حول ملابسات الفتوى نفت المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان ما أشيع بأنها طلبت فتوى من المجلس العلمي أو استشارة حول حكم المرتد أو حرية المعتقد، وتبقى الفتوى التي صدرت مؤخرا عن هذا المجلس بخصوص حكم المرتد مثار جدل واسع بين الحقوقيين وفقهاء القانون وعلماء الشريعة والدعاة، ومما جاء فيها : "أما بالنسبة للمسلمين: في شأن حرية المعتقد والدين، فإن شرع الإسلام ينظر إليها بنظر آخر، ويدعو المسلم إلى الحفاظ على معتقَده وتدينه، وإلى التمسك بدين الإسلام وشرعه الرباني الحكيم، ويعتبر كونه مسلما بالأصالة من حيث انتسابه إلى والدين مسلمين أو أب مسلم التزاما تعاقديا واجتماعيا مع الأمة، فلا يسمح له شرع الإسلام بعد ذلك بالخروج عن دينه وتعاقده الاجتماعي، ولا يقبله منه بحال، ويعتبر خروجه منه ارتدادا عن الإسلام وكفرا به، تترتب عليه أحكام شرعية خاصة، ويقتضي دعوته للرجوع إلى دينه والثبات عليه، وإلا حبط عمله الصالح، وخسر الدنيا والآخرة، ووجب إقامة الحد عليه". ما ذهب إليه المجلس العلمي الأعلى هو ما أجمع عليه فقهاء الإسلام حول عقوبة المرتد، وإن اختلفوا في تحديدها، وجمهورهم على أنها القتل، وهو رأي المذاهب الأربعة بل الثمانية، وسنورد خلاف المعاصرين في ذلك، وهو مبني على خلاف قديم، له ما يبرّره في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الخلفاء الراشدين. والذي أرجحه أن المجلس العلمي الأعلى أراد بفتواه هذه أن يواجه حملات التنصير التي تستهدف المغرب، باعتباره ملتقى الحضارات، وأقرب بلد إفريقي إلى أوروبا المسيحية، ومن المعلوم أن جماعات إنجيلية أمريكية تنشط على أراضي المملكة، تمّ طرد بعضها ومتابعة بعضها قانونيا، وقد أشار إلى ذلك السفير الأمريكي في آخر لقاء صحفي له قبل مغادرة المغرب؛ ولا يمكن أن يجادل أحد في كون التنصير يهدد الكيان السياسي للدولة المغربية بمضمونها الديني القائم على إمارة المومنين والبيعة الشرعية، كما أن التسامح مع التبشير المسيحي على الأراضي المغربية معناه فتح المجال الإعلامي مستقبلا لقنوات تنصيرية باللغتين العربية والأمازيغية، وربما بالدارجة، وسترصد له إمكانات هائلة ومتطورة تسمح باختراق الهوية المغربية والنسيج الاجتماعي التي يعد الدين أرسخ مكوناتها، ولا يخفى أن صناعة أقليات دينية في البلاد الإسلامية تعتبر اليوم إحدى أهم الآليات لتدخل الدول الكبرى في الشؤون الداخلية لهذه الدول الضعيفة؛ ومن تمّ فإن المجلس العلمي الأعلى قام بدوره، من خلال هذه الفتوى، في حماية المجتمع من مخاطر التنصير، وفي الدفاع عن المضمون الديني لإمارة المومنين، ومن ظنّ أن العلماء في شرود بإصدارهم لهذه الفتوى، فإنه جانب الصواب، والله أعلم. التفريق بين الردة المغلظة والردة المخففة يقول العلامة القرضاوي :"والذي أراه أن العلماء فرقوا في أمر البدعة بين المغلظة والمخففة، كما فرقوا في المبتدعين بين الداعية وغير الداعية، وكذلك يجب أن نفرق في أمر الردة الغليظة والخفيفة، وفي أمر المرتدين بين الداعية وغير الداعية. فما كان من الردة مغلظًا كردة سلمان رشدي، وكان المرتد داعية إلى بدعته بلسانه أو بقلمه، فالأولى في مثله التغليظ في العقوبة والأخذ بقول جمهور الأمة وظاهر الأحاديث؛ استئصالاً للشر وسدًا لباب الفتنة، وإلا فيمكن الأخذ بقول النخعي والثوري، وهو ما رُوي عن الفاروق عمر(أنظر الفقرة الرابعة من هذا المقال)". ويضيف أيضا : "إن المرتد الداعية إلى الردة ليس مجرد كافر بالإسلام، بل هو حرب عليه وعلى أمته؛ فهو مندرج ضمن الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادً، والمحاربة كما قال ابن تيمية نوعان: محاربة باليد، ومحاربة باللسان، والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد، وكذلك الإفساد قد يكون باليد وقد يكون باللسان، وما يفسده اللسان من الأديان قد يكون أعظم مما تفسده اليد، فثبت أن محاربة الله ورسوله باللسان أشد، والسعي في الأرض بالفساد باللسان أوكد؛ والقلم أحد اللسانين كما قال الحكماء، بل ربما كان القلم أشد من اللسان وأنكى، ولا سيما في عصرنا؛ لإمكان نشر ما يُكتب على نطاق واسع." قلت: والإعلام بمختلف قنواته وأدواته أشد تأثيرا من القلم. ثم قال حفظه الله :"ولا يُعاقِب الإسلام بالقتل ذلك المرتد الذي لا يجاهر بردته ولا يدعو إليها غيره، ويدع عقابه إلى الآخرة إذا مات على كفره، كما قال تعالى: "وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة: 217)، وقد يعاقبه عقوبة تعزيرية مناسبة. ويقول أيضا:"والردة ليست مجرد موقف عقلي، لكي يقتصر الحديث فيها على مناقشة مبدأ حرية الاعتقاد، بل هي أيضًا تغيير للولاء، وتبديل للهوية، وتحويل للانتماء، فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى، ومن وطن إلى وطن آخر، أي من دار الإسلام إلى دار أخرى، فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام التي كان عضوًا في جسدها، وينضم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها، ويعبر عن ذلك الحديث النبوي بقوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة"، كما في حديث ابن مسعود المتفق عليه. وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ؛ فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة". التحذير الشديد من التكفير ويحذر الشيخ القرضاوي من التسرع في التكفير بقوله: "إن الحكم بردة مسلم عن دينه أمر خطير جدا ويترتب عليه حرمانه من كل ولاء وارتباط بالأسرة والمجتمع، حتى إنه يفرق بينه وبين زوجه وأولاده، إذ لا يحل لمسلمة أن تكون في عصمة كافر ،كما أن أولاده يُفصَلون عنه؛ لأنه لا يكون مؤتمنًا عليهم، فضلاً عن العقوبة المادية التي أجمع عليها الفقهاء في جملتها. ولهذا وجب الاحتياط كل الاحتياط عند الحكم بتكفير مسلم ثبت إسلامه؛ لأنه مسلم بيقين، فلا يزال اليقين بالشك؛ ومن أشد الأمور خطرًا تكفير من ليس بكافر وقد حذرت من ذلك السنة النبوية أبلغ التحذير. إن الذي يملك الفتوى بردة امرئ مسلم هم الراسخون في العلم من أهل الاختصاص الذين يميزون بين القطعي والظني، وبين المحكم والمتشابه، وبين ما يقبل التأويل وما لا يقبل التأويل، فلا يكفرون إلا بما لا يجدون له مخرجًا: مثل إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، أو وضعه موضع السخرية من عقيدة أو شريعة، ومثل سب الله تعالى ورسوله، أو كتابة ذلك السبِّ علانية، ونحو ذلك". عقوبة المرتد تدخل في اختصاصات ولي الأمر، إذ هي من تصرفات النبي بالإمامة والذي ذهب إليه بعض المعاصرين أن عقوبة المرتد تدخل في اختصاصات ولي الأمر، واستدلوا على ذلك بجملة أحاديث صحيحة تبين على أنها من تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة، منها: أولا: ما حصل في عام فتح مكة، وذلك حين أمر النبي بقتل نفر من المحاربين لله ورسوله، من هؤلاء النفر: عبدالله بن أبي السرح ،وابن أبي السرح هذا كان من كتاب الوحي ثم ارتد، وصار يشكك الناس في القرآن ،وعندما تمكن منه، قبل شفاعة عثمان بن عفان فيه، ولم يقم عليه عقوبة الردة. ثانيا: ما رواه البخاري ومسلم من أن "أعرابيًّا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقلني بيعتي، فأبى؛ ثم جاءه قال: يا محمد أقلني بيعتي، فأبى؛ فخرج الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها"، وقد ذكر الحافظ ابن حجر، والإمام النووي نقلاً عن القاضي عياض: أن الأعرابي كان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إقالته من الإسلام، فهي حالة ردة ظاهرة، ومع ذلك لم يعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل ولا أمر بعقابه، بل تركه يخرج من المدينة دون أن يعرض له أحد. ثالثا: ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رجل نصرانيًّا فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيًّا، فكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض…" الحديث، ففي هذا الحديث أن الرجل تنصر بعد أن أسلم وتعلم سورتي البقرة وآل عمران، ومع ذلك فلم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم على ردته. رابعا: ومما يؤكد هذا المنحى في توجيه حكم المرتد، ما رواه عبد الرازق والبيهقي وابن حزم: أن أنسًا عاد من سفر فقدم على أمير المومنين عمر، فسأله: ما فعل الستة الرهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام، فلحقوا بالمشركين؟ قال: يا أمير المؤمنين، قوم ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بالمشركين، قتلوا بالمعركة؛ فاسترجع عمر - أي قال: إنَّا لله وإنا إليه راجعون-، قال أنس: هل كان سبيلهم إلا إلى القتل؟ قال نعم، كنت أعرض عليهم الإسلام فإن أبوا أودعتهم السجن"، وهذا هو قول إبراهيم النخعي، وكذلك قال الثوري؛ يقول الشيخ يوسف القرضاوي: "وهو الرأي الذي نأخذ به". لا إكراه في الدين يقول العلامة أحمد الريسوني: " فقضية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هي قضية كلية محكمة، عامة تامة، سارية على أول الزمان وآخره، سارية على المشرك والكتابي، سارية على الرجال والنساء، سارية قبل الدخول في الإسلام، وبعده، أي سارية في الابتداء وفي الإبقاء، فالدين لا يكون بالإكراه ابتداء، كما لا يكون بالإكراه إبقاء. فالقول بأن القتل يكون للردة وحدها ولا شيء معها أو سواها، يتنافى تنافيا واضحا مع قاعدة {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فتعين رده وعدم التسليم به، بعد ذلك، فإن هذه الأخبار والآثار الدالة على قتل المرتد، يمكن أن تفهم على أنها: إما متعلقة بعقوبة تعزيرية، تراعى في اعتمادها الملابسات والمخاطر التي كانت تشكلها حركة الردة على الكيان الإسلامي الناشئ، خاصة ونحن نعرف من خلال القرآن الكريم، ومن سياق الأحداث والوقائع يومئذ، أن كثيرا من حالات الدخول في الإسلام، ثم الخروج منه، كانت عملا تآمريا مبيَّتا ينطوي على الخيانة والغدر. وإما متعلقة بما يقترن عادة مع الردة، من جرائم، أو التحاق بصف العدو، أو نحوها من الأفعال الموجبة للعقوبة؛ وهذا ما تشير إليه بعض روايات الحديث النبوي الصحيح (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث…)، وهو أصح شيء في الباب. ففي رواية الصحيحين والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة). فالحديث لم يقتصر على المروق من الدين (وهي الردة)، بل أضاف إليه ترك الجماعة، أو مفارقة الجماعة، أو الخروج من الجماعة، كما في روايات أخرى، وهي إضافة لا يمكن أن تكون بدون فائدة إضافية وبدون أثر في موجب الحكم. ومفارقة الجماعة، أو الخروج عن الجماعة، كانت تعني التمرد والعصيان والمحاربة، وربما الانضمام إلى العدو المحارِب، وهذا ما جاء صريحًا في روايات أخرى لهذا الحديث، فعند أبي داود عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محاربا لله ورسوله، فإنه يُقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، أو يَقتل نفسا فيُقتل بها). وبهذا يظهر أن موجبات قتل المرتد، هي ما يقترن بالردة من خروج عن الجماعة وحمل للسيف عليها…، كما يظهر أن القتل ليس هو العقوبة الوحيدة الممكنة لمثل هذه الحالة. وفي جميع الأحوال تبقى قاعدة {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أصلا سالما مسلَّما، لا يمكن نسخه أو نقضه، ولا القبول بأي شيء ينفيه، كليا أو جزئيا" انتهى كلامه.