إن القلب ليحزن لما حدث من وقائع أليمة بسبب سقوط رافعة على جزء من الحرم المكي و المسعى و ما جاورهما في مكةالمكرمة، و ما ترتب عن ذلك من وفاة و استشهاد كثير من المسلمين و إصابة أعداد كبيرة منهم بجروح خطيرة، و إنه لا يسعنا إلا التقدم بتعازينا لذوي الضحايا و أهاليهم و نسأل الله تعالى أن يحفظ الامة الاسلامية من جميع المصائب و الأوبئة و أن يطفئ نار الحروب ببلاد الاسلام . و لعل البعض قد يلتبس عليه ما يتوهم من عدم مطابقة ما وقع من أحداث اليمة بالحرم المكي مع بعض الايات القرانية التي تتحدث عن أمن الحرم كقوله تعالى فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى 0لنَّاسِ حِجُّ 0لْبَيْتِ مَنِ 0سْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ 0لله غَنِيٌّ عَنِ 0لْعَٰلَمِينَ) الاية 97 من سورة ال عمران، و كقوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ 0جْعَلْ هَٰذَا بَلَداً آمِناً وَ0رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ 0لثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِ0للَّهِ وَ0لْيَوْمِ 0لآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ 0لنَّارِ وَبِئْسَ 0لْمَصِير )ُ الاية 126 من سورة البقرة. و الواقع أن معنى الايات القرانية لا يتعارض إطلاقا مع واقع الحال كما قد يتوهم البعض و يمكن تفصيل القول في ذلك كما يلي ذكر العلامة ابن جرير الطبري في تفسيرم لقوله تعالى ( و من دخله كان امنا) اختلاف الاقوال في ذلك و هذه عبارته ( واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله الخبر عن أن كلّ من جرّ في الجاهلية جريرة ثم عاذ بالبيت لم يكن يها مأخوذا. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن يدخله يكن آمناً بها، بمعنى الجزاء، كنحو قول القائل: من قام لي أكرمته: بمعنى من يقم لي أكرمه. وقالوا: هذا أمر كان في الجاهلية، كان الحرم مفزع كل خائف، وملجأ كلّ جانٍ، لأنه لم يكن يُهاج له ذو جريرة، ولا يعرض الرجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء. قالوا: وكذلك هو في الإسلام، لأن الإسلام زاده تعظيماً وتكريماً وقال آخرون: معنى ذلك: ومن دخله يكن آمناً من النار. وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول ابن الزبير ومجاهد والحسن، ومن قال معنى ذلك: ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذاً به كان آمناً ما كان فيه، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحدّ إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه، وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه فتأويل الآية إذاً: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن يدخله من الناس مستجيراً به يكن آمناً مما استجار منه ما كان فيه، حتى يخرج منه)) انتهى كلام الطبري. أما الامام العلامة الزمخشري جار الله فقد ذكر في معنى قوله تعالى ( و من دخله كان امنا) ما يلي// ( وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب. وعن عمر رضي الله عنه «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه» وعند أبي حنيفة: من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردّة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج. وقيل: آمنا من النار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم ان من مات في احد الحرمين بعث يوم القيامة امنا... الخ). و ينقل العلامة ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس قوله في هذه الاية وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً قال:( من عاذ بالبيت، أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى، فإذا خرج أخذ بذنبه). أما الامام القرطبي في تفسيره الجامع لاحكام القران فقد ذكر نفس الاقوال و هذه عبارته باختصار (( قال بعض أهل المعاني: صورة الآية خبر ومعناها أمر، تقديرها ومن دخله فأمّنوه؛ كقوله ( فلا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. ولهذا المعنى قال الإمام السابق النعمان بن ثابت: من 0قترف ذنباً و0ستوجب به حداً ثم لجأ إلى الحرم عصمه، (لقوله تعالى { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً }؛ فأوجب الله سبحانه الأمْن لمن دخله. ورُوي ذلك عن جماعة من السلف منهم 0بن عباس وغيره من الناس)) انتهى كلام القرطبي رحمه الله. و لم يخالف الامام الشوكاني في فتح القدير الاقوال التي نقلناها سابقا عن باقي المفسرين وهذه عبارته (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } جملة مستأنفة لبيان حكم من أحكام الحرم، وهو: أن من دخله كان آمناً، وبه استدل من قال: إن من لجأ إلى الحرم، وقد وجب عليه حدّ من الحدود، فإنه لا يقام عليه الحدّ حتى يخرج منه، وهو قول أبي حنيفة، ومن تابعه، وخالفه الجمهور، فقالوا: تقام عليه الحدود في الحرم)) انتهى كلام الامام الشوكاني و نفس الاقوال نجدها عند الامام الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب، و يذكرها البيضاوي في تفسيره انوار التنزيل و أسرار التاويل، و هو لمعنى الوارد اختصارا في كل من تفسير الجلالين، و كذلك تفسير الأعقم من علماء الزيدية المتأخرين، كما ذكرها الهواري من علماء الاباضية في تفسيره، و الشيخ اطفيش من متأخرة المذهب الاباضي و غيرهم. و لقد ورد في تفاسير علماء الشيعة نفس المعاني و الاختلافات في الاقوال التي تدور جميعها حول تفاصيل وجوب تأمين من دخل الحرم من مرتكبي الجرائم المختلفة، و هذا ما وقفنا عليه بالاطلاع على ما ورد في تفسير مجمع البيان في تفسير القران للطبرسي، و التبيان الجامع لعلوم القران للطوسي، و الصافي في تفسير كلام الله الوافي للكاشاني. و قد ذكرت أقوال المفسرين في ذلك لبيان أن معنى الاية انما ينصرف لوجوب تأمين من دخل الحرم و تجنب أذاه، حتى و لو كان مرتكبا لجناية، على خلاف بين الفقهاء في تفصيل ذلك و ما يتفرع عنه من نوازل و حالات واقعية قد يضطر معها ولي الامر إلى الخروج عن هذه القاعدة لضرورة معتبرة شرعا. إذن فما وقع من أحداث و إن كان قدرا مقدورا فهو يكيف في إطار المسؤولية التقصيرية للدولة السعودية التي يلزمها الشارع بتوفير الامن للحجاج و المعتمرين و المصلين و توفير الحماية من انواع الاخطار، مع العلم ان دلالة ( و من دخله كان امنا) تقتضي ذلك و تستوجبه، فهي و إن جاءت بصيغة الخبر فإن المراد بها الامر، و هذا من أساليب اللغة العربية التي يأتي فيها الانشاء احيانا بصيغة الخبر، ومما يدل على ذلك أن الحرم المكي كان فيما مضى محلا لأحداث اعتداء في صدر التاريخ الاسلامي من طرف الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قذف الكعبة بالمنجنيق، و كذلك لا ننسى ما حدث من اعتداء في الربع الاخير من القرن العشرين من طرف جماعة جهيمان الارهابية التي سيطرت على الحرم المكي، و التي اضطر معها الجيش السعودي الى اقتحام الحرم المكي بالآليات العسكرية و الاسلحة. وإنما أردت أن أذكر بهذه المسألة لأن المتربصين بالاسلام و المسلمين يتصيدون الفرص للتشكيك في مصداقية النص القراني، و منهم بعض المتنصرين الذين يستمرئون الكذب و يتربصون الدوائر بالمسلمين، و الله متم نوره و لو كره الكافرون و لله الامر من قبل و من بعد. *محامي بهيئة الدار البيضاء