- محاذير كثيرة أمام الحكم بالردة
وإلى جانب كل ما قدمناه أريد التأكيد أيضاً على أن ظاهرة الردة التي كانت مقرونة –كما رأينا- بالخيانة واتخاذ المواقف الحربية ضد المسلمين في زمن الرسول وبعده لم تكن أحكامُها مطلقة ومبنية على مواقف انطباعية يُطلقها بعض الناس كيفما اتفق؛ فلقد كان الإسلام يضع محاذير كثيرة كي لا يلجأ كل من هب ودب فيتهم من شاء بما شاء؛بل وحتى في حالة الحرب كان الرسول (ص) يحث على إفشاء السلام وعدم القتل استناداً إلى شبهة ظنية؛ ومن الآيات القرآنية التي نزلت في هذا الإطار قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا" ( سورة النساء، 94)؛ هكذا إذن سيكون السلام (أي إلقاء التحية) سبباً كافياً كي نُحسن الظن بالعدو ونتوقف عن اتهامه بعدم الإيمان فأحرى قتله؛ ولقد فسر الحسين بن مسعود البغوي هذه الآية بقوله: "أي لا تقولوا لمن سلّم عليكم لست مؤمنا (تبتغون عرض الحياة الدنيا)، يعني تطلبون الغنم والغنيمة، و"عرض الحياة الدنيا"،[أي] منافعها ومتاعها" (تفسير البغوي). وقد كانت مناسبة نزول هذه الآية –كما جاء في العديد من كتب التفسير- أن رجلاً من بني سليم مر على جماعة من أصحاب الرسول (ص) وهُم في حالة حرب؛ وكان مع الرجل "غنم له فسلم عليهم"؛ فقال الصحابة لبعضهم البعض إنه "ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم"، ثم إنهم قاموا إليه «فقتلوه وأخذوا غنمه"؛ فنزلت الآية (إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير ابن كثير). وحسب القرطبي فإن الرسول (ص) لم يستسغ أبداً هذا الفعل الشنيع، واعتبره خارجاً عن أخلاق الإسلام، ولذلك "حمل إلى أهله [أي أهل المقتول]ديته ورد عليه غنيماته" (محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، تفسير القرطبي)؛ومما يُذكر أيضاً في مناسبة نزول هذه الآية أن الرسول (ص) بعث سرية إلى بعض الجهات، فحمل أحد الصحابة على رجل من شيعة الأعداء؛ ولما رأى الرجل أنه غير قادر عليه قال: "إني مسلم" غير أن الصحابي لم يعط لمقولته أي اعتبار، "فقتله"؛ ولما "بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قتلته وهو يقول: إني مسلم؟ قال: يا رسول الله، إنما قال ذلك بلسانه، ولم يكن في قلبٍه، قال له ذلك ثلاث مرات، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلاّ شققت عن قلبه فنظرتَ ما فيه؟ قال: يا رسول الله، أرأيت لو أني شَققتُ عن قلبه ما علمي بما فيه؟ هل هي إلا مضغة؟ قال: وما عِلْمُك بما في قلبِه حتى قتلته؟ قال: يا رسول الله، استغفر لي، قال: لا ثلاث مرات."؛ وكما نلاحظ فإن حالة الحرب التي كان عليها الصحابي لم تشفع له أبداً لكي يستغْفر له الرسول عند ربه، بل والأدهى من ذلك أن القاتل لما مات –كما جاء في عدد من الروايات- "لفظته الأرض" من قبره، و"لما رأى ذلك قومُه حملوه فطرحوه بين الجبال"؛ وهناك رواية أخرى تؤكد أنه عندما وصل خبر مقتل الرجل الذي هو مرداس ابن ناهيك (من أهل واحة فدك) إلى الرسول (ص) حزن حزناً شديداً، وظل يردد:"قتلوه، قتلهم الله!"؛ ولما استعطفه القاتل الذي لم يكن –في هذه الرواية- غير الصحابي أسامة ابن زيد، رد عليه الرسول بالجواب الحاسم: "هلاَّ شققت عن قلبه لتعلم أقالها خوفاً أم لا؟!".
ومن الآيات القرآنية التي فسرها بعض الفقهاء استناداً إلى موقف التحريم المطلق للقتل دون وجه حق، نجد الآية التالية: "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ" (النساء، من الآية 92)؛ فقد "قال الماتريدي:الإشكال أن الله تعالى نهى المؤمن عن القتل مطلقا، واستثنى الخطأ والاستثناء من النفي إثبات، ومن التحريم إباحة. وقتل الخطأ ليس بمباح بالإجماع" (أثير الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف الأندلسي، التفسير الكبير المسمى البحر المحيط)؛ وخص رشيد رضاحكم القتل بالذين "يُظهرون الإسلام مخادعة" و"يعاهدون المسلمين على السلم" إلا أنهم "يغدرون ويكونون عوناً لأعدائهم عليهم" (محمد رشيد رضا، تفسير المنار)؛ والأكيد أن هذا هو السبب الذي جعل صحابياً جليلاً مثل علي ابن طالب لا يتهم أعداءه أبداً بالكفر، بالرغم من أنه كان معهم في حرب ضروس لا تهدد فقط كيان الأمة الذي بدأ في التشكل آنذاك ولكن تهدد أيضاً بيضة الإسلام نفسها. وهكذا فإن الخوارج الذين خرجوا عليه وحاربوه بكل ما أوتوا من قوة، وقُتِل بسببهم الكثير من المسلمين لم يكفرهم أبداً بل اعتبرهم مسلمين أو إن شئنا الدقة أعتبرهم خصوماً له يصدرون عن تأويل مختلف للقرآن وليسوا مرتدين. وعلى كل حال فإن هناك العديد من الأحاديث التي تنهى بشكل واضح عن التكفير وتحذر من مغبة اتهام الآخرين بالكفر، فأحرى الدعوة إلى قتلهم أو مباشرة القتل بأنفسهم؛ فعن ابن عمر أن رسول الله قال: "أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً، فإن كان كافراً، وإلا كان هو الكافر" (متفق عليه، صحيح سنن أبي داود:3921)؛ وفي حديث آخر "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فهو كقتله" (رواه البزار، صحيح الترغيب: 2777.)؛ والمعلوم أن من قتل شخصاً بغير حق فإن عليه تبعات ثقيلة. يقول تعالى: "ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا" (المائدة 32).وتفسيراً للآية نقلابن جريج عن الأعرج عن مجاهد قوله:"من قتل النفس المؤمنة متعمدا، جعل الله جزاءه جهنم، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابا عظيما، يقول : لو قتل الناس جميعا لم يزد على مثل ذلك العذاب" (تفسير ابن كثير) .
5- مواقف الرسول (ص) تجاه من آذاه
ومن المعلوم أن الرسول (ص) تعرض للكثير من مواقف الإيذاء التي كانت في الحالات الأسوأ تتجاوز السب والقذف إلى الضرب ومحاولة القتل، ومن المعلوم أيضاً أننا لا نجد في سيرته ما قد يجعله يتخذ من تلك الأذيات سبباً للانتقام أو لرد الصاع صاعين عندما يجد إلى ذلك طريقاً كما يقع لعامة الناس؛ إن ما نجده في هذه السيرة هو الرحمة والرأفة والتسامح المتعالي الذي يتجاوز كل الحدود. هذا ما تتفق عليه كل الكتب التي حملت إلينا أخباره؛ فكم من مرة تم سبّه، وكم من مرة ضُرب، وكم من مرة حوصر، وكم من مرة رُفع السيف في وجهه، إلا أنه في كل مرة كان يفاجئ أعداءه بحلمه ودعواته لهم لا ضدهم. فهل لنا أن نتذكر- مثلا- الموقف الذي صدر عنه لما تضاعفت همومه وأحزانه بوفاة زوجته خديجة وعمه أبي طالب الذي كان يحميه، والذي كان بالمناسبة كافراً (ولكن رغم ذلك فإن النبي محمد كان يحبه حباً لا نهاية له)؟.إذ في هذه الفترة العصيبة استغلت قريش وفاة هذا الحامي (الكافر) فأخذت تمعن في إيذائه، فضاقت عليه مكة بما رحُبت، مما دفع به للخروج إلى الطائف ممنياً النفس وراجياً من الله أن يشد عضُده بأهلها ويخرجه من الأحزان القاتلة التي كانت تنهش قلبه؛ لكنه عندما وصل إليهم ودعاهم إلى الإسلام، ردوا عليه رداً قاسياً وأمروا صبيانهم وسفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ويرمونه بالحجارة، فسالت الدماءمن قدميه الكريمتين، بل "حتى لقد شُج في رأسه شجاج"، كما قال ابن سعد في الطبقات (ص: 212)؛ ورغم ذلك فإن الرسول لم يدْع عليهم، ولم يسبهم ولم يكفرهم ولم يخرجهم من رحمة الله. وتروي أم المؤمنين عائشة، كيف أخبرها النبي أن جبريلاً ناداه، ومعه ملًكُ الجبال، وقال له: "إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم". ثم ناداه ملك الجبال وقال له:"يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين". فهل تدرون بما أجاب الرسول؟ لقد قال لهما: "بل أرجو أن يُخْرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا" (متفق عليه). تلكم كانت بعض مواقف الرسول في الحالات التي يتعرض فيها لكل صنوف التعذيب والضرب والتهميش والطرد والتحقير إلخ. ولكني عندما أسمع اليوم ما أسمع وأرى ما أرى من دعوات إلى التكفير والقتل من أفواه من استُؤمنوا على سيرته،لمجرد أن محاضراً عبر عن رأيه في المنظومة التربوية لبلده، واعتبر أن تدريس رسالة الرسول في مستوى تربوي محدد لا يتلاءم مع مستوى فهم التلاميذ، إذ قد يخرجها عن سياقها الأصلي ويمنحها مضموناً "تهديدياً" أو "إرهابياً "، لأتساءل: هل نتأسى، فعلاً، بسيرة الرسول الكريم أم أننا نتأسى بسيرة المغالين في الدين؟أولئك الذين تشددوا في دينهم فغلبهم؛ والمغالاة–طبعاً- لا تنتج إلا الوبال من حيث أنها تحول الدين إلى وسيلة للانتقام وتصفية الحسابات وليس إلى بث الرحمة والسلام والحب بين الناس. لقد كان الرسول رسول حب وهداية حتى في حالات الحرب؛فقد رُوي عن جابر أن أصحاب رسول الله ضاقوا ذرعاً من حرب ثقيف ومن عدوانهم؛ فطلبوا منه أن يدعو عليهم؛ "قالوا يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم"؛ فهل تدرون بماذا أجاب؟ لقد قال لهم بكل هدوء ودون صخب أو ضوضاء أو تكفير أو تحريض:"اللهم أهد ثقيفا" (رواه الترمذي). وعندماألح عليه أصحابه أن يدعو على المشركين، قال لهم: "إني لم أُبعث لعانا وإنما بعثت رحمة" (رواه مسلم). وعندما جاءه الطفيل بن عمرو الدوسي يطلب منه أن يدعو على أهل "دوس" قال: "اللهم أهد دوساً وأت بهم" (متفق عليه). وعندما فتح الله عليه مكة، وظنت قريش التي سامته جميع أنواع العذاب وصنوفه أنه سينتقم منهم لموقف الإساءة الذي سبق أو أنه سيطبق عليهم ما يدّعيه اليوم أدعياء القتل، فاجأهم بالقول:"لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء" (أخرجه أحمد في مسنده 2 / 11). وللتذكير فقط فإن أحد الهولنديين الذين أسلموا مؤخراً اعترف في حديثه على اليوتوب أنه أسلم لمجرد قراءته لهذا الموقف النبيل الذي عبر عنه محمد تجاه من كادوا له وعذبوه وأرادوا قتله. هذا هو الرسول الذي نعرفه. رسول الحِلم والهداية والرحمة والتسامح والدعوة بالخير لكل الناس؛ وهو نفس الرسول الذي أوصله إلينا أجدادنا وجداتنا من خلال أشعارهم الأمازيغية الجميلة التي كانوا يرطنون بها في المساءات الهادئة؛ أو من خلال الحكايات المشوقة التي كان يحكيها لنا عمي "باموح" وعمي "سيحمو" وجدتي "تلايتماس" وغيرهم. أو من خلال الأمسيات الدينية التي كانت تنظمها "لالا فظم ن موح" في "عيد المولد" أو في "اللامث" أو في حفلات "أخام ن أومرابض" إلخ. لقد كانوا يحدثوننا عن رسول يعطي الفقراء ما يجمعه عن الأغنياء، ويربت على رؤوس اليتامى عندما يحنون إلى أمهاتهم الميتات، ويحمي الضعاف من الأقوياء، ويسامح المخطئ إن أساء إليه؛ رسول لا يحقد على أحد ولا يسبُّ أحداً. رسول ظل عالقاً في مخيلاتنا الصغيرة، فأحببناه؛ ليس خوفاً منه أو من عقاب فصَّل الفقهاء أنواعه في أبواب الردة؛ ولكن أحببناه حباً فيه وحباً في قيم التسامح والرحمة التي ظل يحملها في شخصهأو كما تخيلناهاوعشناها مع صورته. 6- ماذا يقول علماء العصر المتنورون في شأن الردة؟
قبل أن أنتهي من مقالتي هذه لابد أن أتقدم بالموقف النبوي العظيم الذي عبرت عنه أكبر وأعظم مؤسسة علمية ودينية في العالم الإسلامي؛ ويتعلق الأمربمؤسسة الأزهر الشريف التي تقدمت يوم 14 من صفر سنة 1433 ه الموافق 8 من يناير سنة 2012 م بوثيقة مهمة جداً حول موقف الإسلام من الحريات الأساسية. وأرجو أن يطلع عليها أولئك الفقهاء والدعاة الذين يصعدون فوق المنابر أو تعجبهم وجوههم وأصواتهم وهو يصيحون في اليوتوب، أو يكتبون كلاماً مشبعاً بالضغينة لا يبحث عن الحق ولكن يبحث عن توريط الناس وحث ضعاف العلم على الانتقال إلى الفتنة. فقد جاء في هذه الوثيقة التي تناولت حرية الاعتقاد وحرية الرأي والتعبير، وحريَّة البحث العلمي،وحريَّة الإبداع الأدبي والفني من الزاوية الإسلامية، ما يلي:
"تعتَبر حريَّةُ العقيدة، وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساواة التامَّة في الحقوق والواجبات حجرَ الزَّاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولةٌ بثوابت النصوص الدِّينية القطعيَّة، وصريح الأصول الدستوريَّة والقانونيَّة؛ إذ يقول المولى - عزَّ وجلَّ :[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [[البقرة: 256]، ويقول: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ويترتَّب على ذلك تجريمُ أيِّ مظهرٍ للإكراه في الدِّين، أو الاضطهاد أو التمييز بسَبَبِه، فلكلِّ فردٍ في المجتمع أنْ يعتنقَ من الأفكار ما يشاء، دون أنْ يمسَّ حقِّ المجتمع في الحفاظ على العقائد السماويَّة؛ فللأديان الإلهيَّة الثلاثة قداستها، وللأفراد حريَّة إقامة شعائرها دون عُدوان على مشاعرِ بعضهم أو مَساسٍ بحرمتها قولاً أو فعلاً، ودون إخلالٍ بالنظام العام (...)
ويترتَّب على حقِّ حريَّة الاعتقاد التسليمُ بمشروعيَّة التعدُّد، ورعاية حق الاختلاف، ووجوب مراعاة كلِّ مواطن مشاعرَ الآخرين، والمساواة بينهم على أساسٍ مَتِينٍ من المواطنة والشَّراكة وتكافؤ الفرص في جميع الحقوق والواجبات.
كما يترتَّب أيضًا على احترام حريَّة الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجُّهات التي تُدِينُ عقائدَ الآخَرين، ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائد؛ بناءً على ما استقرَّ من نظمٍ دستوريَّةٍ، بل بناءً على ما استقرَّ - قبل ذلك - بين علماء المسلمين من أحكامٍ صريحة قاطعة قرَّرتها الشريعة السَّمحاء في الأثر النبوي الشريف: ((هلا شَققتَ عن قلبه))، والتي قرَّرَها إمام أهل المدينة المنوَّرة الإمام مالك والأئمَّة الآخرون بقوله: "إذا صدَر قولٌ من قائل يحتملُ الكفرَ من مائة وجهٍ ويحتمل الإيمانَ من وجهٍ واحد، حُمِلَ على الإيمان، ولا يجوز حَمْلُه على الكفر". (انتهى كلام مؤسسة الأزهر).