رسخت الاعتداءات الإرهابية الدموية التي هزت باريس حقيقة مخيفة لدى العالم مفادها أنه باستطاعة تنظيم "داعش" أن يضرب متى ما شاء، وأينما شاء. في أعقاب أحداث باريس تساءل المحللون والمراقبون عن مدى فعالية مصالح الاستخبارات الفرنسية في بلد سبق وأن استهدفه الإرهاب في يناير 2015، وعن مدى نجاعة استمرار اعتماد فرنسا على الوسائل التقليدية في محاربة الإرهاب، وفي التعامل مع تنظيمات إرهابية في حجم "داعش" والمتعاطفين معها، وما إذا كان هناك خيط مفقود حالَ دون تمكن فرنسا من استباق وقوع الهجمات التي هزت باريس ليلة 13 من نونبر. وفي خضم هذا النقاش يقدم المغرب سبقاً مثاليا في المحاربة الفعالة للإرهاب، فبعد الأخبار الأخيرة المتداولة بشأن دور المغرب المحوري في مساعدة أجهزة الاستخبارات الفرنسية على إحباط هجوم إرهابي جديد كان سيضرب باريس، وتحديد مكان تواجد عبد الحميد أباعوض، العقل المدبر لهجمات باريس، يطرح المراقبون عبر العالم تساؤلات عن الأسباب التي تجعل المغرب ملاذ استقرار وسلام في منطقة هزتها الثورات، كما هزها الإرهاب. فرغم عدم توفره على نفس الموارد المالية واللوجيستيكية التي تتوفر عليها الدول الأوروبية، ظل المغرب سدا منيعا أمام الهجمات الإرهابية. الحقائق تتحدث عن نفسها حسب دراسة حديثة نشرها المعهد الملكي الإسباني "إلكانو"، ظل المغرب استثناء في المنطقة؛ فبينما ارتفعت الهجمات الإرهابية بشكل مهول في شمال إفريقيا بين سنة 2011 و2014، باغت الإرهاب المغرب مرة واحدة بمراكش في أبريل 2011. وعلى المنوال نفسه سارت قاعدة البيانات العالمية لرصد الإرهاب، التي نشرها الاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب (START) بجامعة ماريلاند بالولاياتالمتحدة، والتي جاء فيها أن الهجمات الإرهابية تضاعفت 47 مرة بين 2011 و2014، مرتفعة من 15 إلى 1105 هجمات إرهابية، واحد فقط من بينها استهدف المغرب. وتدل هذه الأرقام على أن المملكة لم تتأثر كما تأثر جيرانها بارتفاع الهجمات الإرهابية التي استهدفت المدنيين والمؤسسات الحكومية. ودفع هذا الاستثناء المغربي مجلة التايمز البريطانية إلى اعتبار المغرب الملاذ الآمن الوحيد في شمال إفريقيا، إذ ذكرت في مقال نُشر في شهر يوليوز الماضي أن "المغرب باعتباره وجهة سياحية للأوروبيين ظل محصناً أمام الاضطرابات التي شهدتها دول المنطقة." ومن جهتها، أصدرت وزارة الخارجية البريطانية تصنيفا وضعَ المغرب في مصاف الدول الأكثر أمنا في العالم. التصنيف الذي تم تحديثه في مطلع الشهر الحالي وضع المغرب على مستوى الأمان نفسه الذي تتواجد فيه الولاياتالمتحدة والنرويج والدنمارك، كما يظهر أن المغرب أقل عرضةً للتعرض لهجمات إرهابية من دول مثل فرنسا وإسبانيا. ما الذي جعل المغرب فعالا في محاربة الإرهاب؟ على عكس الدول المجاورة في منطقة المغرب العربي وأوروبا، لا يعتمد المغرب في إستراتيجيته لمحاربة الإرهاب على تقوية الأمن الداخلي فحسب، بل جمعت المملكة بين ثلاثة عناصر أساسية لدحر التهديدات الإرهابية. بنية أمنية حصينة لاستباق العمليات الإرهابية العنصر الأول هو تقوية البنية الأمنية وتزويدها بالوسائل الضرورية التي تمكنها من استباق العمليات الإرهابية. فعلى ضوء التهديدات الإرهابية التي وجهها تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي وجنوب الصحراء، شدد المغرب المراقبة على حدوده مع الجزائر، مع تعزيز تواجد الجيش على حدود المملكة الجنوبية. ومن بين أهم الإجراءات التي اتخذها المغرب قبل سنة إطلاق آلية أمنية جديدة، متمثلة في برنامج "حذر"، الذي يجمع عناصر من القوات المسلحة الملكية والدرك الملكي والأمن الوطني والقوات المساعدة. هذه الآلية، التي وضعت المصالح الأمنية المغربية في حالة استنفار واستباق للأحداث وتبادل للمعلومات والمعطيات، تهدف إلى حماية المواطن المغربي والزائر الأجنبي، وإحباط كل أعمال من شأنها استهداف أمن المغرب واستقراره. ومكنت آلية "حذر" من تفكيك عدد مهم من الخلايا الإرهابية التي خططت لتنفيذ هجمات تستهدف مدنيين ومؤسسات حكومية مغربية. وقد سبق لعبد الحق الخيام، مدير المكتب المركزي للتحقيقات القضائية، أن صرح بأن مصالح الاستخبارات المغربية تمكنت من تفكيك 132 خلية إرهابية بين سنة 2002 ومارس 2015؛ وخلال الفترة نفسها تم إحباط 276 مخططا إرهابيا وإيقاف 2720 مشتبها في علاقتهم بتنظيمات إرهابية. وفي الفترة الممتدة من سنة 2013 إلى يونيو 2015 تم تفكيك 27 خلية إرهابية. ويتم تعزيز يقظة مصالح الاستخبارات المغربية بالإجراءات الصارمة التي تفرضها وزارة الداخلية من حيث حيازة الأسلحة النارية. الإجراء يشمل رجال الأمن كذلك، إذ إنهم مطالبون بالتبليغ في حالة تم استعمال رصاصة أو في حال ضياعها وعن السبب وراء اختفائها. إن ما يميز المغرب في محاربته للإرهاب هو أنه لا يجعل من التكنولوجيا الأداة الأساسية في إستراتيجيته، بل يركز على العامل البشري، وعلى شبكة كبيرة من المخبرين والعملاء السريين، المتواجدين في مختلف أنحاء المملكة. فالمغاربة يدركون أن أهم الركائز الأساسية التي تقوم عليها الإستراتيجية الأمنية بالمغرب هم أعوان السلطة الذين يعتبرون بمثابة عين وأذن وزارة الداخلية. ويعتمد "المقدم" بدوره على شبكة مهمة من المخبرين الذين يوفرون معلومات مفصلة حول أي تحرك مشبوه في كل حي من أحياء المدن المغربية. ولعل الدعوات التي وجهها مسؤولون فرنسيون سابقون للإيليزيه بعد هجمات شارلي إيبدو في يناير الماضي، من أمثال الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، والوزير الأول السابق جون بيير رافاران، ووزير الداخلية الراحل شارل باسكا، بضرورة إعادة الدفء إلى العلاقات مع المغرب، وإعادة نسج التعاون القضائي والأمني بين البلدين، خير دليل على فاعلية الأجهزة الأمنية المغربية في مواجهة خطر الإرهاب. محاربة الفقر في مهده إدراكاً منه للحاجة الملحة لمحاربة الفقر المدقع والتهميش الاجتماعي وتوفير آفاق أفضل ومستقبل مشرق للشباب في الأحياء الهامشية، أطلق الملك محمد السادس في سنة 2005 المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، هذه الأخيرة تمثل العنصر الثاني في إستراتيجية المغرب لمحاربة الإرهاب. فحسب تقرير صادر عن البنك الدولي في 2015، استفاد 4 ملايين من المغاربة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية منذ إطلاقها، والتي مكنت المغرب من التوفر على رابع أكبر شبكة أمان اجتماعي في العالم، بحسب البنك الدولي. وبموازاة مع هذه المبادرة، تم إطلاق مشاريع متعددة في مختلف أنحاء البلاد، بهدف تعزيز فرص العمل وخلق نوع من التوازن بين مختلف جهات المملكة. ومن جهة أخرى، انخرطت الحكومة المغربية في سياسة الاستثمارات العمومية الضخمة، في البنيات التحتية والقطاع الاجتماعي، بهدف محاربة الفقر والتهميش. وحسب دراسة نشرها مركز كارنيجي للشرق الأوسط في 2010، فقد نجح المغرب في انتشال 1.7 مليون مغربي من الفقر في الفترة الممتدة من 2000 إلى 2010. كما أشارت الدراسة نفسها إلى أن معدلات الفقر في المغرب انخفضت بأكثر من 40 في المائة خلال الفترة نفسها. كما أن المغرب نجح في تقليص معدل الفقر المدقع من 2 في المائة سنة 2001 إلى 0.28 في المائة سنة 2011. وفي السياق نفسه، وفي تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء في أكتوبر 2014، قال سيمون كراي، مدير المغرب العربي بالبنك الدولي، إن معدلات الفقر النسبي في المغرب انخفضت في الفترة نفسها من 15.3 في المائة إلى 6.02 في المائة. مراقبة المجال الديني ونشر القيم الحقيقية للإسلام لعل ما يفسر كذلك وجود المغرب في مأمن من الهجمات الإرهابية هو العنصر الثالث من مقاربته؛ فبعد هجمات الدارالبيضاء الإرهابية في 16 ماي 2003 اعتقلت السلطات المغربية عددا كبيرا من المشتبه في علاقتهم المباشرة وغير المباشرة بالأحداث الإرهابية، وتزامنت هذه الإجراءات الأمنية الصارمة مع تبني مقاربة "القوة الناعمة"، وهي مقاربة قد تكون لها فعاليتها على المدى البعيد، إذ أدركت السلطات المغربية بعد تلك الهجمات أن من أهم الركائز في محاربة الإرهاب مراقبة المساجد. ما حدث في الدارالبيضاء في ماي 2003 كان بمثابة جرس إنذار للسلطات المغربية التي أدركت أن مئات المساجد عبر البلاد تعمل بعيداً عن مراقبة السلطات المختصة؛ فخلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي تغلغلت عدد من الممارسات والخطب المناقضة للممارسات الدينية الجاري بها العمل في المملكة في عدد من المساجد، خصوصا في المناطق النائية والأحياء الفقيرة. وجاءت هجمات الدارالبيضاء إلى حد ما كنتيجة للأفكار المتطرفة التي نُشرت في بعض المساجد التي لم تكن خاضعة لمراقبة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. ودفعت تلك الهجمات السلطات المغربية إلى استخلاص العبر، ومن ثمة إعادة وضع كل مساجد المملكة تحت رقابة الوزارة الوصية؛ مما ساهم في سد الطريق على المجموعات المتطرفة. ومنذ ذلك الحين، يخضع كل مسجد حديث البناء، سواء بأموال الدولة أو أموال المحسنين، إلى قوانين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي لها الصلاحية الحصرية في تعيين الأئمة والأطر التي تشرف عليها. وقد رافق هذا الإجراء عزم المغرب على صد الأفكار المتطرفة التي تبثها بعض القنوات في المشرق العربي، وهو ما تُوج بإطلاق الملك محمد السادس لقناة دينية ومحطة إذاعية للقرآن الكريم تحملان اسمه في أكتوبر 2004. ويكمن الهدف من إنشاء قناة تلفزية ومحطة إذاعية متخصصتين في المجال الديني في ضمان الأمن الروحي للمغاربة، ونشر صورة واضحة حول المبادئ والقيم النبيلة للإسلام، وإلقاء الضوء على القيم الدينية المغربية المبنية على الاعتدال والتسامح ومحاربة التطرف. وقد نجحت إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم في استقطاب نسبة كبيرة من المستمعين، إذ تعتبر من بين المحطات الإذاعية الأكثر شعبيةً حسب تصنيف للمركز المهني لقياس نسب الاستماع الإذاعي بالمغرب. بالإضافة إلى ما سبق، شرع المغرب في إعادة إدماج عدد من أبرز الوجوه التي اتُهمت بلعب دور أيديولوجي في تفجيرات الدارالبيضاء، وهو ما تجسد في عفو الملك محمد السادس عن عدد من الإسلاميين الذين كانوا يعتنقون الفكر السلفي الجهادي وسجنوا لعلاقتهم بالهجمات الإرهابية، من أبرزهم حسن الكتاني وعمر الحدوشي ومحمد الفيزازي، الذين كانوا قد أدينوا بأحكام وصلت إلى 30 سنة سجنا نافذاً. وفي سنة 2011، استفاد الثلاثة من عفو ملكي، في خطوة بالغة الرمزية، نجحت في إعادة إدماجهم، وبرهنت على نجاح المقاربة المغربية؛ بل الأكثر من ذلك أن الفيزازي أَمَّ الملك محمد السادس في صلاة الجمعة في طنجة يوم 28 مارس 2014. كما انضم عدد من السلفيين الجهاديين السابقين لحزب عبد الصمد أعرشان، الحركة الديمقراطية والاجتماعية، في شهر ماي الماضي. وأطلق المغرب برنامجا شاملاً لجعل المساجد أماكن لتعليم النموذج الديني المغربي، القائم بالأساس على المذهب المالكي، إذ أُطلق برنامج دعم ديني في يونيو 2014، يهدف إلى تكوين الأئمة في المغرب وفي الدول التي تواجه التطرف والعنف؛ كما يهدف إلى تكوين جيل جديد من الأئمة والمرشدين، انطلاقا من قيم الإسلام المنفتح والمتسامح، لحماية حرمة الإسلام ضد الأفكار المتطرفة التي تروجها الجماعات المتطرفة. وخلال إطلاق البرنامج، صرح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق بالقول: "تكمن مهمة البرنامج في مساعدة الأئمة وإرشادهم في المساجد لصيانة أسس الإسلام في المغرب، انطلاقا من المذهب المالكي، وصد الفكر التكفيري الذي يغزو عقول شبابنا." ولم تساعد هذه الإستراتيجية المغرب في الجهود الرامية إلى محاربة التطرف والإرهاب فحسب، بل ساهمت كذلك في تعزيز تأثيره الديني والروحي في القارة الإفريقية. وفي إطار هذه الإستراتيجية، قام الملك محمد السادس بإحداث معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات في مارس 2015، ثم إحداث مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في يونيو 2015. وبموازاة ذلك، أصدر الملك محمد السادس ظهيراً شريفا في 24 يونيو 2015 لإعادة إحياء دور أعرق معلمة تعليمية بالعالم، جامعة القرويين بفاس، بهدف المساهمة في إشعاع القيم النبيلة للإسلام. ورغم أنه من المبكر الحكم على مدى فعالية مقاربة المغرب في المجال الديني، فإن الاهتمام الذي حظيت به في إفريقيا وأوروبا دليل على أن تجربة المغرب في تكوين الأئمة يُنظر لها كقوة موازنة وحصن حصين أمام الفكر الجهادي والتكفيري. ولعل ما يؤكد حظوة التجربة المغربية هو تهافت دول أوروبية وإفريقية على طلب الخبرة المغربية في تكوين الأئمة منذ إطلاق البرنامج سنة 2014، وهي مالي والسنغال ونيجيريا وغينيا وكينيا وليبيا وتونس وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا، وغيرها. صحيح أن كل العوامل السالفة الذكر لم تغير حقيقة مفادها أن المغاربة يشكلون نسبة كبيرة من المقاتلين الأجانب في صفوف داعش، حيث يبلغ عددهم 1500 مقاتل،غير أنه كان من الممكن أن تكون النسبة أعلى بأضعاف كثيرة لو لم يتبن المغرب مقاربة متعددة الأوجه لصد التهديدات الإرهابية. وتبقى المقاربة الشمولية التي تبناها المغرب منذ سنة 2003 لمحاربة التطرف النموذج المثالي لكل دولة إفريقية أو عربية أو أوروبية تواجه التهديدات الإرهابية؛ فمهما بلغت التكنولوجيا التي تستعملها هذه الدول من تطور لوأد آفة الإرهاب، فإنها تبقى محدودة الفعالية في غياب خطاب ذي ثقل موازن لصد الأفكار التي تنشرها المنظمات الإرهابية، وإذا لم تعالج الظاهرة من جذورها الاجتماعية والاقتصادية التي ترمي بالشباب في براثن التطرف والإرهاب. بناءً عليه، ينبغي أن تدفع التجربة الفرنسية، والإخفاق الواضح الذي طبع عمل أجهزتها الاستخباراتية في الحيلولة دون تفادي الهجمات إرهابية، بقادة العالم إلى إعادة دراسة إستراتيجياتهم في محاربة الإرهاب والاعتراف بأن هناك دروساً وعبراً يمكن استخلاصها من التجربة المغربية. *مستشار دبلوماسي | *رئيس تحرير Morocco World News