صورة اليسار السياسي في المغرب تزداد تشوها ، سنة بعد أخرى ، ولم يعد اليمين بكل فصائله ومواقعه العدو التقليدي له وحده يشحذ لسانه وأدبياته ضده ، وإنما انتقلت العدوى إلى الكتابات والتصريحات الشفهية اللاذعة من طرف بعض اليساريين أنفسهم ، حزبيين ونقابيين ومثقفين ومحللين سياسيين وأساتذة وصحافيين . وعندما نشرع في الحديث عن هذه الصورة وعن حجم هذا التشويه الذي لحق باليسار المغربي ممثلا بشكل جلي وفاضح في حزب الإتحاد الإشتراكي الذي لازال يبحث عن نفسه بين أنقاض ماض مجيد سحيق ، وشتات حاضر ساحق ماحق، وكذا عن آليات حدوث هذا التشويه والمسؤوليين عنه ، يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي : لماذا زدادت حملات التشهير باليسار وعلى رأسه الإتحاد الإشتراكي وقد وصلت هذه الحملات ذروتها المسعورة هذه السنة ؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال ولكل الذين تستهويهم لذة وهواية الطعن والرفس لذاكرتنا السياسية ، دعونا نبدأ من الموقف الذي يُحَمِّلُ فيه البعض اليسار بكل فصائله وأطيافه مسؤولية الفشل في صناعة قوة سياسية يسارية حقيقية ، الشيء الذي أوصله إلى ما هو عليه من تشرذم وتمزق وغربة وانشطار بعدما كان قوة سياسية متراصة ( هكذا كانت تبدو لنا الصورة على الأقل) ترصع التاج النضالي البديل بدم الشهداء حتى الموت طرحا ومسحا . ففي ظل ما يُتداول في الساحة السياسية اليسارية الآن خاصة بين بعض المناضلين الغاضبين على هذا الوضع ،أن الفشل يعود إلى سببين اثنين لا ثالث لهما : -أولا : اختراق اليسار من طرف غرباء ( ربما من صنيعة المخزن ) خربوه من الداخل وحرفوا اتجاهه ( مرحلة بمرحلة ) إلى أن أوصلوه بذكاء وثعلبية إلى الوضع البائس والمتأزم الذي يعيشه الآن . -ثانيا : بعض ممن كنا نحسبهم أنبياء العصر الجدد في ىالنضال داخل هذا اليسار وبالضبط من الإتحاد الإشتراكي تورطوا في هذه النكسة خلال تحمل مسؤولية تسيير الشأن العام ، ففقدوا توازنهم وأفقدوا معه الحزب استمرارية جماهيريته وقوته ، منهم من جمد عضويته ومنهم من غادر ومنهم من غير لهجة الخطاب السياسي باسم التطور ومماشاة متطلبات العصر والتجديد ، تاركين في سماء السياسة اليسارية ثقوبا عميقة وسحبا سوداء من الحسرة في انتظار أمطار الخلاص المفقود لتجرف معها من رأس الهرم إلى قاعدته جميع الطحالب والطفيليات . وعلى الرغم مما قد يُظَنُّ باليسار المغربي من أنه فشل واستسلم ولم يعد قوة قادرة على فرض نفسه في الساحة السياسية خاصة أثناء الإستحقاقات ، فإن احتواءه على قيم وأفكار ورجال ونساء وخصوصية وتفرد ، يؤكد أنه لم تَعَفْهُ عبقريةُ النضال ولم تُعْفِهِ في نفس الوقت من ضريبتها التي لا مناص له من أدائها . ومهما يَلُُم اللائمون أو يعذر العاذرون زلة ونكسة تراجع اليسار المهول وتمزقه ، فمقطع القول فيه بين المنصفين له ، أن تهميشه ومنعه من الإمداد المعنوي والدعم المادي والأخلاقي رغم هذا التراجع في هذه الظروف العصيبة خطأ جسيم .فالإبقاء على اليسار المغربي وتقويته حتى يتعافى ويصبح سليما عين العقل والصواب .لأن صواب الإبقاء عليه عوض الإجهاز على خميرته ( المناضلون الحقيقيون ) ضرورة سياسية ومجتمعية ملحة تقتضي من الفاعلين السياسيين وعلى أعلى مستوى أن يستبْقوه لا كديكور نزين به الواجهة السياسية الخارجية وإنما كمنافس داخل رقعة الملعب له كل حظوظ ومواصفات وإمكانيات اللاعب السياسي المحترف لمقاصد ثلاثة : -أولا :مواجهة كل سطوة دينية أو مخزنية متطرفة تتزيى وتتمترس خلف جبة السياسة قد تخدع القوم الغوغاء المهازيل وتغرر بهم فيبلغ بهم الطغيان مبلغه .لذلك ينبغي استطلاع الطريق السياسية وما قد تأتي به الظروف لنأمن البغثة . -ثانيا :ضرورة الإستشعار المبكر في الحقل اليساري هو أيضا ، بدسائس أعدائه من صلبه ورحمه الذين قد تبث بهم حسابات وأهواء بعض الأيادي المتسخة هنا وهناك . -ثالثا: تنشيط المشهد السياسي وتنويع خطابه والرجوع به إلى عقله ورشده ومقوماته وخصوصياته .، في أناة القطاة ووثبة الأسد كما يقولون . لقد ساء ظن المخزن والنظام السياسي المغربي باليسار في سنوات الرصاص ، فنكل به وعصف بمناضليه لا يستريح العقل إلى تفسير هذا التنكيل وهذا العصف تفسيرا واحدا ، فالتفاسير تعددت كل حسب موقعه ومصالحه ، من بينها أن اليسار شاب بعض مكوناته نصيب من الغرور أدى به إلى اقتراف أخطاء شكلت بالنسبة للنظام تهديدا له ولكيانه ، والنظام أي نظام أحوج ما يكون إلى الأمان والإستقرار .وأيا كانت النتائج وهي معروفة وموشومة في الذاكرة ( اختطاف، تصفية، اعتقال، نفي، انتقام ، طرد من الشغل، ..) فقد،تم التراجع والتراضي وتمت المصالحة ودخل المغرب ما سمي بالعهد الجديد والمرحلة الديمقراطية الإنتقالية التي لازال بعض اليساريين الغاضبين يرمونها بالهرطقة ويعتبرونها حلبة سباق أو حلقة رهان بين لاعبين سياسيين كومبارس في فيلم أو ملهاة .. وحتى إذا قيل الآن إن الأحزاب الجديدة والطارئة على المشهد السياسي ( البجيدي والبام ) قد قطعت النهر ونشفت أرجلها ، بعدما انتصرت في الإنتخابات الأخيرة ، لتداعي الأحزاب اليسارية ومنها الإتحاد الإشتراكي واضطراب بعض أحزاب اليمين ( حزب الإستقلال) ، فإن اليسار لا يقول إن السياسة في المغرب قد أعقمت أن تعيد ولادة أحزاب سياسية يسارية ويمينية قوية وحقيقية تحارب خصوم الحرية والحياة الديمقراطية النظيفة ، بهيبتها قبل أن تحاربهم ببرامجها وأطرها ومصداقيتها الدولية .لذلك لا ينبغي أن نرث جفوة لليسار المغربي ونبخس حقه وقيمته ، فيجنح التحليل السريع والمنفعل ببعض أقلامنا إلى سوءىالظن وقلة الطمأنينة إلى مستقبل هذا اليسار انطلاقا من بغضاء قديمة لازالت تستحكم على رأيهم فيه.فأجهل الناس باليسار بالأمس واليوم من يجمع بين محبة الوطن وخيانته لا مخافة من خدعة نفسه وإنما لتضليل هواها إلى الأبد.