ما التراث ؟ : حينما نتحدث عن التراث فإننا نتحدث عن أفكار ومناهج ، ومذاهب وتيارات ، وإشكالات وحلول ، وثوابت ومتغيرات ، نتحدث عن نجاحات وإخفاقات حدثت في الماضي القريب والبعيد .... من التراث ما يمتد تأثيره إلى اليوم وما بعد اليوم ، ومنه ما قد نسي فلم يبق لذكره أثر ، منه ما كان سببا في وجودنا وإمدادنا بعناصر القوة والاستمرارية ، ومنه ما كان سببا في تفشي مظاهر الضعف فينا والوهن. وإذا كانت بدايات مسار التراث غائرة في الماضي ، متشعبة المصادر والروافد ، فإن نهاياته الحالية هو ما كتبناه وأنجزناه بالأمس القريب في سنتنا هذه وفي شهرنا هذا ، وما ننتجه اليوم هو تراث الغد ، ونحن وإن كنا خلف من قبلنا ، فنحن أيضا سلف من سيأتي بعدنا ، ما نحن في الأخير - شئنا أم أبينا - إلا حلقة من حلقات التراث . التراث مستمر بنا وفينا وعن طريقنا ، وينبغي أن نقر بأنه يضم تجارب وخبرات إنسانية تشمل الحق والباطل ، والصواب والخطأ ، وهو وعاء ضخم لا يكف عن التمدد والاتساع ، يتضمن خبرات اللغة والأدب ، والاجتماع والسياسة ، والفقه والفلسفة ، والعلم والنظر .... ويشمل أيضا – عند الكثير من الباحثين – الوحي ومعارفه ، ولا مشاحة في الأسماء إذا ضبطت المعاني . بين دعوات القطيعة ونزعات التصنيم : ليست الأفكار والمذاهب والاجتهادات معطيات معلقة في الهواء ، بل هي في ارتباط مع سياقات أنتجتها ، وضرورات اقتضتها ، وإكراهات فرضت وجودها ، وبتغير السياقات والضرورات و الإكراهات تفقد كثير من مضامين التراث واقتراحاته وحلوله مبررات وجودها ، وتصبح الاستعانة بها للإجابة عن أسئلة الحاضر أو الوصول إلى آمال المستقبل استعانة بجثث محنطة لا تملك من أمرها ولا أمر غيرها شيئا ، فمن اعتمد عليها اعتمد على سراب خادع يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد أوهاما يظنها علما وما هي بالعلم ، و يحسبها دينا وما هي بالدين ، وذلك وحده كفيل بإفساد الحاضر بالماضي ، والدنيا بالدين ، والدين بالأوهام ، ولا يوجد أضر على الناس من أوهام تسيطر على عقولهم باسم المعرفة دينية كانت أم غير دينية، فليس الجهل هو ما يفسد المجتمعات ، بل إن توهم المعرفة هو ما يدمرها ، وليس يلزم من هذا القول قبول دعوات الإعراض عن التراث ، ولا تبرير الفرار منه إلى غيره ، فذلك فضلا عن كونه غير ممكن وغير عملي ، هو أيضا غير مجد ولا نافع ، فالقطيعة مع التراث إضعاف للوعي وإفقار للثقافة ، وإفساد للتربة التي منها ينبت الإبداع العلمي والانسجام الاجتماعي . ومن المفارقات أن دعوات الإعراض عن التراث بإحداث القطيعة معه تلتقي بدعوات الانزواء داخله والاكتفاء به عن غيره ، فكلاهما في الكسل سواء ، وكلاهما في طلب الجاهز والسريع من الحلول سواء ، لا أفضلية لأحدهما على الآخر ، ومع اختلاف الوجهة والشكل ، تتحد صور العجز عن بذل الجهد في التفكير والإبداع ، وتفوضهما إلى من هو "أكثر علما " و "أرفع مقاما " . وإذا كان في مطلب الانزواء كثير من السذاجة في الفهم ، فإن في مطلب القطيعة كثير من السطحية في التنظير ، ذلك أن " القطيعة" لا معنى لها على وجه الحقيقة ، إلا نسيان هذا التراث ، فكيف يتحقق لهم هذا النسيان ؟ هل بالدعوة إلى إحراق كتبه ومدوناته ؟ لقد مضى زمن الإحراق ، ولم يكد يتحمل تبعاته أحد ، هل بالدعوة إلى عدم قراءة الكتب القديمة ؟ و من يملك حق إجبار الناس على هذا ؟ ومن يملك تحديد لوائح ما يقرأ وما لا يقرأ ؟ ومن له تحديد أهداف قراءات القراء إذا قرؤوا ؟ . لم يبق إلا إفراغ المقررات الدراسية من المضامين التراثية ، وهذا ما تمكن دعاة القطيعة منه بعض التمكن في بعض دول العرب ، لكن حفاظهم على ما تمكنوا منه أجبرهم على فعل ما أنكروه على خصومهم حينما أقبلوا هم أيضا إلى التراث يوظفونه ، فاستخدموا فكر المعتزلة وابن رشد وابن خلدون تارة ، وعرفان الباطنية وكشف ابن عربي تارة أخرى.... غرضهم في ذلك مواجهة دعاة "التطرف والتقليد " لكن بتطرف وتقليد مضادين ، وإنهم في ذلك لمكرهون ، فمتطلبات التغلب على " الخصم " واجتثاته تفرض ذلك . وهكذا وجد كل طرف في الآخر ما يغذي به أطروحاته ويبرر وجوده ، فتم الوقوف ضد نزعات " تصنيم " التراث بدعوات القطيعة معه ، وكان أن استدعى ذلك مواجهة دعوات القطيعة بصيحات التصنيم ...وضاع صوت الاعتدال أو كاد وسط جلبة الصراع ، وما خفي عن الطرفين معا أن الصراع دائر داخل التراث لا حوله ، فكلهم مسارع إلى مد اليد إلى جعبة الأقدمين يستمد منها ما به يعضد موقفه وينصره على خصومه . والحاصل مما تقدم أن التبشير بالقطيعة مع التراث – كل التراث - حمق وسفه ، والغرق فيه موت وفناء ، والناس دائرون ما بين هارب من الحمق إلى الموت ، وهارب من الموت إلى الحمق ، وبين هؤلاء وهؤلاء تستمر فئة من أولي العلم والعزم ، تبدع في هدوء ، وتشق طريق التنوير والتحرير على الرغم من الضربات التي تتلقاها من "الهاربين " من كلا الفريقين . استنتاج : واضح مما سبق أنه يستحيل التخلص من التراث كله بوضعه خلفنا ، كما يستحيل في الوقت ذاته جعله بأجمعه أمامنا قبلة لحركتنا ، وليس لنا اليوم من خيار إلا الإقدام على تصحيح أخطاءه ، وتقويم قصوره ، وتجديد قديمه وبعث حكمته ، مع سلامة القصد وحسن التوظيف وجمالية الأداء ، لكن السؤال الملح هو كيف ؟ لا يمكن الوصول إلى ذلك أبدا من دون إصلاح مناهج التربية التعليم في مختلف التخصصات وعلى جميع المستويات – كل بما يناسبه - وتحويلها من التلقين إلى الإبداع ، وتوجيهها في ذلك إلى ما يلي : أن صواب الأمس قد يصبح خطأ اليوم ، وخطأ اليوم قد يتحول إلى خطيئة الغد ، فالأفكار والمذاهب والحلول مثل الأغذية والأدوية تفقد صلاحيتها بمرور الزمن ، فكما لا يحسن بأحد أن يستنير بقناديل الأمس متى توفرت مصابيح اليوم ، وكما لا يحق لجراح أن يجري عمليات اليوم بأدوات عباقرة جراحي الأمس ، كذلك هي أغلب معارف الأمس في علوم الطبيعة والإنسان ، وفي الفقه والمقاصد والتفسير...فالماء الراكد يفسد ، والعلم الجامد يضمحل ، والدوام لله وحده . أننا أمام ضرورة التحرر من أخطاء التراث وأباطيله ، وليس هذا بالأمر السهل اليسير ، فقد اختلطت - بتوالي العهود – الكثير من الأهواء المذهبية والعصبيات العرقية والمصالح السياسية الضيقة بمعارفه وعلومه الدينية وغير الدينية . أن السلف بعد فترة النبوة كانوا عاجزين عن ابتكار حلول الكثير من مشاكلهم هم ، سواء في آليات تدبير الخلاف السياسي ، أوفي اختيار شكل الدولة ، أو في طرق التداول على السلطة ....، ولا يمكن أن ننتظر منهم غير هذا بحجة أنهم هم الأقرب إلى عهد النبوة ، فإنهم ، ومع هذا الفضل الذي حازوه ، لم تعفهم النصوص القرآنية ولا الحديثية من مهمة بذل الجهد الإنساني بما يلائم سياقهم التاريخي ، ففعلوا ، وأصابوا و أخطؤوا ، وأحسنوا و أساؤوا ، واهتدوا إلى أساليب في الفكر والتشريع والسياسة ، وغابت عنهم أخرى ، وليس من الجائز لنا بعد أن وقفنا على قصور كثير من وصفاتهم لواقعهم هم أن نعتمدها نحن لواقعنا ، ولا أن ننكر في الوقت ذاته إمكانية الاستفادة من إنجازات حققوها ، ومبادئ استناروا بها . لا يمكن تجاهل ما خلفه السابقون من علوم وفنون ومعارف وآداب ... بحجة أن الزمن قد تجاوزها ، وأنها لا تصلح بعدهم لشيء ، إن في تراث الأقدمين من الثروات ما لو تم التفريط فيها لانعدمت شروط التراكم المعرفي الضروري لكل تجديد وتطوير ، فلنا في صوابهم حكمة ، وفي خطئهم عبرة ، فليس السؤال في ذات التراث بل في نوع الاستفادة وطرق التوظيف.