لقجع: الحكومة لا تعمل على مأسسة الفقر    المنتخب المغربي يقسو على مُضيفه المنتخب الغابوني بخماسية    عصبة الأبطال الإفريقية للسيدات (المغرب 2024).. الجيش الملكي يبلغ المربع الذهبي بفوز مقنع على جامعة ويسترن كيب (2-0)    جثة متحللة عالقة في شباك قارب صيد بسواحل الحسيمة    رئيس الحكومة الإسبانية يشكر المغرب على دعم جهود الإغاثة في فيضانات فالينسيا    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2025    وزيرة مغربية تستقيل من الحكومة الهولندية بسبب أحداث أمستردام    الركراكي يكشف تشكيلة الأسود لمواجهة الغابون    زخات مطرية مصحوبة بتساقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية بعدد من أقاليم المملكة    جائزة المغرب للشباب.. احتفاء بالإبداع والابتكار لبناء مستقبل مشرق (صور)    شراكة مؤسسة "المدى" ووزارة التربية    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    الصحراوي يغادر معسكر المنتخب…والركراكي يواجه التحدي بقائمة غير مكتملة    جورج عبد الله.. مقاتل من أجل فلسطين قضى أكثر من نصف عمره في السجن    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت" (فيديو)    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكشف عن قائمة الأسماء المشاركة في برنامج 'حوارات'    خناتة بنونة.. ليست مجرد صورة على ملصق !    جدد دعم المغرب الثابت لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة :جلالة الملك يهنئ الرئيس الفلسطيني بمناسبة العيد الوطني لبلاده    المغرب: زخات مطرية وتياقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    حماس تعلن استعدادها لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب للضغط على إسرائيل        إجلاء 3 مهاجرين وصلوا الى جزيرة البوران في المتوسط    حماس "مستعدة" للتوصل لوقف لإطلاق النار    "السودان يا غالي" يفتتح مهرجان الدوحة    مكتب الصرف يطلق خلية خاصة لمراقبة أرباح المؤثرين على الإنترنت    لوديي يشيد بتطور الصناعة الدفاعية ويبرز جهود القمرين "محمد السادس أ وب"    اقتراب آخر أجل لاستفادة المقاولات من الإعفاء الجزئي من مستحقات التأخير والتحصيل والغرامات لصالح CNSS    المركز 76 عالميًا.. مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية يصنف المغرب ضمن خانة "الدول الضعيفة"    قتلى في حريق بدار للمسنين في إسبانيا        هذه اسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    كارثة غذائية..وجبات ماكدونالدز تسبب حالات تسمم غذائي في 14 ولاية أمريكية    الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق        تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سَاعَةُ الصِّفْرِ قَدْ أَزِفَتْ..أَوْقِدُوا الشُّمُوع !
نشر في هسبريس يوم 30 - 12 - 2014

ها قد جاءت ساعةُ الصّفر تُجَرْجِرُ أذيالها إلينا،ومنّا تدنو ، وتقترب معها لحظةُ الهَوَس، والنَّزَق، والطيش، وهنيهة (الوداع – الإستتقبال) ها قد أزفتْ.. فإذا بالكلّ يصيح.بصوتٍ جهوري: أطفئوا المصابيحَ....أوقدوا الشّموعَ، والأنوارَ..وانثروا الضّياء ..سترى الوجوهَ باشّةً هاشّة ً ضاحكة، وترى القلوبَ تخفق سعادةً وهناءةً وحبوراً، وتلمح الأيدي، وهي تمتدّ في جذلٍ نحو أخرى لتُصافحَهَا مهنّئةً إيّاها بإنسياب حِقبةٍ من الزّمان وإنقضائها، وبزوغ أخرى. كلّ المدن، والحواضرالكبرى ستسبح في ثبجِ فضاءٍ أثيريٍّ بهيج . أضواءُ النيّون ستملأ الدّنيا، وستنتشرُ،وتسطعُ في أماكان بعينها، وسوف يستمرّ الظلامُ الدامسُ مُطبِقاً في أماكن أخرى، كثيرون منّا يجهلونها ، قليلون منّا يعرفونها ..ستعاقرُ الكؤوسُ بعضَها بعضاً، ستنفرِجُ الأشداقُ من فرط القهقهات ، وتزيغُ العيونُ من فرط النظرات ، وتنتفخُ الأوداج، وتتيه العقول.
حرارةُ مُنتصف اللّيل
الكلّ ينتظر ساعةَ الصّفر ، الكلّ يرقب،ويترقّب،وعندما تملأ المكانَ حرارةُ منتصفِ الليل، وتنطفئ الأضواءُ في كلّ مكان، يكون العناقُ تلوَ العناق، الصّادق منه ,والمائق، والزّائف، والدّافئ الزّائد يتحوّل إلى نارٍ كاوية ، وتدورالأكْؤُسُ، وتتلوها الأكوابُ حتى الثّمالة،وتُوزّع الصّحون، وتمتلئ البطونُ حتى التّخمة بالطعام المُزّ، والشّراب المُرّ،بعد أن تُوزّعُ الشموع الملوّنة،والقناديل المضيئة، وتوقدُ الشمعدانات المذهّبة ذات الأيدي الأخطبوطية المتشعّبة ،التي يكاد زيتها يضيئ حيناً، ويخبو حيناً آخر، تسطع أنوارُها فى رومانسيّة حالمة، خافتة،باهتة ،وتتراقص فتائلها فى خجلٍ بفعل الرّقصات الصّاخبة ،وإهتزازات تنّورات الصّبايا الحِسَان، ، االمكان يملأه الأثاث المزخرفَ،والأواني المزركشةَ، والألوان الزّاهية،والمآدبَ الفاخرة،والمصاطب العليا، ومشروبات الكوكتيل الشهيّة، وطحالب السّوشي اليابانية البحرية، وبطارخ الكافيار الرّوسيّة !.وخلف النوافذ المُشرعة تتراءى من بعيد الشهُب الإصطناعية البرّاقة التي تملأ الفضاءَ الفسيح، والحديث ذو شجون بين الجميع، يجرّ بعضُه بعضاً، يفرحون، يمرحون، يعبثون، يتشاجرون، يتصالحون،يصيحون،يغنّون،ويهلّلون،وهم دافئون..
وآخرون يلفّهم البردُ القارس الزّمهريرالذي يَصْلىِ المَقْرورَ، ويُبيحُ كلّ محظور، ويُجمّد الثلجَ الصقيع المتكاثف الجسومَ الهزيلة، وأبدانَ عاصبي البطون، الذين يمزّقُ أوصالَهم الطّوىَ ، ويُغلفهم البؤسُ والتعاسةُ، ويسكنهم الضنكُ، وتسربلهم الكآبة،هناك دائماً وفرة، وزيادة، وغزارة ،وهناك تضخّم فائض، أو فيضٌ متتضخّم،ولكن بالمقابل دائماً ثَمَّةَ عَوَزٌ، وخصَاصَةٌ ،وفاقةٌ،وفقرٌ، وإحتياج ،وقبضٌ من ريح، وحصادٌ من هشيم ، ولفحةٌ لاسعة من برد قارس.
ها قد حال الحَولُ،إذن ودار الزّمانُ، وعمّا قريب سيواريَ عام ٌ، وتتوارىَ معه أحزانُنا، وأتراحُنا، وبعضُ أفراحِنا، وجذلِنا،ومآسِينا، ونستقبلُ في ذاتِ الوقتِ عاماً جديداً لا زالت أيامُه، ولياليه في طيّ المجهول،وخبايا الكِتمان ،وعِلم الغيْب. ها هو ذا عامٌ آخر من أعوام البشرية قد هَوَى، وإنْزَوَى، وَمَضَي أوكاد إلى حالِ سبيله، لينسابَ كالسّيلِ العارمِ العَرَمْرَم، أوالأتيِّ المنهمِر الضّائع فى طيّات الزّمن،وثنايا النّسيان، وثبج السّنين، وفى معارج طباق السّماوات ، ومدارج سديم الفضاءات السّرمديّة الأثيريّة، اللاّنهائية، واللاّمنتهية، واللاّمتناهية لينضمّ إلى سلسلةِ عقودِ الأعوام المنصرمة التي ولّت،ومضت، وإنقضت، وذهبت بدون رجعة.!
بودلير، طاغور واللّيل
كان" بودلير" يكره الليل،لأنه كانت تقوى فيه عليه وتتفاقمُ آلامُه المُبرحة،كانت تتراءى له فيه هوّة عميقة ،حالكة ، سحيقة، لا قعر، ولا قاع لها أودت به فى آخر المطاف إلى التّوى، ثمّ فى جُنحه حاق به الرّدى،فقد كان يشمّ فيه- كما كان يقول- رائحة القبور.أواني الورد لديه، ومزهريّاته لا تكلّل سوى ب" أزهاره الشرّيرة" الملعونة، وهو معذورٌ على كلّ حال ، فهو فنّان معنّى، ومُبدعٌ معذّب، وعليل لا يشاطر الناسَ، ولا السّامرين شغفَهم بالليل، وهيامَهم بحلكته،إنه نقيضُهم على آخر الخط، وهو يعي جيّداً ما يقوله ويعنيه.
وهذا "طاغور"العظيم في " إنتقام الطبيعة" نراه يؤكد أنّ إنشطارالليل والنهار لايهمّه،ولا إنقسام الشهور، والأعوام ،فعنده تيّار الزّمن قد توقّف ، يرقص الزّمنُ على أمواجه، والقشّ والأغصان،هو وحيدٌ تراه، مُجندلاً، كئيبباً، وحيداً في هذا الكهف المظلم المدلهمّ، منغمراً في نفسه ، منهمكاً في ذاته،والليل الأسودُ، الأبديّ، البهيم ُساكنٌ كبحيرة جبلٍ نائيةِ المَدىَ، بعيدةُ الغُور،عميقة القرار، تخافُ عمقَها نفسُه ،الماء ينضحُ، ويرشقُ، ويقطر من الشقوق المُبلّلة، وفي البِّرك الناتئة، والتِّرع الآسنة تسبح الضفادعُ العتيقة ، إنّه حبيسُ ذاتِه ،ينشد ترتيلةَ اللاّشئ... إنّه حرّ.
قديماً كانت الأسطورة تقول: كان البدائيّون يبكون أفولَ الشمس ، وغيابَ القمر،وكانوا ينتحبون سدولَ الليل،ذلك أنّ الليلَ كان يسرق منهم الضياء، ويحرمهم من الدفء، ويطويهم تحت جبّته العملاقة الحالكة ، ويبتلع كلّ شئ..والآن تَرَى النَّاسَ يهلّلون لمقدمِ الليل، ويضجرون من وضح النهار،ذلك أنّ الليلَ فى عُرفهم ساكنٌ،راكنٌ هادئٌ، حالم سماوى،لا حرّ ولا قرّ فيه،من أين يأتي الحرُّ، ومن أين يجيئ القرّ ،وهناك العديد من المدفآت،والمبرّدات،ومكيّفات الهواء، والمراوح،والرّيش، والطنافس،والسجاجيد، والألحفة التى بمقدورها التحكّم في قيظ الحرارة، أولسعة البرد حسبما شاؤوا،أوأرادوا،إنّهم مُحقّون في ذك لا ريب ،فالنّهار ليس لهم، إنّه للكادحين، والعسيفين،المُتعبين، الذين يعملون في الحقول، والمغاور، والمعامل، والمَصانع، والمَزارع، والمَقالع، والمَدامع، والمَعادن،أمّا الليل فهو ملك لهم ، أفرأيتَ إذن كيف إنقلبت الآية..؟ أفرأيتَ الآن كيف أنّ النّاس يتشاءمون،ويتثاءبون،ويستاؤون من غياب النّهار، وغروب الشمس، ويهلّلون لمَقدمِ الليل..؟! ،
أدرانُ العام الآفل ومآسيه
الكلّ يصيح ،والكلّ يرقص طرباً ،ويضحكُ جذلاً بفرحة مَقدم العام الجديد،منتشياً، ومغتسلاً بغمرة... بل ب..( إقرأ بدلَ الغين خاءً) الدّوالي والكروم، وبهاجس إنسياب الزّمن، وزواله وإندثاره، فتنضحُ عنه ،ويستبشرُ بها خيراً في إستقبال العهد القادم المهروِل، تُرىَ ماذا يحمل تحت جناحيه وأعطافه هذا اليعسوب الأثيريّ الطنّان الذي لا يتوقّف عن الزَنِّ والتحليق منذ الأزلْ، ولم يزلْ، تُرىَ ماذا يُخفي في طيّاته وثناياه..؟ أَ شَهْداً حُلواً مُصفّى وتَمْرَا..؟ أم حنضلاً مُرّاً وصِبْرا..؟ الكلّ ينشد السعادةَ،والهناءةَ، في عالمٍ مشحونٍ بالرّداءة،والكآبة، والشّقاء.
ما إنفكّت البشرية بخير ، قلّت الحروب الكبرى، وهدأت نارها، وخبا أوارها،وبرد وطيسُها، ونمتْ بالمقابل، وإستشرت الفِتنُ، والقلاقلُ، والثوراتُ في مختلف أصقاع المعمور ،ما عدا في أماكنَ بعينها من العالم حيث لابدّ أن تظلّ فيها رحى الحرب الممقوتة تدور بثقالها وثفالها الكريهة إلى أجَلٍ غيرِ معلوم ..في تلك البقعة النائية من العالم حيثُ القومُ الذين وُهِموا بالنّصر،ما برحوا يحتسون نُخبَ العام الجديد في جماجم بشرية ، أنا، وأنت، وهو، والآخرون يعرفون أين تقع هذه الأرضُ الطيّبة ..إنها حيث يتسلّل الصيّادون ليلاً بفِخاخ البشر،وحشيتُهم أحدُّ فتكاً من أنياب الذئاب، وكبرياؤهم أشدّ عمىً من الآجام المظلمة، لننسَ أو لنتناسى قليلاً ..هكذا يقولون، كفانا هُراءً، وهرطقةً، وزندقةً، وتفلسفاً،وإفلاساً، وتذمّراً،وتنمُّراً، وتنطّعاً، وشكوىَ ، فلنعانقْ، ولنعاقرْ ولنحتفِ، ولنمحِ من ذاكرتنا كلَّ شئ، ولو إلى حين،ولنجعلْ بيننا وبين الأحزان، والأشجان،والأدران برزخاً واسعاً،وهوّةً سحيقة عميقة.
لكَ السّاعةُ التي أنتَ فِيهَا
الشّاعر البدين (جسماً) والرقيق (إحساساً) الذى عندما وضع يوماً عمّته وجبّته من على رأسه وبدنه الضّخم فى الأزهر وإنصرف، وَضَعَ معهما كذلك كلَّ همومِه وأحزانِه ،وأتتهُ الجرأةُ، والجَّهر بالحقيقة..حقيقة الموقف الفادح، فصاحَ ذاتَ يومٍ والخلاّنُ يمرحون، والإخوانُ يصيحون مهنّئين إيّاه :" كلّ سنة وأنت طيّب يا سّى كامل .. صحّ النّوم "فصاح فيهم منشداً، مغتمّاً،مهموماً، كئيباً، حزينا :
عُدْتَ يا يومَ مَوْلدِي/ عُدْتَ يَا أيّها الصِّبا ضَاعَ من يدِي/ وَغَزَا الشَّيْبُ مَفْرِقِي
الشّاعر المُعنّى كامل الشنّاوي، فى رحلة عمره ، كان فى كلّ خطوة من خطواته يشبّ فى قلبه حريق، ويضيع من قدمه الطريق، كان صادقاً مع نفسه، ومع خلاّنه،ومع إخوانه،ومع واقعه لحظة تقييمه ليوم مولده، فقد خالف الناسَ في عُرفهم ،إنّه يتوجّس خيفةً وهلعاً ورهبةً من هذا اليوم ،لأنّه يعرف مدَى فداحة الموقف بالنسبة له وللآخرين،فهو لم يُخْفِ وجهَه،ولم يُدارِ مُحيّاه في الرِّمال كما فعل غيرُه، وإنساق وراء القطيع ،بل إنّه رفع رأسَه، واشرأبّ بعنقه عالياً،سامقاً، ليُدينَ الزَّمنَ القاهر، الذى لا يتوقّف عن الدَّوَرَان حتى يصادف اليومَ المشهودَ الذي زُجَّ به بدون إستشارته في هذا العالم المشحون بشتّى ضروب العُنف، والعَنت،والتنكيل، والشقاء، والمُعاناة. ولئن قُرِنَ الكلامُ هنا بعيد ميلادِ شخصٍ، فذلك لأنَّ له إرتباطاً وثيقاً به، وفيه مَعنىً متقارب جدّاً بالنسبة لإنقضاء عام، وقدوم آخر،هذا العام في الواقع هو بمثابة عيد ميلاد للبشر جميعا، أو للبشرية جمعاء،ذلك أنّ كثيرين منّهم يشتركون في الإحتفال، والإحتفاء به جماعةً في كلِّ مكان، ففيه ترتفع الأهازيجُ، وتعلو أصوات الشّدو، والطرب، والغناء، والسّماع، وصلةُ كلّ هذه المعاني هي إلى الألمِ، والحزنِ، والأسى، والشّجن أقربُ منها إلى الفرح، والمرح ،والسعادة،والجّذل، والغِبطة والحبور، ومع ذلك تراهم يتمادوْن في لامبالاتهم، ويتظاهرون بأنّهم سُعداء ...وقد يكون صنيعُهم ذاك من باب الإنتقام، وإغتنام الفرص وَعَمَلاً بنصيحة " الخيّام " القائل في هذا القبيل أن تمتّع بيومك قبل غدك،فمن أدراك أنّك راءٍ أو مُدْرِكٌ هذا الغدَ المجهول،أو من باب :
الماضي فاتَ والمُؤمّلُ غَيْبٌ / ولكَ السّاعةُ التي أنتَ فِيهَا .
إنّه كلام يتناثر،ويتطايرفي الفضاء ،تماماً كما تناثروتطاير في القديم كلامُ مَنْ شَيّد في أخيلته مُدناً فاضلة ،وأقام فيها صروحاً وقصوراً ولكن العدالةَ ظلّت فيها طائراً حسيراً، كسيرَ الجناحين يحلّق بالكاد حولها، لا يَشمُّ سوى رائحةَ الظلم،والعنت،والتفاوت في كل مكان، واليومَ لم يعد ثمةَ أناس من هذا النّوع،فقد أصبحوا في عُرف الآخرين شبيهين بالحَمْقى أو بالمجّانين الذين يُفنون أعمارَهم في الأوهام،والأحلام، والخيالات،والترّهات التي لا طائلَ تحتها . بل ربّما كان هؤلاء هم الذين يعانون أكثرَ من غيرهم مختلفَ ضُروب البّؤس، والتعاسة، و الضنك،النكد، والحرمان ،بعد أن كسدت أسواق الفكرالخلاّق، ونشطت حركاتُ التقاليع الرّخيصة في كلّ شئ،فى دنيا الفنون، والجنون، والمجون من كل ضرب، ربّما كان هؤلاء أكثرَ حظّاً، وجَدّاً وحُظوةً من أولئك في الحياة الرّغدة.!
أشْجَارُ الصَّنَوْبَرالغَضّة
ألا ترى الناس هذه الأيام، وفي هذه التواريخ بالذّات مُسرعين،ومُهرولينً يذرعُون الشّوارعَ، ويقطعُون الأزقةَ والدّروبَ، يجرون عاجلين فوق البسيطة، ويزحفون تحتها، ويطيرون فوقها في الفضاء اللاّمتناهي الفسيح، ويغوصون فى أعماق البحار، والمُحيطات، ويتزلّجون فوق لججها وأمواجها، ويهيمُون فى الصّحارى والقفار؟،والمَفاوز،والمهامه،والآكام،والآجام، لعلّك سمعتَ هذه الأيّام عن حركات،وتحرّكات الطيران غير الإعتياديّة، وعن إقلاع السّفن، والبواخر، وإنطلاق السّيارات،والقطارات وسواها من وسائل النقل،والسّفر،والتِّنقال، والترحال في جميع أنحاء المعمور ؟! فإنّك لو إطّلعت على الأعداد الهائلة من المُسافرين،والمتنقلين،والمغامرين، والرُحّل في هذه المناسبات لذُهِلتَ من الأرقام التي تنطق بها الإحصائيات في هذا القبيل .إنّهم يتسارعون على غيرِ هُدىً منهم، وعلى غير عادتهم، يُسرفون، ويبذرون،يقتنون الحاجيات، والآليات، والمأكولات، والمشروبات، والهدايا،والهبات بِشَرَهٍ وَنَهَمٍ وبدون حساب، ويقتلعون شجيراتِ الصّنوبر الغضّة،ويجلبون أغصانَ الأَرز اليانعة التي نحن في مسيس الحاجة إليها في هذه الأطوارالعصيبة التي يجتازها العالَمُ المتحضّر،والمتصحّر أو فى طريق التصحّر..! وتماشياً مع سياسات إحترام البيئة والطبيعة، وَصَوْن الأدغال والغابات، و الحفاظ على المحميّات الطبيعيّة، والإيكولوجية من كلّ نوع، بل نحن في حاجةٍ إليها أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، لنستظلَّ بظلالها ،ونستمتع برونقها، و ننعم ببهائها، وببساقتها،وبساتنها، ونضارتها، وجمالها الخلاّب . كم أنتَ قاسٍ أيّها الإنسان، كيف تسمحُ لنفسك ؟ وكيف يتمادى بك الغيُّ، ويبلغُ بك الغرورُ لتتطاول وتتجنّى على الطبيعة أمّنا الكُبْرىَ، وتقتل، وتقتلع بغطرسة وتجبّر تلك الشّجيرات البريئة لتجعلها زينةَ،وقتيةَ،عابرة في منزلك، تغمرها بالباقات، والبطاقات،والياقات،والورقات، والأضواء، والألوان ،لتطوف حولها وأنت ثملٌ عديم الإحساس بها، وبما، وبمن حولها في لحظاتٍ كان أجدرَ بك فيها تعميق فكرك،وإعمال نظرك فيما يدور حولك ويمور من أمور،وما يجري فى هذا العالم من رزايا،وخطايا،وقضايا، وأهوال، وويلات .البشريةُ غزا الشيبُ مفرقَها كذلك مثل شاعرنا المكلوم إيّاه، وأضاعت عمرَها هباءً منثوراً في ويلات التقاتل، والتطاحن، والتشاكس، والمواجهة، والمعاداة، والبغضاء.لعلّ هذه الأمور تجعلنا نأسى ونتأسّى، وتبعثُ اللّوعةَ، والحزنَ، والضّنكَ في الأنفس الملتاعة المعنّاة.،وظلمُ البشرية لا ينحصر في بني طينتها وحسب، بل إنه يطولُ حتّى الطبيعةَ،أمّنا الأولى، ومختلفَ الكائنات الحيّة المحيطة بها ، فالإنسان هو الكائن الوحيد في عالم الأحياء الذي يقتلُ فقط للإستمتاع وإشباع رغبة الإنتقام في نفسه الآمرة،أو الأمّارةُ بالسّوء، ومن ثمّ تلك المباريات المنظّمة، وغيرالمنظّمة في عالم الصّيد، والقنص، والطّرد .
التّأريخ القديم والتّأريخ الجديد
هناك من السّنين ما تنطبع أحداثُها في أذهاننا ،وتسكنُ وجدانَنا ولا نجد لها أو منها مناصاً ،ولا فكاكاً،في حين أننا نمرّ بأعوامٍ، أوبالأحرى تمرُّ بنا أعوامٌ لا نقيم لها وزناً، أوحساباً، ولا نعيرها أهميّة وإهتماماً،وكأنّنا لم نعشها قط ّ من أعمارنا ،قيمة هذه الأعمار أو الأعوام إذن تكمنُ فيما نقدّمه خلالها من أعمال،وما نؤتيه فيها أو تأتينا به من مفاجآت.
ما إنفكّت الحضارةُ المعاصرة تحملُ إلينا عشرات المفاجآت كلّ يوم ، فما كنّا نخاله بالأمس خرافةَ أضحى اليومَ حقيقةَ ماثلةً حيالَ أعيننا،وما كنّا نظنّه أسطورةً أضحى اليوم واقعاً ملموساً نصبَ أنظارنا ،وهكذا لم نعد نفرق بين الأحداث حتى أصبحنا نؤرّخ لها بالأعوام ، تماماً كما كان أجدادنا يفعلون، ويقولون، فذاك عندهم كان عامَ الطوفان،وعامَ الفيل ،وعام الهجرة،وعام الفتنة، وعام المجاعة، وعام الفتح، وها قد أصبحنا نقول نحن اليوم كذلك كما كانوا يقولون ..هذا عام إندلاع الحرب الكونية، وذاك العام الذي وضعت فيه الحربُ أوزارَها،وتينك كانت سنة وعد بلفور المشؤوم، وأعقبه عام النّكسة اللعين، وعام فضيحة واترغيت، وعام الصّعود الى القمر، وعام الهبوط منه..! وعام مهازل ويكيليكس، وعام الرّبيع العربي... وخريفه،وشتاؤه وقيظه كذلك...
على مشارفِ وغياهبِ المَجْهُول
ها نحن نقف على مشارف، ومجاهيل،وغياهب عتبات عام جديد،لابدّ أنّه يحمل في طيّاته،وثناياه كثيراً من التخوّفات،والتوجّسات،والتساؤلات، والإستفسارات، والإرهاصات، و الآمال، والآلام معاَ،إنها لعبة الجّدّ كما وصفها أبو الطيّب ذات يوم، التي تبتسمُ حيناً في وجه هذا، وتكشّر طوراً في محيّا ذاك، وهكذا حتى تفضُلَ فيه العينُ أختها، أوحتى يكون فيه اليومُ لليومِ سيّدا. وأنت أيّها العام المنقضي ،لقد ودّعنا فيك،وخِلاَلَك، ومعك بألمٍ مُمضّ صفوةَ من أصدقائنا، وثلّة من أحباّئنا، وخلاّننا ،ومعارفنا ممّن كنّا نتعايش معهم ،وكانت تربطنا بهم علائقّ حبٍّ، ونسجنا وإيّاهم عُرى مودّة وإخاء، وأقمنا وشائجَ صفاء، ونقاء، ووفاء. فواعاماه... وواحسرتاه عليكَ أيّها الحَوْلُ النّكد ... وتبّاً لك أيّتها الأيّام، بل أيّتها الأعوام لقد تأسّى من قسوتك، وفداحتك، السّابقون، وها أنتِ ما فتئتِ تنوئين بكاهلنا، وتثقلين بكلكلكِ ظهورَنا، وتتوالين مُهرولةً غير عابئةٍ، لا تلوين على شئ، مُنثالةً، مُسرعةً، تنهبين أعمارَنا نهباً مُخيفاً،وتعصفين بحياواتنا عصفا مُريعا، ومع ذلك نظلّ نأمل،ونتأمّل،ونرفع رؤوسنا، ونجيلُ بأعيننا إلى السّماء نحدّق فيها بإمعان، كأننا نستلطفها، ونستعطفها أمراً مّا كامناً في كنه أنفسنا، وفى أعماق أفئدتنا، وفى قرارة وجداننا ، في مطلع هذا الحَوْل الجديد الذي ها هو ذا يدنو منّا رويداً رويداً،ووئيداً وئيدا،.. ويكادُ يطلّ، ويهلّ علينا خجولاً من وراء الغيب السّرمديّ، وألسنةُ حالنا وأحوالنا تتوقّف برهةً ، حتى نمعن النظر ،ونعمل العقل فى هذه اللحظة الحاسمة الفارقة بين عام فات ، وعام آت،فلنصلّي، ونتلو ترانيم مباركة ونردِّدَ مع "آغا ممنون" المنكود الطالع، والخائب الظنّ، والبخس الرّجاء، وتقول : ليْتَ هذا العَامُ يأتيِ بالضّيَاء / ليْتَ هذا اليَأسُ يَتْلُوهُ الرّجَاء...!.
-كاتب من المغرب/عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم – كولومبيا - .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.