تشكّل الوثيقة حجر الزاوية بالنسبة لعمل المؤرخ، "فلا تاريخ بدون وثائق أو مستندات"، كما شدّد على ذلك المؤرخ الكبير "لانجلوا"، ومن جاء بعده من مؤرخي الحوليات ورواد التاريخ الجديد. وإذا كانت الأرشيفات الغربية تحظى بفيض من الوثائق، وتغصّ خزانات بلديات المدن الأوروبية وكنائسها ومكتباتها بما يفيد تخزين الأفكار والذاكرة الجماعية، فإننا في المغرب لا نزال نعاني من معضلة التوثيق وحفظ المستندات. يأتي هذا الكلام في سياق بحث لا يزال كاتب هذا المقال في مرحلة جمع مادته العلمية، ويتمحور موضوعه حول "حرية المرأة في المغرب بين المرجعية الإسلامية والمواثيق الدولية". ومن بين المصادر الرئيسية التي يستند إليها هذا البحث "مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية". وكنت أظن أن هذا المصدر في المتناول، خاصة أنه أنتج منذ عهد قريب (سنة 1999)، إلى جانب ما أثاره من ضجة إعلامية تجاوزت حدود المغرب. بيد أن ظني اصطدم بخيبة الأمل، حيث لم أتمكن من الحصول على هذا المستند التاريخي في عدد من المكتبات، كما لم تسعفني محركات البحث في الشبكة العنكبوتية للعثور على نسخة للتحميل، مما جعلني مضطرا لحث الخطى للبحث عنه في بعض المؤسسات كوزارة التضامن والأسرة والتنمية الاجتماعية، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، وما في سلالة هذه المؤسسات من فروع وأقسام، دون جدوى. كما اتصلت بالسيد مدير الأرشيف الوطني الذي أكد لي عدم وجوده في هذه المؤسسة الوطنية حديثة النشأة. وفي كل هذه الأماكن التي شددت إليها الرحال لبلوغ المراد كان يُقترح عليّ الاتصال بمقرات بعض الأحزاب، أو بعض الشخصيات السياسية ممّن هم على صلة بالأستاذ سعيد السعدي الذي وُضع مشروع خطة العمل الوطنية في عهده. لن أسرد الجولات المحبطة التي قمت بها، والتي تجسّد مشهدا من مشاهد معاناة الباحثين المغاربة، لأن ذلك ليس موضوع هذا المقال، لكن الذي أروم طرحه، هو إعادة إثارة السؤال الذي غدا سؤالا مؤرقا: لماذا لا زلنا نتقاعس عن أرشفة وثائقنا؟ ولماذا لا زلنا ندير ظهرنا لتاريخ الحركات النسائية؟ لماذا نترك هذه البياضات تعتري حتى تاريخنا الراهن، بعد أن فقدنا بوصلة التوثيق في الحقب التاريخية الأخرى، وطمسنا تاريخ المرأة، وألقينا به في ركام النسيان؟ إذا كنا نعيب على الأسلاف تغليب العقلية الذكورية في كتابة التاريخ، وطمس نساء ماجدات من قامة كنزة الأوربية، وزينب النفزاوية، وفانو بنت ينتيان، والزهراء الوطاسية، والسيدة الحرة ونساء الحركة الوطنية، وغيرهن من النساء القرويات الكادحات المهمّشات، فعلينا أن نحاسب أنفسنا أولا، ونحن في الألفية الثالثة، وفي عصر الاكتساح المعلوماتي، وحق المعرفة والحصول على المعلومة، ولا زالت وثائقنا عرضة للاحتكار، وفي جيوب بعض الأشخاص، وكأنها ملك أو إقطاع يورث. ومع أنني حصلت على "مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية" بعد جهد جهيد ووساطات بعض الإخوة المناضلين، إلا أن ذلك لم يشف غليلي حيث اعتبرت هذا الحل ظرفيا، وليس بنيويا. فمثل هذه المستندات التاريخية يجب أن تكون رهن إشارة المواطنين، وتحتل مكانها المحترم في الأرشيف الوطني، خاصة إذا تبيّنا من خلال ديباجة الخطة أنها عمل جماعي شاركت فيه العديد من الفعاليات الوطنية، مع تسجيل انتقاد الحركات الإسلامية بالمغرب إقصاءها من إعداده، وهذا من حقها. ومع ذلك، فإنه بالنسبة لنا كباحثين، نعتبره -بحسناته وسلبياته- ملكا للأجيال، وليس حكرا على حزب أو شخص بعينه، أو تمّ إنتاجه ليودع في بيوتات بعض المغاربة، دون بيوتات مغاربة آخرين. ومهما اتفقنا أو اختلفنا مع نصوص هذه الخطة لإدماج المرأة التي تحتاج إلى نقد بناء، فإنها تجسّد في نظرنا نصا تاريخيا ينبغي استثماره من قبل مؤرخي التاريخ الراهن، وكافة المهتمين بتطور الحركة النسائية بالمغرب لعدة اعتبارات: فقد فتح ملفّا لا يزال يلقي بثقله على النقاش الدائر حاليا حول مرجعيات حرية المرأة بالمغرب وترسيم حدودها، في ضوء التدافع بين الحركات الإسلامية المسنودة بالمرجعية الدينية، والجبهة الحداثية اليسارية المتشبعة بالمرجعية الكونية والمواثيق الدولية، وهو تدافع ثقافي سلمي يعكس التحولات التي يشهدها المجتمع المغربي. كما تكمن أهمية مشروع "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"، كمستند تاريخي أيضا، في كونه يشكّل متنا خطابيا طرح حرية المرأة المغربية بقدر كبير من الجرأة، وبالإحالة على المواثيق الغربية دون مواربة، ممّا أسفر عن "تدويل" مسألة المرأة المغربية، وتمخّض عن هذا التدويل هزة فكرية قوية، وانقسام في الرأي العام المغربي حول مدى قبول قرارات المؤتمرات العلمية، والصكوك والمواثيق الدولية كمصدر منتج ومحدّد لحقوق المرأة وحرياتها الأساسية، أو رفضها أو تبيئتها، خاصة في شقّها المتصادم مع التشريع الإسلامي. كما وضع مفهوم الحرية ذاته على محك النقد والمساءلة في ضوء المفاهيم الحضارية المتعارضة، وأسئلة المرجعية والأولويات والمنطلقات، وغيرها من المقولات المتماهية مع الواقع المغربي. هذا دون احتساب ما خلّفته الخطة المذكورة من تداعيات واستقطابات انتقلت إلى الشارع، وتحولت إلى مسيرات ومسيرات مضادة، مما يجعله نصا تاريخيا يستحق أن تمتد إليه يد المؤرخ ليضعه على مبضع التشريح والتدقيق والنقد. لقد عرف مسار حقوق المرأة المغربية منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي، معركتين أساسيتين ترتب عنهما ظهور الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، وهما معركة الإصلاح السياسي، ومعركة حقوق الإنسان. ويمكن القول إن ثلاث عناصر ساهمت في نحت هذا المسار ورسم المعالم الأساسية لبناء التصورات الأولية التي ستصاغ من خلالها مطالب حقوق المرأة في مشروع الخطة المذكورة، وهي نضال الحركات النسائية، ودور المجتمع المدني من نقابات وأحزاب ومنظمات حقوقية، ثم تجدر الوعي النسائي الذي صلّب عوده بفضل تقدم العلوم الاجتماعية، وتأسيس وحدات البحث في الجامعات، وإصدار الكتب والمقالات الصحفية التي ساهمت في الارتقاء بمفاهيم الحرية النسائية، خاصة جريدة 8 مارس. وبفضل الدينامية الفكرية التي أحدثت في هذه المجالات الثلاث، تراكمت عوامل التحول الذي عرفه مفهوم الحرّية وحزمة الحقوق، وبرزت مفاهيم جديدة في التحرر، مسنودة بالمفاهيم التي صاغتها القيم الليبرالية وثقافة العولمة النمطية. لقد أنتج هذا المستند- بالمرجعيات الكونية التي اعتمدها- خطابا يتجاوز الخطابات المألوفة، وفجّر نقاشا فكريا حيويا حول نظام القول في حقوق المرأة المغربية ومرجعياتها، واخترق، لأول مرة، تحصينات خانة "المقدس"، لينفذ إلى المجال العام، وينتقل من فضاء الحشمة والتكتم إلى المطارحة والمصارحة، ممّا يجعله وثيقة فريدة في التاريخ الراهن، خاصة تاريخ الحرية النسائية. ويخيّل إلينا أن الانقسام الذي خلفته الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، هو خلاف فلسفي ومنهجي، وثقافي وحضاري، وليس خلافا سياسيا فحسب، فهو يمثل حلقة من حلقات التدافع بين الفهم الحداثي لحرية المرأة، والفهم التراثي لها، بين المفهوم الإسلامي للحرية الذي له رؤية خاصة منبثقة من الفكر الديني والأخلاقي، والمفهوم الليبرالي الغربي الذي يطرح الحرية في إطار مدني ذي صلة بالفرد المشارك في هيئة إنتاجية. كما أنه جاء نتيجة قراءات مختلفة لتعاليم الإسلام، وتأويل متباين للنصوص القرآنية حول حقوق المرأة، رغم أن النقاش كان يجري داخل مؤسسات ضعيفة (المجتمع المدني والبرلمان)، وداخل مجتمع تشح فيه الحرية، ويفتقر إلى خطاب متماسك يقدم بناء تصوريا ناضجا حول الحرية النسائية. ولعل هذا ما يفرض القيام بالتأصيل ودراسة المواقف وكيفية الاستقبال، ومحاولة معرفة سقف الممارسة العملية المقبولة في التعامل مع حرية المرأة من قبل المجتمع المغربي، ومدى تعالقها مع هويته الحضارية. كما أن هذا المتن الخطابي تميّز بمقاربة التنمية، متأسيا في ذلك بمنظور "أمارتيا صن" الذي يرى أن تحسين وضع المرأة يعدّ مدخلا للنهوض والتغيير. لكنه، بالمقابل، دفع صوب رفع سقف حرية المرأة من خلال مقاربة أخرى تستنهض التفكير والتأمل، ويتعلق الأمر بمقاربة النوع أو ما يعرف ب"الجندر" المستوحى من إعلانات مؤتمرات القاهرة 1994 وبيكين 1995، وهي المقاربة التي تقوم على نفي الفروق البيولوجية الفطرية في تحديد أدوار الرجال والنساء، وتقول بتماثل المشاعر بينهما، بحيث يكون من حق الذكر أن يتصرف كأنثى، ومن حق الأنثى أن تتصرف كرجل، ومن ثم إمكانية قيام أسرة متماثلة (رجل يتزوج برجل أو امرأة بامرأة)، بما يمكّن من هدم أركان المفهوم التقليدي للأسرة، الأمر الذي جعل الحرية الجنسية- وهي إحدى المطالب الثاوية خلف السطور- وقود حطب لمعركة فكرية بين أنصار الخطة ومعارضيها. وبعيدا عن أي مناقشة لهذه المقاربة التي تستحق دراسة خاصة، فإنني أعتبرها، دون أي انحياز، بمثابة مدخل جديد يقدمه هذا المستند لتاريخ الحرية النسائية بالمغرب. وإذا كان الستار قد أسدل على الخلاف بين التيارين الإسلامي والحداثي بصدد خطة العمل الوطنية، بفضل التحكيم الملكي وصدور مدونة الأسرة سنة 2004، فإن ذلك لا يحول دون اعتبارها مستندا تاريخيا يؤرخ لمنعرج فكري متميّز، ويقدّم مادة دسمة لتاريخ المرأة المغربية، وهو ما يحفزنا على المطالبة بنشرها في كتاب يوضع في الأرشيف الوطني، ويتمّ تعميمه على مختلف المكتبات، وبيعه في الأسواق بثمن رمزي، بما يستجيب لتطلعات الباحثين في تاريخ الحركات النسائية. *أكاديمي ومؤرخ