إن الباحث عن نماذج من الفكر الغربي المتحيز لا يجد كثير عناء في الاكتفاء منها، ذلك أن معظم ما أنتجه الغرب عن الإسلام والمسمين يكاد يكون بهدف إثبات وتعزيز سامية الغرب ومكانته كقائد للحضارات ورائد للإبداعات ودونية الإسلام والمسلمين، بنفي مركزية الغير بشكل قاطع لإثبات مركزية مضادة ثقافية أو جغرافية، ب أدوات الانتصار الأيديولوجي المعهودة بالتركيز على جوانب السلب في الآخرين وفي صيغة تعميمية غالبا، وإضافة ما يثبت تفوق الذات وما يصور الذات المخلص الأخير، وقد بدأ الغرب هذه التحيزات بالقرصنة والاستيلاء على التراث العربي والإسلامي المكتوب أو ما يسمى العقل العربي التاريخي، لأن الغرب عمد إلى التراث الإسلامي للإفادة منه بعد الترجمة لكنه لم ينسب أبدا الفضل إلى أصحابه، وهذا التراث التاريخي هو الذي اعتمدت عليه الجامعات الأروبية كما هو معروف، وكثير من المفكرين الغربيين نسبوا إليهم أفكار وأعمال المفكرين العرب والمسلمين فمثلا: كانط يضطر لوضع كتابه في (العالم المحسوس والعالم المعقول ) للحصول على درجة الأستاذية (الاورديناليا) فيظهر هذا الكتاب متأثرا بصورة واضحة بالمسألة الأولى من تهافت الفلاسفة خاصة في تحديد ماهية الزمان والمكان، وينتقد كانط علم اللاهوت النظري أي أدلة وجود الله الثلاثة بنفس المنهج الذي يتبعه الغزالي ويأخذ بالبرهنة القائمة على قياس التمثيل كما عند الغزالي، ويضع الغزالي (ميزان العمل) بعد التهافت ويضع كانط ( نقد العمل العملي) بعد (نقد العقل المحض)، موظفا نفس المقولات معتمدا على مذهب المعتزلة في تأسيس علم الأخلاق مع التركيب للإرادة المحضة كما عند الأشاعرة وتسليمه بالخلود والإيمان بالله وغير ذلك، وإذا كان كانط رائدا من رواد الفكر الغربي فإن أجيالا من المثقفين والمفكرين والأدباء قد أطرهم فكره، ومادام هو تأثر بفكر الغزالي وبعض المدارس الكلامية الإسلامية، لنتصور حجم انتشار الفكر الشرقي في الثقافة الغربية، فكان الحل بالنسبة لهؤلاء المفكرين هو تغريب العقل التاريخي العربي والإسلامي، ونفس الشىء حدث مع ديكارت، حيث يأخذ في شكه بنتائج شك ابن سينا، ولكي يغطي عملية الاحتواء يدمج بين شكي الغزالي وابن سينا المتعارضين في النتائج، حيث يثبت ابن سينا الفهم والغزالي وحدة الجدل، ويرد ديكارت على الاعتراضات بنفس ردود ابن سينا دون أن يذكر اسمه لترسيخ تطبيع التغريب، فيتحول إلى اعتقاد جزمي أن 'الكوجيطو' من صنع ديكارت في نضجه ونشأته، ولايبنتز لم يكن بدعا من أبناء جلدته فقد اخذ بنظريات المبدعين المسلمين، حيث استعمل نفس المصطلحات التي في 'مشكاة الأنوار' مثل الروح الحسي والروح الخيالي والروح الفكري والروح الحدسي، ويستعمل في بعض الأحيان نفس الأمثلة الواردة في مشكاة الأنوار، ويستعمل مصطلح مونادا المونادات بدل نور الأنوار، إن هذه النماذج توضع بشكل جلي مدى الاحتيال الذي لحق بالتراث العربي الإسلامي بفعل الغرب، فعملية النقل هذه لم تكن قصد حفظه لأهله، أو اعترافا بالمساهمة العربية والإسلامية في الرصيد الحضاري التي فتحت عوالم الفكر العالمية وأعطتها مسارا جديدا، بل ليكون وسيلة لظهور الحضارة في الغرب و اختفائها في الشرق، ورغم ما في هذا النقل من إظهار للعقل العربي فان الإستشراق نصب نفسه كوسيلة لتغريب هذا العقل واغترابه عن قومه وأهله، فهذه العمليات التي تعرض لها التراث الشرقي تعد حلقة في سلسلة عمليات شنها الفكر الغربي على تراث يعتبره نقيضا وجوديا له، ومن خلال نقض تراث الأخر يثبت الغرب ذاته وتراثه. تحفل كتابات الفكر الغربي بالدس والتلفيق والتشويه للفكر والتراث الشرقيين بكافة الوسائل، وعلى جميع الأصعدة، أولا لأنه مرتكز على الدين، ونحن نعلم القطيعة التي بين الغرب والدين منذ عصر الأنوار ومجيء حملة المعرفة والعلم الجدد ما أن حققوا انتصاراتهم الأولى على الكنيسة ورجالها حتى أعلنوا: أن أي تفسير لظواهر الطبيعة يعتمد على الكنيسة وتفسيراتها أو على أي دين أو تفسير ديني إنما هو تفسير خرافي وأسطوري، لا يستحق صاحبه أن يسلك في عداد العلماء، فأصبح من يفسر الوجود بناء على دين معين يتعامل معه بحساسية، ونشأت أجيال من المجتمعات والنخب الغربية على القطيعة مع الدين وان كان مختلفا تمام الاختلاف على ما عرفوا من كهنوت الكنيسة. وثانيا لأنه من كسب أمة منافسة ويعتبرها الغرب منافسا حضاريا له، فحملوا على كل الخواص الثقافية الإسلامية بداية بالقران الكريم ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحكام الشريعة وتاريخ المسلمين و سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والمجتمعات الإسلامية، وفي هذا ركام كبير من الوثائق والمستندات التي تبين تحامل الإنسان الغربي وتحيزه ضد الثقافة العربية والإسلامية وبعده الكبير عن الموضوعية والعلمية والمنهجية، وسقوطه في اسر ذاته حتى انه لا يفكر إلا من خلال تمركزه عليها، ويرى من خلالها جميع الأشياء المحيطة به، وخاصة ما يتعلق بالحضارة والآخر، وقد أبدع ادوارد سعيد الذي يعرف الإستشراق بأنه؛ "أسلوب من الفكر قائم على تمييز وجودي انطلوجي، ومعرفي بين الشرق و الغرب"، فإن هذا التعريف في رأيي يركز أسباب هذا التحيز، وهو أن هناك صراع من أجل صيانة هذا التمايز الغربي، ساهمت فيه عدة مؤسسات التي رأت في الشرق تهديدا لكيانها، فساهمت الكنيسة في دفع المفكرين وتوجيههم إلى التخصص في التشويه والتشويش على العقائد الإسلامية و الأركان الأساسية في الدين الإسلامي، فكانت حملتهم على القرآن الكريم كبيرة مسعورة لنفي القدسية عنه، بهدف التعامل معه بوصفه لا يختلف عن أي كتاب بشري آخر أو عمل إنساني، وهذه من أسباب انحراف الفكر الغربي عن جادة الصواب، بحيث لا يعاملون المعطى الثقافي الشرقي بموضوعية وكما هو عند أهله، ولكن انطلاقا من تحيزات خاصة لا علاقة لها بالموضوعية والعلمية، يقول تيودور نولدكه "أن الوحي النازل على محمد والدعوة التي قام بها هو ما كان ينتابه من داء الصرع"، وإن أحد منهم تأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يناقش قضية النبوة ادعى أن ما كان يقول به النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو نتيجة الخيال الخلاق الذي كان يتمتع به النبي صلى الله عليه وسلم كأمثال "مونتكمري وات" حيث قال: من وجهة نظري هناك "خيال خلاق" متدفق لدى محمد، وان معظم الأفكار الناجمة عن محمد صحيحة وعادلة، ولكن ليست كل الأفكار القرآنية صحيحة وعادلة، بل توجد على الأقل نقطة واحدة غير صحيحة وهي أن الوحي أو الخيال الخلاق أسمى من تصرفات الإنسان العادية باعتبارها مصدرا لوقائع تاريخية مجملة. ونفس المنهج استعمل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث بدلوا وسعهم لنزع صفة النبوة عنه صلى الله عليه وسلم حتى قال الدكتور عماد الدين خليل حول أبحاث النبوة في الإستشراق بأنها ليست أبحاثا علمية أو موضوعية بحال وإنما ذلك السيل المنهمر من الشتائم والسباب، ومع الأسف الشديد فإن الغرب تعرف على الإسلام ولكن من خلال وسيط غير أمين وهو الفكر الغربي المتحيز الذي لا يعترف بالآخر بل يعادي الإسلام ومتحامل عليه، ولقد عملت هذه الدراسات في وقت مبكر على تشكيل العقل الغربي، وتحديد موقفه اتجاه الإسلام، بحيث يمكن القول أن الموقف الغربي العدائي اتجاه الإسلام في كل القضايا التاريخية وفي الحاضر ماهو إلا موقف مفكري الغرب ذاته من الإسلام، وقد استطاع التحيز الغربي رسم صورة غير حقيقية للإسلام في الغرب وعند النخب العلمية في العالم الإسلامي، ومع تقصير المسلمين في التعريف بالإسلام، وتشويه بعض الجهال من المسلمين صورة الإسلام بأعمالهم نهدي لمنتقدي الإسلام مثالا على صدق مزاعمهم المتحيزة، فيكون الإسلام بين آفتين؛ ادعاءات أعداءه وجهل أبنائه، وانه لمن واجبنا اليوم كما ندافع عن الإسلام ضد أعدائه أن ندافع عنه ضد جهل أبنائه وتشويههم له، وإنَّ خطر داعش وكل من سلك مسلكها اليوم على الإسلام أشد أضعافا مضاعفة من كيد الأعداء من غير المسلمين. -باحث في الفكر الإسلامي.