صحافيون جزائريون يستحضرون مساهمة المغرب في استقلال الجارة الشرقية    زخات رعدية محليا قوية مصحوبة بهبات رياح عاصفية مرتقبة بعدد من أقاليم الممكلة    "أطباء القطاع العام" يعلنون خوض إضراب وطني عن العمل احتجاجا على حكومة أخنوش    أشرف حكيمي ضمن المرشحين الخمسة للفوز بلقب أفضل لاعب إفريقي للسنة    المنتخب الوطني يختتم مشواره في إقصائيات كأس إفريقيا بفوز كبير على منتخب ليسوتو    المفوضية الجهوية للأمن بأزرو…استعمال السلاح الوظيفي من قبل شرطي لتوقيف متورطين في اعتراض وتهديد سائق أجرة    أسرة الأمن الوطني تحتفي بأبنائها المتفوقين دراسيا ورياضيا وفنيا    توزيع 10 حافلات للنقل المدرسي على الجماعات الترابية بإقليم الحسيمة    المنتخب المغربي يختتم تصفيات كأس إفريقيا 2025 بالعلامة الكاملة    مشاريع الحسد الجزائرية تواصل فشلها الذريع....    شريط سينمائي يسلط الضوء على علاقات المملكة المغربية والولايات المتحدة منذ مستهل التاريخ الأمريكي    الشرادي يكتب : عندما تنتصر إرادة العرش والشعب دفاعا عن حوزة الوطن وسيادته    حالة ان.تحار جديدة باقليم الحسيمة.. شاب يضع حد لحياته شنقا    العراقي محمد السالم يعود لجمهوره المغربي بحفل كبير في مراكش    إنقاذ سائح وزوجته الألمانية بعد محاصرتهما بالثلوج في أزيلال    مصرع 4 أشخاص في حادث سير مروع    المغنية هند السداسي تثير الجدل بإعلان طلاقها عبر "إنستغرام"    مجموعة العشرين تعقد قمة في البرازيل يطغى عليها التغير المناخي والحروب وانتخاب ترامب    بريطانيا تفرض عقوبات جديدة ضد إيران        دراسة: البحر الأبيض المتوسط خسر 70 % من مياهه قبل 5.5 ملايين سنة    الفرحة تعم أرجاء القصر الملكي غدا الثلاثاء بهذه المناسبة        الحزب الحاكم في السنغال يستعد للفوز    رابطة ترفع شكاية ضد "ولد الشينوية" بتهمة الاتجار بالبشر    هذه هي المنتخبات التي ضمنت رسميا التأهل إلى "كان المغرب" 2025    أجواء غير مستقرة بالمغرب.. أمطار وزخات رعدية وثلوج ابتداءً من اليوم الإثنين    جائزة ابن رشد للوئام تشجع التعايش    فتح باب الترشح لجائزة "كتارا للرواية العربية" في دورتها الحادية عشرة    محامي حسين الشحات: الصلح مع محمد الشيبي سيتم قريبا بعد عودته من المغرب    انطلاق مهرجان آسا الدولي للألعاب الشعبية وسط أجواء احتفالية تحت شعار " الألعاب الشعبية الدولية تواصل عبر الثقافات وتعايش بين الحضارات"    المغرب يستضيف الملتقي العربي الثاني للتنمية السياحية    مركز موكادور للدراسات والأبحاث يستنكر التدمير الكامل لقنطرة واد تدزي    الكرملين يتهم بايدن ب"تأجيج النزاع" في أوكرانيا بعد سماح واشنطن باستخدام كييف أسلحتها لضرب موسكو    تزامن بدلالات وخلفيات ورسائل    فاتي جمالي تغوص أول تجربة في الدراما المصرية    فرنسا تقسو على إيطاليا في قمة دوري الأمم الأوروبية    بني بوعياش وبني عمارت على موعد مع أسواق حديثة بتمويل جهوي كبير    "غوغل" يحتفل بالذكرى ال69 لعيد الاستقلال المغربي    المغرب يفتح آفاقاً جديدة لاستغلال موارده المعدنية في الصحراء    ملعب آيت قمرة.. صرح رياضي بمواصفات عالمية يعزز البنية التحتية بإقليم الحسيمة    تنظيم النسخة 13 من مهرجان العرائش الدولي لتلاقح الثقافات    بعد صراع مع المرض...ملك جمال الأردن أيمن العلي يودّع العالم    مزاد يبيع ساعة من حطام سفينة "تيتانيك" بمليوني دولار    ارتفاع أسعار النفط بعد تصاعد حدة التوتر بين روسيا وأوكرانيا    تراجع النمو السكاني في المغرب بسبب انخفاض معدل الخصوبة.. ما هي الأسباب؟    مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار يدعو إلى وقف النار في السودان    وقفة احتجاجية بمكناس للتنديد بالإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة    خبراء يحذرون من "مسدس التدليك"    شبيبة الأندية السينمائية تعقد دورتها التكوينية في طنجة    دراسة علمية: فيتامين "د" يقلل ضغط الدم لدى مرضى السمنة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    حشرات في غيبوبة .. "فطر شرير" يسيطر على الذباب    دراسة تكشف العلاقة بين الحر وأمراض القلب    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دقّات سَاعَةُ مُنْتَصَفِ اللَّيْل..إِطْلاَلَةٌ عَلَى مَشَارِفِ المَجْهُول!
نشر في هسبريس يوم 30 - 12 - 2015

ينتظرون ساعةَ الصّفر ، الكلّ يرقب،ويترقّب، وعِنْدَمَا تُقْرَعُ نَوَاقِيس مُنْتَصَف اللَّيْل، وتملأ الأجواءَ حرارةُ المكان، وتنطفئ الأضواءُ في كلّ ركن، يكون العناقُ تلوَ العناق، الصّادق منه، والمائق، والزّائف، والدّافئ الزّائد يتحوّل إلى نارٍ كاوية ، وتدورالأكْؤُسُ الدّهاق، وتتبعها الأكوابُ المُترعة حتى الثّمالة،وتُوزّع الصّحون الشهيّة، وتمتلئ البطونُ حتى التّخمة بالطعام المُزّ، والشّراب المُرّ، بعد أن تُوزّعُ الشموع الملوّنة،وتُعلّق القناديل المضيئة، وتوقدُ الشمعدانات المذهّبة ذات الأيدي الأخطبوطية المتشعّبة ،التي يكاد زيتها يضيئ حيناً، ويخبو حيناً آخر، تسطع أنوارُها فى رومانسيّة حالمة، خافتة،باهتة ،وتتراقص فتائلها فى خَجلٍ بفعل الرّقصات الصّاخبة ،وإهتزازات تنّورات الصّبايا الحِسَان، المكان يملأه الأثاثُ المزخرفَ، والأواني المزركشةَ، والألوان الزّاهية، والمآدبَ الفاخرة،والمصاطب العليا،ومشروبات الكوكتيل الشهيّة، وطحالب السّوشي اليابانية البحرية، وبطارخ الكافيار الرّوسيّة، والإيرانيّة،وشطائر سمك السَّلمون النرويجي المدخن !.وخلف النوافذ المُشرعة تتراءى من بعيد الشهُب الإصطناعية البرّاقة التي تملأ الفضاءَ الفسيح، والحديث ذو شجون بين الجميع، يجرّ بعضُه بعضاً، يفرحون، يمرحون، يعبثون، يتشاجرون، يتصالحون، يصيحون، يغنّون، ويهلّلون،وهم دافئون..
مُنتصف اللّيل..
ها قد جاءت ساعةُ الصّفر تُجَرْجِرُ أذيالها إلينا،ومنّا تدنو ، وتقتربُ معها لحظةُ الهَوَس، والنَّزَق، والفرح والمرح، وها قد أزفتْ هنيهةُ (توديع عامٍ– وإستقبال آخر) .. فإذا بالكلّ يصيح.بصوتٍ جهوري: أطفئوا المصابيحَ بُرهة.... ثمّ أوقدوا الشّموعَ، وانشروا الأنوارَ،وانثروا الضّياء ..سترى الوجوهَ باشّةً هاشّة ً ضاحكة، وترى القلوبَ تخفق سعادةً وهناءةً وحبوراً، وتلمح الأيدي، وهي تمتدّ في جَذلٍ نحو أخرى لتُصافحَهَا مهنّئةً إيّاها بإنسياب حِقبةٍ من الزّمان وإنقضائها، وبزوغ أخرى. كلّ المدن، والحواضرالكبرى ستسبحُ في ثبجِ فضاءٍ أثيريٍّ بهيج ، وأضواءُ النيّون ستملأ الدّنيا، وستنتشرُ،وتسطعُ في أماكان بعينها، وسوف يستمرّ الظلامُ الدامسُ مُطبِقاً في أماكن أخرى، كثيرون منّا يجهلونها ، قليلون منّا يعرفونها ..ستعاقرُ الكؤوسُ بعضَها بعضاً، ستنفرِجُ الأشداقُ من فرط القهقهات ، وتزيغُ العيونُ من فرط النظرات ، وتنتفخُ الأوداج، وتتيه العقول .
ويظلّ آخرون ..المنسيّون يلفّهم البردُ الزّمهريرالذي يَصْلىِ المَقْرورَ، ويُبيحُ كلّ محظور، ويُجمّد الثلجَ الصقيع المتكاثف الجسومَ الهزيلة، وأبدانَ عاصبي البطون النحيلة، الذين يمزّقُ أوصالَهم الطّوىَ ، ويُغلفهم البؤسُ والتعاسةُ، ويسكنهم الضنكُ، وتسربلهم الكآبة،هناك دائماً وفرة، وزيادة، وغزارة ،وهناك تضخّم فائض، أو فيضٌ متتضخّم،ولكن بالمقابل دائماً ثَمَّةَ عَوَزٌ، وخصَاصَةٌ ،وفاقةٌ،وفقرٌ، وإحتياج ،وقبضٌ من ريح، وحصادٌ من هشيم ، ولفحةٌ لاسعة من برد قارس.
ها قد حال الحَولُ،إذن ودار الزّمانُ، وعمّا قريب سيواريَ عام ٌ، وتتوارىَ معه أحزانُنا، وأتراحُنا، وبعضُ أفراحِنا، وجذلِنا،ومآسِينا، ونستقبلُ في ذاتِ الوقتِ عاماً جديداً لا زالت أيامُه، ولياليه في طيّ المجهول،وخبايا الكِتمان ،وعِلم الغيْب. ها هو ذا عامٌ آخر من أعوام البشرية قد هَوَى، وإنْزَوَى، وَمَضَي أوكاد إلى حالِ سبيله، لينسابَ كالسّيلِ العارمِ العَرَمْرَم، أوالأتيِّ المنهمِر الضّائع فى طيّات الزّمن،وثنايا النّسيان، وثبج السّنين، وفى معارج طباق السّماوات ، ومدارج سديم الفضاءات السّرمديّة الأثيريّة، اللاّنهائية، واللاّمنتهية، واللاّمتناهية لينضمّ إلى سلسلةِ عقودِ الأعوام المنصرمة التي ولّت،ومضت، وإنقضت، وذهبت لحال سبيلها بدون رجعة..!
بودلير..وأزهارُه
كان" بودلير" يكره الليل،لأنه كانت تقوى فيه عليه وتتفاقمُ آلامُه المُبرحة،كانت تتراءى له فيه هوّة عميقة ،حالكة ، سحيقة، لا قعر، ولا قاع لها أودت به فى آخر المطاف إلى التّوى، ثمّ فى جُنحه حاق به الرّدى،فقد كان يشمّ فيه- كما كان يقول- رائحة القبور.أواني الورد لديه، ومزهريّاته لا تكلّل سوى ب" أزهاره الشرّيرة" الملعونة، وهو معذورٌ على كلّ حال ، فهو فنّان معنّى، ومُبدعٌ معذّب، وعليل لا يشاطر الناسَ، ولا السّامرين شغفَهم بالليل، وهيامَهم بحلكته،إنه نقيضُهم على آخر الخط، وهو يعي جيّداً ما يقوله ويعنيه.
طاغور.. وليلُه
وهذا "طاغور"العظيم في " إنتقام الطبيعة" نراه يؤكد أنّ إنشطارالليل والنهار لايهمّه،ولا إنقسام الشهور،ولا الأعوام ، فتيّار الوقت عنده قد توقّف ، يرقص الزّمنُ على أمواجه، و يتمايل القشّ و تميس الأغصان،هو وحيدٌ تراه، مُجندلاً، كئيبباً، وحيداً في هذا الكهف المظلم المدلهمّ، منغمراً في نفسه ، منهمكاً في ذاته، منهوكاً بفكره ،والليل الأسودُ، الأبديّ، البهيمُ ،ساكنٌ كبحيرة جبلٍ نائيةِ المَدىَ، بعيدةُ الغُور،عميقة القرار، تخافُ عمقَها نفسُه ،الماء ينضحُ، ويرشقُ،وينساب، ويقطر من الشقوق المُبلّلة، وفي البِّرك الناتئة، والغُمُر المُوحلة، والتِّرع الآسنة تسبح الضفادعُ العتيقة ، إنّه حبيسُ ذاتِه ،ينشد ترتيلةَ اللاّشئ... إنّه حرّ.!
الليل ..سارق الضّياء
قديماً كانت الأسطورة تقول: كان البدائيّون يبكون أفولَ الشمس ، وغيابَ القمر،وكانوا ينتحبون سدولَ الليل،ذلك أنّ الليلَ كان يسرق منهم الضياء، ويحرمهم من الدفء، ويطويهم تحت جبّته العملاقة الحالكة ، ويبتلع كلّ شئ..والآن تَرَى النَّاسَ يهلّلون لمقدمِ الليل، ويضجرون من وضح النهار،ذلك أنّ الليلَ فى عُرفهم ساكنٌ،راكنٌ هادئٌ، حالم سماوى،لا حرّ ولا قرّ فيه،من أين يأتي الحرُّ، ومن أين يجيئ القرّ ،وهناك العديد من المدفآت،والمبرّدات،ومكيّفات الهواء، والمراوح،والرّيش، والطنافس،والسجاجيد، والألحفة التى بمقدورها التحكّم في قيظ الحرارة، أولسعة البرد حسبما شاؤوا،أوأرادوا،إنّهم مُحقّون في ذك لا ريب ،فالنّهار ليس لهم، إنّه للكادحين، والعسيفين،المُتعبين، الذين يعملون في الحقول، والمغاور، والمعامل، والمَصانع، والمَزارع، والمَقالع، والمَدامع، والمَعادن،أمّا الليل فهو ملك لهم ، أفرأيتَ إذن كيف إنقلبت الآية..؟ أفرأيتَ الآن كيف أنّ النّاس يتشاءمون،ويتثاءبون،ويستاؤون من غياب النّهار، وغروب الشمس..؟! ،
تفاقمتِ الحروبُ وحَمِيَ وَطِيسُها
الكلّ يصيح ،والكلّ يرقص طرباً ،ويضحكُ جذلاً بفرحة مَقدم العام الجديد،منتشياً، ومغتسلاً بغمرة... بل ب..( إقرأ بدلَ الغين خاءً) الدّوالي والكروم، وبهاجس إنسياب الزّمن، وزواله وإندثاره، فتنضحُ عنه ،ويستبشرُ بها خيراً في إستقبال العهد القادم المهروِل، تُرىَ ماذا يحمل تحت جناحيه وأعطافه هذا اليعسوب الأثيريّ الطنّان الذي لا يتوقّف عن الزَنِّ والتحليق منذ الأزلْ، ولم يزلْ، تُرىَ ماذا يُخفي في طيّاته وثناياه..؟ أَ شَهْداً حُلواً مُصفّى وتَمْرَا..؟ أم حنضلاً مُرّاً وصِبْرا..؟ الكلّ ينشد السعادةَ،والهناءةَ، في عالمٍ مشحونٍ بالرّداءة،والكآبة، والشّقاء.
تفاقمت الحروب ، وزادت نارها، وإشتعل أوارها،وحمي وطيسُها، نمتْ وإستشرت الفِتنُ، والقلاقلُ، و وتفجّرت الثوراتُ في مختلف أصقاع المعمور ، وفي أماكنَ بعينها من العالم ما زالت رحى الحرب الممقوتة تدور بثقالها وثفالها الكريهة وستظلّ إلى أجَلٍ غيرِ معلوم ..في تلك البقعة النائية من العالم حيثُ القومُ الذين وُهِموا بالهداية والنّصر،ما برحوا يحتسون نُخبَ العام الجديد في جماجم بشرية ، أنا، وأنت، وهو، والآخرون يعرفون أين تقع هذه الأرضُ الطيّبة ..إنها حيث يتسلّل الصيّادون ليلاً بفِخاخ البشر،وحشيتُهم أحدُّ فتكاً من أنياب الذئاب، وكبرياؤهم أشدّ عمىً من الآجام المظلمة، لننسَ أو لنتناسى قليلاً ..هكذا يقولون، كفانا هُراءً، وهرطقةً، وزندقةً، وتفلسفاً،وإفلاساً، وتذمّراً،وتنمُّراً، وتنطّعاً، وشكوىَ ، فلنعانقْ، ولنعاقرْ ولنحتفِ، ولنمحِ من ذاكرتنا كلَّ شئ، ولو إلى حين،ولنجعلْ بيننا وبين الأحزان، والأشجان،والأدران برزخاً واسعاً،وهوّةً سحيقة عميقة.
الماضي فاتَ والمُؤمّلُ غَيْبٌ
الشّاعر البدين (جسماً) والرقيق (إحساساً) الذى عندما وضع يوماً عمّته وجبّته من على رأسه وبدنه الضّخم فى الأزهر وإنصرف، وَضَعَ معهما كذلك كلَّ همومِه وأحزانِه ،وأتتهُ الجرأةُ، والجَّهر بالحقيقة..حقيقة الموقف الفادح، فصاحَ ذاتَ يومٍ والخلاّنُ يمرحون، والإخوانُ يصيحون مهنّئين إيّاه :" كلّ سنة وأنت طيّب يا سّى كامل .. صحّ النّوم "فصاح فيهم منشداً، مغتمّاً،مهموماً، كئيباً، حزينا :
عُدْتَ يا يومَ مَوْلدِي/ عُدْتَ يَا أيّها الشقيّ
الصِّبا ضَاعَ من يدِي/ وَغَزَا الشَّيْبُ مَفْرِقِي
الشّاعر المُعنّى كامل الشنّاوي، فى رحلة عمره ، كان فى كلّ خطوة من خطواته يشبّ فى قلبه حريق، ويضيع من قدمه الطريق، كان صادقاً مع نفسه، ومع خلاّنه،ومع إخوانه،ومع واقعه لحظة تقييمه ليوم مولده، فقد خالف الناسَ في عُرفهم ،إنّه يتوجّس خيفةً وهلعاً ورهبةً من هذا اليوم ،لأنّه يعرف مدَى فداحة الموقف بالنسبة له وللآخرين،فهو لم يُخْفِ وجهَه،ولم يُدارِ مُحيّاه في الرِّمال كما فعل غيرُه، وإنساق وراء القطيع ،بل إنّه رفع رأسَه، واشرأبّ بعنقه عالياً،سامقاً، ليُدينَ الزَّمنَ القاهر، الذى لا يتوقّف عن الدَّوَرَان حتى يصادف اليومَ المشهودَ الذي زُجَّ به بدون إستشارته في هذا العالم المشحون بشتّى ضروب العُنف، والعَنت،والتنكيل، والشقاء، والمُعاناة. ولئن قُرِنَ الكلامُ هنا بعيد ميلادِ شخصٍ، فذلك لأنَّ له إرتباطاً وثيقاً به، وفيه مَعنىً متقارب جدّاً بالنسبة لإنقضاء عام، وقدوم آخر،هذا العام في الواقع هو بمثابة عيد ميلاد للبشر جميعا، أو للبشرية جمعاء،ذلك أنّ كثيرين منّهم يشتركون في الإحتفال، والإحتفاء به جماعةً في كلِّ مكان، ففيه ترتفع الأهازيجُ، وتعلو أصوات الشّدو، والطرب، والغناء، والسّماع، وصلةُ كلّ هذه المعاني هي إلى الألمِ، والحزنِ، والأسى، والشّجن أقربُ منها إلى الفرح، والمرح ،والسعادة،والجّذل، والغِبطة والحبور، ومع ذلك تراهم يتمادوْن في لامبالاتهم، ويتظاهرون بأنّهم سُعداء ...وقد يكون صنيعُهم ذاك من باب الإنتقام، وإغتنام الفرص وَعَمَلاً بنصيحة " الخيّام " القائل في هذا القبيل أن تمتّع بيومك قبل غدك،فمن أدراك أنّك راءٍ أو مُدْرِكٌ هذا الغدَ المجهول،أو من باب : الماضي فاتَ والمُؤمّلُ غَيْبٌ / ولكَ السّاعةُ التي أنتَ فِيهَا .
إنّه كلام يتناثر،ويتطايرفي الفضاء ،تماماً كما تناثروتطاير في القديم كلامُ مَنْ شَيّد في أخيلته مُدناً فاضلة ،وأقام فيها صروحاً وقصوراً ولكن العدالةَ ظلّت فيها طائراً حسيراً، كسيرَ الجناحين يحلّق بالكاد حولها، لا يَشمُّ سوى رائحةَ الظلم،والعنت،والتفاوت في كل مكان، واليومَ لم يعد ثمةَ أناس من هذا النّوع،فقد أصبحوا في عُرف الآخرين شبيهين بالحَمْقى أو بالمجّانين الذين يُفنون أعمارَهم في الأوهام،والأحلام، والخيالات،والترّهات التي لا طائلَ تحتها . بل ربّما كان هؤلاء هم الذين يعانون أكثرَ من غيرهم مختلفَ ضُروب البّؤس، والتعاسة، و الضنك،النكد، والحرمان ،بعد أن كسدت أسواق الفكرالخلاّق، ونشطت حركاتُ التقاليع الرّخيصة في كلّ شئ،فى دنيا الفنون، والجنون، والمجون من كل ضرب، ربّما كان هؤلاء أكثرَ حظّاً، وجَدّاً ، وحُظوةً من أولئك في الحياة الرّغدة.
شجيرات الصّنوبر
ألا ترى الناسَ هذه الأيام، وفي هذه التواريخ بالذّات يهيمون مُسرعين،ومُهرولينً، يذرعُون الشّوارعَ، ويجوبون الأزقةَ والدّروبَ، يجرون عاجلين فوق البسيطة، ويزحفون تحتها، ويطيرون فوقها في الفضاء اللاّمتناهي الفسيح، ويغوصون فى أعماق البحار، وفى أغوارالمُحيطات، ويتزلّجون فوق لججها وأمواجها، ويقطعون الصّحارى والقفار؟،والمَفاوز،والمهامه،والآكام،والآجام، لعلّك سمعتَ هذه الأيّام عن حركات،وتحرّكات الطيران غير الإعتياديّة، وعن إقلاع السّفن، والبواخر، وإنطلاق السّيارات،والقطارات وسواها من وسائل النقل،والسّفر،والتِّنقال، والترحال في جميع أنحاء المعمور ؟! فإنّك لو إطّلعت على الأعداد الهائلة من المُسافرين،والمتنقلين،والمغامرين، والرُحّل في هذه المناسبات لذُهِلتَ من الأرقام التي تنطق بها الإحصائيات في هذا القبيل .إنّهم يتسارعون على غيرِ هُدىً منهم، وعلى غير عادتهم، يُسرفون، ويبذرون،يقتنون الحاجيات، والآليات، والمأكولات، والمشروبات، والهدايا،والهبات بِشَرَهٍ وَنَهَمٍ وبدون حساب، ويقتلعون شجيراتِ الصّنوبر الغضّة،ويجلبون أغصانَ الأَرز اليانعة التي نحن في مسيس الحاجة إليها في هذه الأطوارالعصيبة التي يجتازها العالَمُ المتحضّر،والمتصحّر أو فى طريق التصحّر..! وتماشياً مع سياسات الحفاظ على البيئة، وإحترام الطبيعة، وَصَوْن الأدغال والغابات، و الدفاع عن المحميّات الطبيعيّة، والإيكولوجية من كلّ نوع، بل نحن في حاجةٍ إليها أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، لنستظلَّ بظلالها ،ونستمتع برونقها، و ننعم ببهائها، وببساقتها،وبساتنها، ونضارتها، وجمالها الخلاّب . كم أنتَ قاسٍ أيّها الإنسان، كيف تسمحُ لنفسك ؟ وكيف يتمادى بك الغيُّ، ويبلغُ بك الغرورُ لتتطاول وتتجنّى على الطبيعة أمّنا الكُبْرىَ، وتقتل، وتقتلع بغطرسة وتجبّر تلك الشّجيرات البريئة لتجعلها زينةَ، وقتيةَ، عابرة في منزلك، تغمرها بالباقات، والبطاقات،والياقات،والورقات، والأضواء، والألوان ،لتطوف حولها وأنت ثملٌ عديم الإحساس بها، وبما، وبمن حولها في لحظاتٍ كان أجدرَ بك فيها تعميق فكرك،وإعمال نظرك فيما يدور حولك ويمور من أمور،وما يجري فى هذا العالم من رزايا،وخطايا،وقضايا، وأهوال، وويلات .البشريةُ غزا الشيبُ مفرقَها كذلك مثل شاعرنا المكلوم إيّاه، وأضاعت عمرَها هباءً منثوراً في ويلات التقاتل، والتطاحن، والتشاكس، والمواجهة، والمعاداة، والبغضاء.لعلّ هذه الأمور تجعلنا نأسى ونتأسّى، وتبعثُ اللّوعةَ، والحزنَ، والضّنكَ في الأنفس الملتاعة المعنّاة.،وظلمُ البشرية لا ينحصر في بني طينتها وحسب، بل إنه يطولُ حتّى الطبيعةَ،أمّنا الأولى، ومختلفَ الكائنات الحيّة المحيطة بها ، فالإنسان هو الكائن الوحيد في عالم الأحياء و" العُقلاء"! الذي يقتلع الأشجارَ ويصنح من لحائها ورقاً ويكتب عليه : ( حافظوا على الطبيعة..!) وهو الوحيد الذي يقتلُ فقط للإستمتاع وإشباع رغبة الإنتقام في نفسه الآمرة،أو الأمّارةُ بالسّوء، ومن ثمّ تلك المباريات المنظّمة، وغيرالمنظّمة في عالم الصّيد، والقنص، والطّرد .
أعوام.. وأعوام
هناك من السّنين ما تنطبع أحداثُها في أذهاننا ،وتسكنُ وجدانَنا ولا نجد لها أو منها مناصاً ،ولا فكاكاً،في حين أننا نمرّ بأعوامٍ، أوبالأحرى تمرُّ بنا أعوامٌ لا نقيم لها وزناً، أوحساباً، ولا نعيرها أهميّة وإهتماماً،وكأنّنا لم نعشها قط ّ من أعمارنا ،قيمة هذه الأعمار أو الأعوام إذن تكمنُ فيما نقدّمه خلالها من أعمال،وما نؤتيه فيها أو تأتينا به من مفاجآت.
ما إنفكّت الحضارةُ المعاصرة تحملُ إلينا عشرات المفاجآت كلّ يوم ، فما كنّا نخاله بالأمس خرافةَ أضحى اليومَ حقيقةَ ماثلةً حيالَ أعيننا،وما كنّا نظنّه أسطورةً أضحى اليوم واقعاً ملموساً نصبَ أنظارنا ،وهكذا لم نعد نفرق بين الأحداث حتى أصبحنا نؤرّخ لها بالأعوام ، تماماً كما كان أجدادنا يفعلون، فذاك عندهم كان عامَ الطوفان،وعامَ الفيل ، وعام ولادة السيّد المسيح ،وعام الهجرة النبوية الشّريفة،وعام الفتنة..وما أدراكَ ما الفتنة،وعام الحملة النابليونية على مصر، وعام المجاعة، وعام الفتح،وعام النهضة إلخ ، وها قد أصبحنا نقول نحن اليوم كذلك كما كان أجدادنا يقولون ..هذا عام إندلاع الحرب الكونية، وذاك العام الذي وضعت فيه الحربُ أوزارَها،وتينك كانت سنة وعد بلفور المشؤوم، وأعقبه عام النّكسة اللعين، وعام فضيحة واترغيت، وعام الصّعود الى القمر، وعام الهبوط منه..! وعام مهازل ويكيليكس،وعام التسونامي،وعام الإيبولا،وعام الظلام.. وعام الرّبيع العربي... وخريفه،وشتاؤه وقيظه كذلك...!
على مَشَارِفِ المَجْهُول
دقّات ساعة مُنتصف اللّيل..إطلالةٌ على مشارف المجهول، وَوَقْعُ خطواتٍ على مجاهيل، وغياهب عتبات عام جديد،لابدّ أنّه يحمل في طيّاته، وثناياه كثيراً من التخوّفات، والتوجّسات، والتساؤلات،والإستفسارات، والإرهاصات، و الآمال،والتطلّعات، والآلام معاَ،إنها لعبة الجَدّ، أوالحظّ كما وصفها أبو الطيّب المتنبّي ذات يوم، التي تبتسمُ حيناً في وجه هذا، وتكشّر طوراً في مُحيّا ذاك، وهكذا حتى تفضُلَ فيه العينُ أختها، أوحتى يكون فيه اليومُ لليومِ سيّدا. وأنت أيّها العام المنقضي ،لقد ودّعنا فيك،وخِلاَلَك، ومعك بألمٍ مُمضّ صفوةَ من أصدقائنا، وثلّة من أحباّئنا، وخلاّننا ،ومعارفنا ممّن كنّا نتعايش معهم ،وكانت تربطنا بهم علائقّ حبٍّ، ونسجنا وإيّاهم عُرى مودّة وإخاء، وأقمنا معهم وشائجَ صفاء، ونقاء، ووفاء. فواعاماه... وواحسرتاه عليكَ أيّها الحَوْلُ النّكد ... وتبّاً لك أيّتها الأيّام، بل أيّتها الأعوام لقد تأسّى من قسوتك، وتشكّى من فداحتك، السّابقون، وها أنتِ ما فتئتِ تنوئين بكاهلنا، وتثقلين بكلكلكِ ظهورَنا، وتتوالين مُهرولةً غير عابئةٍ، لا تلوين على شئ، مُنثالةً، مُسرعةً، تنهبين أعمارَنا نهباً مُخيفاً،وتعصفين بحياواتنا عصفا مُريعا، ومع ذلك نظلّ نأمل،ونتأمّل،ونرفع رؤوسنا، ونجيلُ بأعيننا إلى السّماء نحدّق فيها بإمعان، كأننا نستلطفها، ونستعطفها أمراً مّا كامناً في كنه أنفسنا، وفى أعماق أفئدتنا، وفى قرارة وجداننا ، في مطلع هذا الحَوْل الجديد الذي ها هو ذا يدنو منّا رويداً رويداً،ووئيداً وئيدا،.. ويكادُ يطلّ، ويهلّ علينا خجولاً من وراء الغيب السّرمديّ، وألسنةُ حالنا وأحوالنا تتوقّف برهةً ، حتى نمعن النظر ،ونعمل العقل فى هذه اللحظة الحاسمة الفارقة بين عام فات ، وعام آت، ألم يئن وقتُ الصّلاة، وتلاوة ترانيم مباركة لنردِّدَ مع "آغا ممنون" المنكود الطالع، والخائب الظنّ، والبَّخْس الرّجاء، وتقول بصوتٍ جهوريّ : ليْتَ هذا اليَأسُ يَتْلُوهُ الرّجَاء / ليْتَ هذا العَامُ يأتيِ بالضّيَاء ..!.
* عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- ( كولومبيا) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.