مجلس الجالية يشيد بقرار الملك إحداث تحول جديد في تدبير شؤون الجالية    الموقف العقلاني والعدمي لطلبة الطب        المغرب يمنح الضوء الأخضر للبرازيل لتصدير زيت الزيتون في ظل أزمة إنتاج محلية    المنصوري تكشف عن برنامج خماسي جديد للقضاء على السكن الصفيحي وتحسين ظروف آلاف الأسر    إحصاء سكان إقليم الجديدة حسب كل جماعة.. اليكم اللائحة الكاملة ل27 جماعة    حموشي يترأس وفد المغرب في الجمعية العامة للأنتربول بغلاسكو    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"    هذه حقيقة الربط الجوي للداخلة بمدريد    الكعبي يستمر في هز الشباك باليونان        لحظة تسليم علم منظمة "الأنتربول" للحموشي باعتباره رئيس الوفد الأمني للدولة التي ستحتضن الدورة المقبلة للجمعية العامة للأنتربول (فيديو)    التامك يتأسف لحظر "النقابة" في مندوبية السجون... ويقول: "ما بقاش عندي الوجه" للقاء الموظفين    المغرب يعتمد إصلاحات شاملة في أنظمة التأمين الصحي الإجباري    1000 صيدلية تفتح أبوابها للكشف المبكر والمجاني عن مرض السكري    الأسباب الحقيقية وراء إبعاد حكيم زياش المنتخب المغربي … !    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    بايدن يتعهد بانتقال "سلمي" مع ترامب    اعتقال رئيس الاتحاد البيروفي لكرة القدم للاشتباه في ارتباطه بمنظمة إجرامية    توقيف 08 منظمين مغاربة للهجرة السرية و175 مرشحا من جنسيات مختلفة بطانطان وسيدي إفني    «كلنا نغني».. جولة عربية وأوروبية للعرض الذي يعيد إحياء الأغاني الخالدة    ‬‮«‬بسيكوجغرافيا‮»‬ ‬المنفذ ‬إلى ‬الأطلسي‮:‬ ‬بين ‬الجغرافيا ‬السياسية ‬والتحليل ‬النفسي‮!‬    الخطاب الملكي: خارطة طريق لتعزيز دور الجالية في التنمية الاقتصادية    المنصوري تكشف حصيلة برنامج "دعم السكن" ومحاربة دور الصفيح بالمغرب    الجماهير تتساءل عن سبب غياب زياش    "أجيال" يحتفي بالعام المغربي القطري    ياسين بونو يجاور كبار متحف أساطير كرة القدم في مدريد    2024 يتفوق على 2023 ليصبح العام الأكثر سخونة في التاريخ    ليلى كيلاني رئيسة للجنة تحكيم مهرجان تطوان الدولي لمعاهد السينما في تطوان    مجلس جهة كلميم واد نون يطلق مشاريع تنموية كبرى بالجهة    بايتاس: أكثر من 63 ألف أسرة استفادت من المساعدات الشهرية لضحايا زلزال الحوز    انطلاق الدورة الرابعة من أيام الفنيدق المسرحية    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    صَخرَة سيزيف الجَاثِمَة على كوَاهِلَنا !    ما هي انعكاسات عودة ترامب للبيت الأبيض على قضية الصحراء؟    انتخاب السيدة نزهة بدوان بالإجماع نائبة أولى لرئيسة الكونفدرالية الإفريقية للرياضة للجميع …    ندوة وطنية بمدينة الصويرة حول الصحراء المغربية    مورو يدشن مشاريع تنموية ويتفقد أوراشا أخرى بإقليم العرائش    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    ضبط عملية احتيال بنكي بقيمة تتجاوز 131 مليون دولار بالسعودية    تظاهرات واشتباكات مع الشرطة احتجاجا على فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية    سفير أستراليا في واشنطن يحذف منشورات منتقدة لترامب    قانون إسرائيلي يتيح طرد فلسطينيين        خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    أولمبيك مارسيليا يحدد سعر بيع أمين حارث في الميركاتو الشتوي    محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بتهمة "التجاهر بالفاحشة"    بعد رفعه لدعوى قضائية.. القضاء يمنح ميندي معظم مستحقاته لدى مانشستر سيتي    مزور: المغرب منصة اقتصادية موثوقة وتنافسية ومبتكرة لألمانيا    إعطاء انطلاقة خدمات مركز جديد لتصفية الدم بالدار البيضاء    إحصاء 2024 يكشف عن عدد السكان الحقيقي ويعكس الديناميكيات الديموغرافية في المملكة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام والغرب وأهمية التواصل الثقافي
نشر في العلم يوم 18 - 02 - 2011

النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتابات الغربية:
أثارت شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم تقديرات العديد من المستشرقين والباحثين في الغرب منذ القرن العاشر الميلادي وحظيت بتقدير كبير عند بعضهم، فدرسوها وأنجزوا عنها دراسات عديدة يصعب حصرها وإحصاؤها، تناولوا فيها جوانب كثيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما عقدت ندوات حولها شارك فيها باحثون من الشرق والغرب. بالرغم مما تكلفه مثل هذه اللقاءات من مجهود مادي ومعنوي. فلماذا هذا الإهتمام بشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وحياته؟ وإلى أي مدى يمكن التعامل مع هذه المنجزات؟ الدكتور عبد الغني أبو العزم يرى أن الدراسات الإسلامية بأوروبا المسيحية كانت تتم تحت إشراف الكنيسة، ويقوم بها رجال الدين، واحتكروها لسنوات طوال، وغدوا بذلك المرجع والمبادر في ميدان الترجمة، حيث انحصرت رؤيتهم للأشياء في العقيدة المسيحية باعتبارها ديانة الحق والعدالة، وأن كل الديانات الأخرى ماهي إلا تشويه للحقيقة، مع العلم أن دراسة شرائع القرآن والفلسفة الإسلامية قد ساهمت كما يقول «مونتغمري واط» في خلق وعي ديني بالهوية الأوروبية، وعلى حساب الإسلام، مما أعطى إمكانية تأسيس نظام فلسفي منطقي ورؤية فلسفية جديدة للعالم. وكان ينبغي انتظار عدة قرون لكشف هذا الواقع. ومما يلاحظ أن الصورة الوهمية الخيالية التي تكونت في أوربا عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لايمكن فصلها عن الرؤية الفكرية الأوروبية اللاهوتية للقرآن. وترجمة القرآن لم تكن في الواقع إلا مدخلا لمعرفة السيرة النبوية، وهذا ما عبر عنه (جان دي سر كوفي) و(نيقولا دو كوس) في دراستهما.. إذ في ضوئها شاعت كل خرافات القرون الوسطى التي ظلت مهيمنة، وقد تغلغلت في الوسط الشعبي الأوروبي، ومن بين هذه الخرافات اعتبار النبي صلى الله عليه وسلم رجلا مسيحيا ضالا وهرطقيا ادعى النبوة، لأنه لا يستطيع تحقيق طموحه الأدبي في أن يصبح بابا بعد أن وصل إلى مرتبة كاردينال... (1) وضمن هذا السياق ظهرت مجموعة من المقالات والروايات التي لاحصر لها تتعرض إلى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. ولنقرأ ما كتبه توفيق الحكيم في كتابه (تحت شمس الفكر - 17 و18) عن فولتير وقصته التمثيلية (محمد).
«قرأت لثلاث عشرة سنة خلت (1925) قصة (فولتير) التمثيلية (محمد) فخجلت أن يكون كاتبها معدودا من أصحاب الفكر الحر، فقد سب فيها النبي العربي سبا قبيحا عجبت له، وما أدركت له علة!... لكن عجبي لم يطل، فقد رأيته يهديها إلى البابا (بنوا الرابع عشر) بهذه العبارات: «فلتستغفر قداستك لعبد خاضع، من أشد الناس إعجابا بالفضيلة إذ تجرأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية، وإلى من غير وكيل رب السلام والحقيقة استطيع أن أتوجه بنقد قسوة نبي كاذب وأغلاطه! فلتأذن لي قداستك من أن أضع عند قدميك الكتاب ومؤلفه، وأن أجرأ على سؤالك الحماية والبركة وإني مع الإجلال العميق أجثو وأقبل قدميك القديستين». فولتير 17/غشت 1745م)».
ومن المفيد أن نشير هنا إلى الانعطاف الذي حصل في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلادي حيث دخل علم الاستشراق مرحلة جديدة في محاولة جديدة لفهم عالم الشرق، وفهم الذهنية الشرقية والعقيدة الإسلامية، وفي هذا الإطار ترجمت أمهات الكتب التي تتناول الإسلام وحياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وتعتبر سيرة ابن هشام المصدر الأول والأهم الذي حفظ لنا المعلومات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ونشاطه وأصحابه وزمانه، وقد ترجم في البداية إلى اللغة الألمانية سنة 1958م، تلاه كتاب «تاريخ الأمم والملوك» للطبري الذي ترجم سنة 1879م، وكتاب «المغازي» للواقدي سنة 1882م. وتاريخ اليعقوبي سنة 1883م وانتهت هذه المرحلة بترجمة كتاب «البخاري» سنة 1895م.
ويقسم الأستاذ حسين أحمد أمين كتابات الغربيين حول سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى اتجاهات ثلاثة: هذه الاتجاهات واضحة وتكاد تكون متعاقبة الاتجاه.... والذي يهمنا هو الاتجاه الثاني، وخيرة ممثليه هم: (جولدزيهر) و(لين بول) و(فرانتس بول) و(تور أندري) و(مارجوليوت) و(ريتشاردبيل) و(نودلكه) و(فلهاوزن) و(هاملتون جيب). فقد كان لأصحاب هذا الاتجاه فضل الحديث للغربيين عن الكثير مما كان غامضا لديهم في تاريخ الإسلام والسيرة، وتسهيل فهم التاريخ العربي في الجاهلية والإسلام. وكان موقف هؤلاء من السيرة موضوعيا قدر ما في وسعهم من الموضوعية، رأوا فيه شخصية قوية مؤثرة، استطاعت أن توفر الحل لمشكلة بالغة الصعوبة والتعقيد، ألا وهي بناء دولة وإمبراطورية عظيمة من لبنات القبائل العربية المتفرقة المتنازعة، وإيجاد المنفذ للعبقرية العربية الخلاقة حتى تساهم مساهمة إيجابية في تاريخ العالم وحضارته. وقد أنصفوا في بيان جوانب عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ورجاحة عقله...»(2)
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ الدارسون يفضلون دراسة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بظهور العديد من الأعمال الهامة. فالدراسة الوافية التي قدمها المستشرق الانجليزي (مونتغمري واط) عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قد أبرزت الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية وخلفية نشاطه. وأوضحت ذكاء علاقته بالقبائل. كما أبرزت السؤال المعقد عن جدارة المواد التي تعتبر مرجعا لدراسة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومجراها. ودافع في دراسته عن زيادة الاعتماد على المصادر التقليدية للمعلومات المتعلقة بذلك، بأكثر مما رآه الجيل السابق للدارسين.
وأهم سمات مؤلف «مونتغمري واط» هو حساسيته للمسائل الأخلاقية التي يواجهها بالضرورة أي شخص غير مسلم يدرس النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأراد أن يتفادى أية مبالغات وحتى أية لغة من شأنها، ولو ضمينا، أن تصدر حكما على المعنى الديني الذي يراه المسلمون في النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وقد غطت دراسته كل حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولمست معظم المشاكل المطروحة. ولهذا اعتبرت أهم دراسة كتبت عن النبي منذ السيرة التي كتبها (فرانتز بول) والتي كانت المعيار السابق في الوسط العلمي الغربي.(3)
أما المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون فيرى أن الكثير من كتب المستشرقين حول النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد قومت شخصية الرسول بشكل ايجابي وفيها الكثير من التمجيد له، ولكنها بالطبع ليست كتبا دينية لأنها كتبت من طرف مستشرقين غربيين. وقام بانجاز دراسة قدم فيها جردا بالدراسات المحمدية وقد نشرها في المجلة التاريخية (عدد: يناير - مارس 1963 م/ص 220-169). وأعلن بأنه كان مولعا كثيرا بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم: «فضمنت ولعي في كتاب عنه، وأعلنت بأنني معجب بعظمة هذا الرسول وعبقريته، لكني عندما أدرسه، أدرس حياته وفق منظور تحليلي مادي أعتبره المنظور الصائب الذي يمكن عبره فهم حياة الرسول ودوره التاريخي الهام أو إنسانية الرسالة التي أثر بها... الكتاب يحمل الكثير من التمجيد لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبارها واحدة من تلك الشخصيات الهامة التي غيرت تاريخ العالم.. ويضيف قائلا: منذ البداية ظهر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كزعيم ديني وسياسي ومشرع في نفس الوقت معطيا قواعد السلوك والحياة للمجتمع الصغير الذي يحكمه، والذي سيصبح فيما بعد ذا أبعاد عالمية»(4). ويجب التذكير هنا بأن بعض كتابات هؤلاء مع ما فيها من مجهود جبار وموضوعية لاتخلو من هفوات، ولهذا وجب التصدي لها بعد فحصها ودراستها وتصحيحها، بدلا من انتقادها ورفضها» لأنهم أثروا المكتبة الإسلامية بالدراسات والبحوث والتحقيقات التي استفادت منها السنة من حيث لايريدون طبعا. لقد نبشوا وفتشوا وأثاروا قضايا ما كان لها أن تثار، وحملوا على السنة حملة شعواء. فكان أن شمر الباحثون المسلمون عن سواعد الجد وانبرت الأقلام وشحذت الأذهان للدفاع عن السنة المطهرة»(5)
حمى معاداة الإسلام والمسلمين
عاش العالم الإسلامي خلال شهري يناير وفبراير 2006م على إيقاعات الغضب العارم جراء الرسومات المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم والتي نشرتها الصحيفة الدانمركية (يولند بوسطن) بعدما طلب محررها الثقافي من مجموعة من الرسامين إنجاز هذه الصور. وبقدر ما كانت الإساءة للنبي شديدة، بقدر ما كانت الاحتجاجات والمظاهرات قوية وبليغة، بلغت في معظمها إحراق السفارتين الدانمركية (دمشق ولبنان) والنرويجية (دمشق) وتم إضرام النار في العلم الوطني الدانماركي في العديد من العواصم الإسلامية، وبادرت العديد من الدول الإسلامية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية بسحب سفرائها من كوبنهاكن، ودعت مواطنيها لمقاطعة البضائع والمنتجات الدانمركية وطالبت الحكومة الدانمركية بتقديم الإعتذار إلى العالم الإسلامي وكل مسلمي العالم أينما وجدوا.
ولا يسع أي مسلم إلا أن يناهض كل من سولت له نفسه الإساءة إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم سواء بإعادة نشر الرسومات الكاريكاتورية الدانمركية، أو بنشر أي كلام يستهدف شخص الرسول أو الدين الإسلامي عموما. لقد كان مستهجنا أن تعيد الصحف الغربية نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم في فعل تضامني في الإساءة للمسلمين ونبيهم.
إن استفزاز مشاعر المسلمين من طرف غيرهم ليس أمرا جديدا، لكن الجديد هو هذا النفاق الصارخ الذي يحمل بيد شعار الانفتاح وحرية التدين وحوار الحضارات والأديان، وباليد الأخرى رسومات وإساءات بالتصريح والتلميح بالجملة. وتأكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن بين المسلمين والغرب هوة سحيقة يبدو أن التقريب بين طرفيها أمر شاق. وتأكد كذلك أن كليهما يحمل أفكارا مغلوطة عن الآخر. وتأكد، فضلا عن هذا وذاك، أن المنعطف والحكمة والتروي والحلم لم تعد سوى مفاهيم يستأنس بها في دروس الفلسفة والتربية الوطنية تختزلها الذاكرة!
إن الرسومات بكل ما تعكسه من كراهية وحقد وتحقير وافتراء تثير الكثير من الأسئلة حول حوار الحضارات أو (صدام الحضارات) الذي يتمنى تحقيقه كثير من عشاق (صمويل هنتنغتون). والذين لا يصدمهم في الواقع إلا عشاق فيلسوف أكثر رزانة وحكمة هو (وليام جيمس) المؤسس الحقيقي للفلسفة البرغماتية التي تنبني على أنه لا وجود لحقائق مطلقة وأن المستقبل مفتوح أمام الإبداع، والإنسان يمتلك الإمكانيات لخلق عالم أفضل. أما الدين فقد استخدمه استخداما برغماتيا حيث اعتبر أنه «طالما أن الدين يحقق الراحة للإنسان ولا يؤذي الآخرين فهو نافع» البراغماتيون طالبوا باعتذار الصحيفة والصحف التي التحقت بركبها والحكومة الدانمركية ومن سار على طريقها في أوربا. إنهم يعلمون أن الدين قد يكون صمام أمان للتماسك الاجتماعي داخل المجتمعات الأوربية وأيضا على المستوى العالمي، كما يمكن أن يكون جذوة تذهب بالقليل من (حوار الحضارات) الذي جرى إلى اليوم. وكان المفكر الفرنسي أندري مالرو الذي توفي في شهر نونبر 1976 قد تنبأ (بأن القرن الواحد والعشرين سيكون قرن تدين أولا يكون) ومنذ ذلك الحين تغيركل شيء ولكن النبوءة تحققت. (6)
صحيح أنَّ علاقة العالم الإسلامي مع العالم الغربي تتميز بالتوتر والاضطراب واللاثقة منذ ما قبل أحداث 11 سبتمبر 2001م إلا أن هذا التوتر تصاعد بعد اتهام الإسلام بالإرهاب والمسلمين بالإرهابيين. وبدا للمسلمين أن هذه التهمة لم تعد تخص فئة قليلة فهمت دينها خطأ، بل إن الغرب أصبح ينظر إلى الاسلام في حد ذاته باعتباره إيديولوجية دموية إرهابية هدفها الوحيد هو القتل والتدمير ولاشيء غيرهما. فجاءت القطرة التي أفاضت كأس الأمة الإسلامية من الدانمرك لينفجر بعد ذلك غضب المسلمين ويكبر شيئا فشيئا إلى أن انفلتت الأمور ببعض الدول العربية والإسلامية.
وفي ذلك السياق وفي حمأة الحدث يرى الدكتور طبيب تيزيني أنه «ظهر الحديث عن ضرورة التمييز الدقيق بين خطابين اثنين، خطاب في حرية الرأي النقدي العقلاني، وخطاب في الإنسان والإنسانية وفي ضرورة احترام مقدساته، كما في النظر إليها بمثابة خط أحمر لا يجوز اختراقه هجاء أو هزلا أو قدحا أوغمزا، وقد لقي هذا التمييز إقرارا ضمنيا ومعلنا من قبل جل الناس، وجدير بالإشارة أن المسألة المطروحة هنا تجد جذورا عميقة لها في التاريخ البشري وفي صراع البشر فكريا ودينيا وسياسيا، ولعلنا نجد هذه الجذور ماثلة في تاريخ العالم كله، ومن ضمنه التاريخ العربي والآخر الأوربي الوسيط والحديث، وظهر ذلك، خصوصا، في معضلة العلاقة بين الخطابين الديني والعلمي، الشرعي والفلسفي، وتعاظمت هذه المعضلة، حين انتقلت إلى مستوى الحياة السياسية، بحيث أخذت تسهم في إشعال العواطف الدينية وتحويلها إلى مطالب ومبادئ واستحقاقات سياسية تتصارع حولها الخناجر» (7)
ويبقى الأهم في كل ما جرى هو ما بعد هذا الحدث؟ هل تتجه العلاقات بين المسلمين والغرب إلى القطيعة والمواجهة؟ أم أن كل ما جرى يعتبر فرصة للحوار؟
أهمية الحوار والتفاعل بين الثقافات والحضارات:
لقد أضحى واجبا اليوم على مختلف دول العالم ومنظماته المدنية أن تتعاون معا لنقل الحوار حول تلك النوعية من الأزمات التي تعكس وتمس اختلاف الثقافات والأديان والقيم بين شعوب العالم إلى المستوى العالمي وما يعبر عنه من منظمات وبخاصة منظمة الأمم المتحدة. إن التوافق على فتح حوار موسع بداخل الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة حول كيفية التوفيق بين قيم العالم الحديث وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير وبين احترام تعدد الثقافات والأديان والقيم سيكون البداية الجادة لحل الأزمة الحالية ووضع أساس صلب لمنع تكرارها بشأن أي دين أو ثقافة أو شعب في أي مكان من الأرض.
ونظرا لما للحوار من مكانة في التثقيف والتواصل الإنساني المعرفي، فقد أولاه المسلمون قسطا من اهتماماتهم. ومما جاء عن المسلمين، أنَّ رجلا نصح ابنه قائلا (تعلم حسن الاستماع قبل أن تتعلم حسن الحديث). «وبالعودة إلى الماضي نجد أن دعوة الإسلام إلى الحوار تتمثل في - العودة إلى الأرومة الإبراهيمية موحدا بذلك بين الأديان السماوية الثلاثة، فقد جاء محددا الحنيفية مزيلا ما علق بها من أساطير وطقوس رهبانية في الديانتين السابقتين ولا علاقة لها بدعوة التوحيد البسيطة التي بشر بها إبراهيم الخليل. وتواصل الحوار في المستوى الحضاري والتعايش بين مختلف الأديان والطوائف داخل المجتمع الإسلامي، أما ما ظهر هنا وهناك من موجات تعصب ورفض للآخر فقد كانت أسبابه سياسية، كما هو الشأن اليوم ولا علاقة له بالإسلام. إن كتب التراث العربي الإسلامي زاخرة بمظاهر التعايش السلمي بين المسلمين وأصحاب الديانات السماوية الأخرى، بل حتى مع من لم يكن من أهل الكتاب كالمجوس مثلا، فقد عوملوا في فترة الفتوحات الكبرى معاملة أهل الكتاب (8).
إن الحوار والتفاهم والتعاون أصول ثابتة في الإسلام وثقافته ويلتزم بها المسلمون منذ أمد بعيد، ولكن هذه الأصول لا يمكن أن تثمر إلا مع وجود حسن النية والرغبة الحقيقية لدى الطرف الآخر، والذي يظهر من التصرفات والمواقف أن الطرف الآخر لم يدرك بعد أن الحوار والتفاهم يقضيان بتجاوز إرث الأساليب القديمة. يقول الدكتور طارق البشري: «والحوار الحضاري يقوم في ظني على اعتراف طرف بأن للطرف الآخر مرجعية مختلفة، أي موقف ثقافي مختلف وأسس مختلفة تقوم عليها أصول شرعية ومعايير الاحكام لديه، ذلك أن الوضع الحضاري في ظني هو في النهاية (وجهة نظر) حاكمة، هو (شرعة) بالمعنى اللغوي للشرعة أو المشرع، أي نقطة البدء على أن يرتبط كل ذلك بجماعة ممتدة في صيرورة تاريخية، فتمثل هذه الوجهة قوة التماسك الجمعي التاريخي لهذه الجماعة وتشكل لها لغتها الذهنية ومعايير قيمها من حيث السلوك الفردي والقيم والتعامل بين الناس وبناء هياكل نظمهم ومؤسساتهم...» (9).
إن العالم الواحد يقوم على حضارات متميزة عن بعضها بعضا تشترك في أشياء وتختلف في أخرى، كما أن كل حضارة واحدة تقوم على ثقافات قومية متميزة عن بعضها بخصائص تختلف من أمة إلى أخرى. فالمصدر الواحد للخلق الله تعالى هو الذي جعل الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا، ومن تعددهم واختلافهم وتبادل المعرفة بينهم، يزدادون تطورا وتقدما في جدل اجتماعي يتميز به الإنسان منذ بدء الخليقة «ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة»
علما بأن هناك جهودا متواصلة تبذل منذ سنوات للتقريب بين الثقافات والحضارات والديانات، ولبناء علاقات الاحترام المتبادل بينها إعلاء لمصالح الشعوب ومن أجل إزالة أي مواقف تحرض على الكراهية على أساس ديني أو عنصري أو قومي، أو تزكي الصراعات التي تهدد مصالح الشعوب جميعا، إلا أن هذه الجهود تواجه أحيانا بمواقف وأحداث سلبية فتعود بها إلى نقطة الصفر، وهو ما يمثل تهديدا فعليا لعلاقات الإحترام المتبادل بين الثقافات والأديان المختلفة.
يقول المفكر والسياسي الدانمركي (أوله فولورز) - اعتنق الإسلام من 1986م - «هناك أغلبية في أوروبا، وأنا منها، تؤيد الاتصال والحوار مع الأجانب لأنها مفيدة ونرى أن فتح حوار مع الآخر هو أفضل طريقة للاتصال والتفاهم معه. وقد تعلمنا نحن في أوربا ومن خلال تاريخ علاقتنا التي تمتد لقرون طويلة مع العرب والمسلمين أن الحوار يؤدي إلى التفاعل والتطور والرقي العالمي، ونرى اليوم توجها لفتح حوار هادئ بين الجميع في عالم اليوم»(10).
ودعا عبد الله أحمد بدوي، رئيس الوزراء الماليزي الرئيس الدوري لمنظمة المؤتمر الإسلامي، العالم الإسلامي والغرب إلى تغيير المفاهيم السلبية عن الجانبين وتشجيع المزيد من الجماعات الساعية إلى مد جسور التقارب بين الحضارتين، معتبرا أن المفاهيم السلبية بين بعض الجماعات من الحضارتين قد تأصلت وانتشرت على نطاق واسع حاثا على تغيير الوضع بالحوار وليس بمجرد الكلام. وطالب وسائل الإعلام الرئيسية بأن تولي مزيدا من الاهتمام لأصوات الساعين إلى مد جسور التقارب بين الحضارتين والذين يعملون تجاه تحول حقيقي في العلاقات، مما ينهي عداء، وخصومة الماضي والحاضر.. وأضاف أنه حينما يصل الساعون إلى مد جسور التقارب إلى مرحلة مهمة فإن قوتهم الجماعية ستساعد على تدمير الجدران التي أقامها من يعكفون تماما على الفصل بين الإسلام والغرب.(11)
إن خير الإنسانية لايقوم إلا بالحوار الثقافي والحضاري الجاد والاستعداد الجاد لقبول الحق الذي لايتصادم مع فطرة الإنسان ومتطلباته التكوينية، وعلى الغرب أن يصغي للمسلمين بكل جدية وموضوعية ليفهم نظرتهم ويدرك معيارية التفاهم معهم، ونحن نعيش قرن تواصل وتعايش وتحاور، لأن التقدم البشري في مختلف المراحل والمجالات ليس إلا حصيلة الإبداع الفكري والتعاون والاحتكاك بين المجتمعات، وبالحوار المفتوح الجاد المؤدي إلى صيغ ممكنة ومعقولة تتوجه وتوجه نحو التفاهم البناء والتعايش السلمي والتعاون بين الطرفين سوف يصنع مستقبلا منشودا خاليا من الصراعات والمصادمات المدمرة، وحافلا بالتعاون بين المسلمين والغربيين بما فيه مصلحتهم ومصلحة الإنسان حيثما كان.
لأن التقوقع على الذات في وضع دفاعي صرف لايجدي نفعا في عهد الأقمار الصناعية وطي الكرة الأرضية طيا بأحدث وأسرع وسائل التوصيل والاتصال. وعلينا الانطلاق من الثوابت الحضارية للذات المتميزة في مواجهة الآخر (الحضاري) الذي يرفع شعارا مفاده أن الهجوم هو أفضل وسائل الدفاع.
الهوامش:
1- بتصرف عن الملحق الثقافي لجريدة (الاتحاد الاشتراكي) عدد - 2006/2/17م.
(الرؤية الغربية لصورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أدبيات القرون الوسطى)
2- انظر دراسته عن (تأملات في تطور كتاب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الشرق والغرب) مجلة (العربي) الكويتية/عدد - 1976/215م/ص: 113-112
3- انظر ما كتبه في هذا الموضوع عبد المحمود نور الدائم الكرنكي في صحيفة (القدس) عن (فصل الإسلام عن سياقه الديني والحضاري للشرق القديم عدد 26/25 نوفمبر 1995م/ص14
4- انظر حوارا معه في مجلة (رسالة الجهاد) الليبية/عدد: 70/ص:61/والملحق الثقافي لصحيفة (الأنباء) الكويتية عدد: 1982/3/10م/ص:5
5- انظر مجلة (المنهل) السعودية/عدد:484 (1990) ص: 125 (مناهج المستشرقين في دراسة الحديث النبوي) لمحمد رمضان صالح.
6- انظر صحيفة (الصحراء المغربية) عدد: 2006/219م/ص:15
7- انظر صحيفة (الصحراء المغربية) عدد: 2006/212 /ص: 14
8- انظر ماكتبه الدكتور الحبيب الجنحاني في صحيفة (الحياة) عن (الحوار بين الأديان: عقبتنا السياسية واللاهوتية) عدد: 1988/1/26 م ص: 1
9 - انظر صحيفة (الشرق الأوسط) عدد: 1996/4/30 م ص : 17 (ملاحظات حول الحوار بين الإسلام والغرب)
10 - انظر حوارا معه في صحيفة (الشرق الأوسط عدد: 1004/12/3م ص: 13
11 - انظر صحيفة (الصباح) المغربية/عدد/12-11 فبراير 2006 ص: 13


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.