كل من تتبع وقائع ترتيب بيت الفصيل اليساري المتميز، الحزب الاشتراكي الموحد، يقف منبهرا بإجلال، للأداء المشبع بقيم الديمقراطية، وحق الاختلاف، واحترام تدافع الآراء والتيارات، والمتشبع بأخلاقيات التجرد، والابتعاد عن أنانيات التسلق والانقضاض على كراسي الزعامة. فقد تراجع بإباء كبير، عن الموقع الأول في القيادة، المناضلان التاريخيان، محمد الساسي، وابراهيم ياسين، إيثارا منهما، العمل من الخطوط الخلفية اللصيقة بالقواعد الحزبية، والقريبة من نبض الجماهير، وهما من هما في امتلاك الرصيد التاريخي من خلال التجربة الطويلة الضاربة في عمق النضال اليساري. في مقابل ذلك، برهن مناضلو الحزب على عمق ارتوائهم بثقافة تكريم الاستحقاق النضالي، حينما بوؤوا، امرأة، فاعلة في صفوفهم وحراكهم الثقافي والسياسي، هي السيدة نبيلة منيب، مكانة القيادة، دون استشعار لحساسية أو تحرج أو مركب نقص. بهذا السلوك، يشرف الحزب الاشتراكي الموحد تاريخ البلاد في الديمقراطية الحزبية الداخلية، واحترام مبدأ تكافؤ الفرص، وتحاشي رذائل الوراثة والتملك والتجبر وعبادة الذات، وتحويل جماهير المناضلين إلى قطعان أغنام بلهاء، خاضعة لأساطير الارستقراطية الحزبية، وأوهام كاريزما الكذب والإدعاء والتعالي. وهي الأمراض التي باتت تنخر بنيات الأحزاب المغربية، حتى تلك التي تتفاخر بكونها تنتظم وفق المساطر والقوانين والأنظمة، هي في حقيقة الأمر، مساطر على هوى النومونكلاتورا القيادية المتنفذة، التي تخدع بها المساطيل من الأتباع والمريدين المستلبين بالصمت والتخارس والخنوع والاستخذاء. بالرغم من هذه السيرة الأخلاقية لبعض رجالات اليسار، مغربيا وعربيا، وبالرغم من التماسك الداخلي لبعض أحزابه إلى حد ما، فقد أصبح اليسار يترنح في أزمة خطيرة من حيث انكفائه على مستوى الحراك السياسي، ومن حيث انحسار دوره في الأوساط الشعبية، وانتكاس نفوذه في عمق الجماهير المستضعفة أو الطبقات الكادحة كما يحلو للاصطلاح التعبيري اليساري ترديده، في مقابل صعود التيارات الإسلامية، وهيمنتها على صدارة العمل السياسي والنقابي والاجتماعي، واكتساح مجال وسائل التأثير المجتمعي، من خلال وسائل الإعلام الفضائية، والمساجد، وصناديق الاقتراع، وآلياتها الانتخابية. خلال ستينيات القرن الماضي، استطاع الفكر اليساري بمختلف تلاوينه أن يتغلغل في المجتمعات العربية مباشرة بعد التحرر من ربقة الاستعمار الغربي، مستفيدا من زخم الثورات الاشتراكية التحررية في شرق آسيا، وفي أمريكا اللاتينية. وغدا الانتماء إلى المدرسة الاشتراكية بكل إيديولوجياتها الماركسية أو اللينينية أو الماوية أو البلانكية أو الغرامشية، رمزا للتحرر والتقدم والثورية، ومواجهة الاستعمار، والفيودالية، والديكتاتورية، والتخلف. والأنظمة العربية التي أفرزتها الانقلابات العسكرية، من رحم تيارات القومية العربية، البعثية أو الناصرية، سارت على نفس النهج، وتلونت هي أيضا بمساحيق الاشتراكية. وفي المغرب شكلت تجربة حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية مدرسة رائدة لليسار المغربي، تفتقت عنها كل الاتجاهات اليسارية، بعد التلاقح مع الحزب الشيوعي المغربي الذي لعب دورا رئيسيا، وجسرا ثقافيا، أغرقت من خلاله الطبقة المثقفة بأمواج من المد الثقافي الاشتراكي القادم من الإتحاد السوفياتي، ومن الأحزاب الاشتراكية والشيوعية الغربية، فظهر اليسار الجديد بمنظماته "إلى الأمام"، و"23 مارس"، و"لنخدم الشعب"، واكتسى الإتحاد الوطني حلته الجديدة في استبداله التنظيمي بالإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، واختيار الاشتراكية العلمية مذهبا فكريا، وكذلك فعل حزب التقدم والاشتراكية بعد دفن رفات الحزب الشيوعي. سياسيا ونقابيا وطلابيا، كان اليسار رقما صعبا في معادلة الصراع، وكانت له الكلمة الأولى في التناظر الثقافي، ولم يكن للحركة الإسلامية المنظمة في زمن الأوج اليساري، سوى دبيب كدبيب النمل. لكن اليسار المغربي فشل في امتحان التفاعل مع الأصالة التاريخية المغربية المنغرسة في وجدان الشعب المغربي بحمولتها الدينية وتراثها المتراكم عبر الأحقاب والأزمان. إذ ظلت الثقافة اليسارية حبيسة الاستنساخ الغربي، ولم تستطع التخلص من ثقل القيم الغربية، في صياغتها لمفاهيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والموقف من الهوية والدين، مما جمد العقل اليساري في رؤيته للدين، والتراث التاريخي الإسلامي، بارتهانه للتفسير الغربي والكنائسي للدين، الذي يحيل على الثقافة الدينية البطريركية. وبنفس المعايير الغربية سقط اليسار في أسار رؤية سلبية للتاريخ الإسلامي هي رؤيته من زاوية التأريخ للحكام والسلاطين والبلاطات، وصراعاتهم الدموية، ونزواتهم الجشعة على حساب مصالح الشعوب، بدل رؤيته بالتفسح في الآفاق العريضة للحضارة الإسلامية من حيث نضالات وكفاحات الشعوب الإسلامية، وعطاءاتها الإنسانية العلمية والجمالية، ومن حيث مواقف وفدائية المجاهدين الفاتحين في سبيل العدالة وتحرير المضطهدين، ومن حيث طهرانية بعض ولاة المسلمين، الذين اهتدت الإنسانية جمعاء، بما أشرقت به مآثرهم في تجارب الحكم والسياسة والإبداع. وبدل أن ينبري اليسار إلى النهل من معين الدين الإسلامي، وما يزخر به من المثل العليا الموجهة للكفاح الإنساني الكوني، فيعمد إلى استثمار كنوزه وذخائره التي لا تنضب ولا تنتهي، في سبيل ضخها في روافد المشروع النضالي، مواجهة للاستغلال الطبقي، والاستضعاف الاجتماعي، والاضطهاد الفئوي والعنصري والطائفي، والاستكبار السلطوي، والعنجهية الاستعمارية، فتصبح القراءة الحضارية للإسلام والتاريخ، ويصبح من خلال ذلك الشعار الديني، دعامات ملهبة وملهمة للخطاب اليساري، بدلا من ذلك، انحدر اليسار من على يسار للدولة إلى يسار للمجتمع. وانعكس ذلك نقصا مهولا في القدرة على الاستقطاب الجماهيري، وأصبح الاحتكام إلى صناديق الاقتراع والانتخاب مدعاة للخجل والتردد والإحجام والانهزام النفسي. وبالرغم من أن اليسار وقواه الاشتراكية هو من كان الأكثر نضالا وعطاءا لضريبة المنافحة عن الديمقراطية، وحرية الإرادة الشعبية، وشفافية صناديق الاقتراع، من خلال التضحيات الجسيمة التي تكبدها سجنا ونفيا وتعذيبا وتقتيلا، وبالرغم من أنه كان الأكثر إبداعا في التنظير الثقافي لهاته القيم، بالشكل الذي مهد الطريق يسيرا ومعبدا للتيارات الإسلامية، فاستفادت من آلاء النضال من أجل الديمقراطية، بقليل من العناء، فإنه تحول في وزنه الانتخابي إلى وضع بائس كوضع الأيتام في مأدبة اللئام. لأن وعي اليسار لازال لم يستوعب حقيقة أنه في الوقت الذي صادم الخطاب اليساري عقائد الأمة، واستخف بأخلاقها وأعرافها الجمعية منجرفا مع ما يسميه العقل الغربي حقوقا وحريات فردية في الجانب المنحرف عن الفطرة البشرية، فترتب عن ذلك أن انفضت الجماهير الشعبية من حوالي خطاب ناشز عن الأصالة المتعارف عليها، فإنه على النقيض من ذلك، كانت تيارات الإسلام السياسي سباقة إلى ملاطفة الوجدان الديني للأمة، وإلى التماهي في خطابها مع الشعور الروحي والأخلاقي العام، وإلى اتخاذ العقيدة الإسلامية منهلا للشعار والدعاية والدعوة، ومرجعا لتفسير الأحوال والوقائع، وتبرير الحجج والذرائع، وتحصين الهوية الجامعة. فكان لها بذلك الاكتساح العام، والطوفان الشعبي الهادر المتعاطف في سياق هذا الربيع العربي، الذي ساهمت فيه كل المرجعيات، والاتجاهات، ولكنه انتهى باستفراد الإسلام السياسي بالظهور، والاستقواء والهيمنة على صناديق الانتخاب. وقد آن الأوان، مع صدمة الانحسار، وقبل التلاشي والاجتثات من فوق الأرض، أن يقرع اليسار جرس الإنذار بالدعوة إلى مراجعة نظرية وفكرية جريئة تجدد المفاهيم المؤسسة للمشروع المجتمعي المتوخى، من خلال رؤية: التقدم، والتحرر، والمعاصرة، والحداثة، بأنوار الأصالة القرآنية، والتاريخ الإسلامي المشرق، والهوية الحضارية الجامعة، والكونية الإنسانية المترفعة عن الانحطاط والعبثية والنزوات القميئة. مراجعة ترفع الجمود النظري بإعمال المنهج الدياليكتيكي الذي يقطع مع التقليد القاتل المنبني على إعادة إنتاج الأنماط التصورية في غير سياقها الاجتماعي أو التاريخي الملائم. والتراث الإسلامي والهوية الحضارية ليست حكرا على التوجهات الدينية وحدها، سواء كانت أنظمة حكم أو حركات سياسية، ولا فضل لأحد على أحد، إلا بالممارسة والمصداقية والتضحية، التي تمتحن على محك الواقع، فلا وجود في الإسلام لديكتاتورية الإكليروس، وقداسة رجال الدين.