نتعرف في هذه الحلقة على مفسر وفقيه كبير عاش إبان ازدهار الحركة العلمية بالغرب الإسلامي خلال عصر الموحدين، وترك تفسيرا للقرآن يستحق أن يدرس ويستخلص منهجه وآفاقه.. يتعلق الأمر بالمفسر الكبير الإمام القرطبي... هو أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الأندلسي القرطبي المفسِّر، ولد أوائل القرن السابع الهجري بقرطبة، وأصبح من أشهر أعلامها على الإطلاق، وعندما يذكر القرطبي، تنصرف الأذهان مباشرة إليه.. نشأ الإمام القرطبي في أسرة فقيرة، يدل على هذا أنه كان في شبابه يقوم بأعمال متواضعة كنقل التراب إلى الفخّارين خارج مدينة قرطبة، وقد ذكر هذا في كتاب "التذكرة" فقال: "ولقد كنت في زمن الشباب- أنا وغيري- ننقل التراب على الدواب من مقبرة عندنا تسمى بمقبرة اليهود خارج قرطبة.." (التذكرة 1/37). استشهد والد الإمام القرطبي في الغارة التي شنّها القشتاليون صبيحة الثالث من رمضان سنة 627ه.. ويفيدنا القرطبي في "الجامع" (4/272) حول حادث استشهاد والده بمسائل فقهية بقوله: "وكان في جملة من قتل والدي رحمه الله، فسألت شيخنا المقرئ الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي حجة فقال: غسّله وصل عليه فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصَّفين. ثم سألت شيخنا أبا عامر بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع فقال: إن حكمه حكم القتلى في المعترك، ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن علي بن قطرال، وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا: غسِّلهُ وكفِّنهُ وصلِّ عليه، ففعلت، ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في "التبصرة" لأبي الحسن اللّخمي وغيرها.. ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسّلته، وكنت دفنته بدمه في ثيابه.." فأنظر أيها القارئ الكريم كيف تعامل القرطبي مع حادث عاطفي متعلق باستشهاد والده تعاملا علميا، فهو لم يركن إلى أقوال فقهاء عصره بل تعمق في البحث حتى اطمئن إلى غير ما كان قام به إزاء تجهيز والده الشهيد... واستغل الإمام القرطبي وقوفه في تفسيره "الجامع" عند قوله تعالى: "وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يومنون بالاَخرة حجابا مستورا" [سورة الاِسراء، الآية: 45] ليروي قصة نجاته من الأسر بعد سقوط قرطبة في يد القشتاليين، يقول: "ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منتور من أعمال قرطبة مثل هذا، وذلك أني هربت أمام العدو وانزحت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر: هذا دْيَبْلُه –يعنون شيطانا- وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك" (الجامع (10/270). ويستنتج العلامة محمد بنشريفة في كتابه: "الإمام القرطبي المفسر سيرته من تآليفه (منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، الرابطة المحمدية للعلماء، 2010) من هذا الحادث الطريف أن الإمام القرطبي كان على إلمام ببعض مبادئ اللغة القشتالية التي لم تكن غريبة عنه تماما... ولا أرى هذا غريبا في حق عالم أبدى منذ حداثة سنه همة عالية في تحصيل العلم والتعمق في مسائله... وقد قرأ القرطبي في بلده قرطبة على شيخين مشهورين: أولهما أبو جعفر أحمد بن أبي حجة، قال ابن عبد الملك المراكشي في "الذيل والتكملة" ( 5/585): "تلا بالسبع في بلده على أبي جعفر بن أبي حجة"، أما الشيخ الثاني فهو أبو عامر يحيى بن ربيع القرطبي، قال ابن عبد الملك المراكشي في "الذيل والتكملة" ( 5/585): "وروى عن أبي عامر بن ربيع وأكثر عنه".. في قرطبة تعلم الإمام القرطبي مبادئ العربية وأسرارها إلى جانب تعلمه القرآن الكريم، وتلقى بها ثقافته الواسعة في الفقه والنحو والقراءات كما درس البلاغة وعلوم القرآن.. وبقي الإمام القرطبي بقرطبة حتى سقوطها، وخرج منها نحو عام 633 ه- دون وجود إجماع على سنة خروجه من الأندلس-، فرحل إلى المشرق، واستقرّ به المقام بمنية ابن خصيب في شمالي أسيوط بمصر، فاتخذها داراً له ومقاماً.. قال ابن فرحون في "الديباج المذهب" عن الإمام القرطبي: "كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين، الزاهدين في الدنيا المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة"، ويدل على هذا الجانب الكبير من شخصية صاحبنا القرطبي تأليفه كتابي "قمع الحرص بالزهد والقناعة" و "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة"... وهذا الكتاب الأخير من أشهر كتبه بعد تفسيره "الجامع".. وذكر ابن عماد الحنبلي في "شذرات الذهب" عن القرطبي: أنه "كان إمامًا علمًا من الغوّاصين على معاني الحديث، حسن التصنيف، جيد النقل".. وكانت للإمام القرطبي مواقف واضحة من الفساد السياسي والاجتماعي الذي ظهرت بعض ملامحه في عصره، ولم يحل تفانيه في التصنيف والتأليف بينه وبين إعلان موقفه السياسي بروح إصلاحية واضحة المعالم.. يقول في "التذكرة": "هذا هو الزمان الذي استولى فيه الباطل على الحق، وتغلب فيه العبيد على الأحرار من الخلق فباعوا الأحكام، ورضي بذلك منهم الحكام، فصار الحكم مكسً، والحق عكسً، لا يوصل إليه، ولا يقدر عليه، بدلوا دين الله، وغيروا حكم الله، سمّاعون للكذب أكالون للسحت..". كان الإمام القرطبي ملتزما بالقواعد المنهجية في تعاطيه مع صناعة التأليف، وكان حريصا على إثبات الفضل لأهله.. وقد كتب في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" : "وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليه، والأحاديث إلى مصنفيه، فإنه يقال: من "بركة العلم أن يضاف إلى قائله".. وقال في "التذكرة": "وكنت بالأندلس قد قرأت أكثر كتب المقرئ الفاضل أبي عمرو عثمان بن سعيد المتوفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة".. كما كان قارئا نهما لكتب العلامة ابن عبد البر، والعلامة المالكي أبو بكر ابن العربي المعافري.. وقد نقل عنهما الكثير ولا سيما "التمهيد" للأول، و"الأحكام" للثاني.. من شيوخ القرطبي نذكر عبد الوهاب بن رواج الإسكندرانى المالكي المتوفى سنة 648ه، وبهاء الدين ابن الجميزى الشافعي المتوفى سنة 649 ه، وأبو عباس أحمد بن عمر المالكي القرطبي المتوفى سنة 656ه صاحب "المفهم في شرح صحيح مسلم"، والحسن البكري النيسابورى الدمشقي المتوفى سنة 656ه.. يقول العلامة محمد بنشريفة في كتابه: "الإمام القرطبي المفسر سيرته من تآليفه (منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، الرابطة المحمدية للعلماء، 2010): "لا نعرف تاريخ رحلة الإمام القرطبي إلى مصر كما أننا لا نعرف الطريق الذي سلكه في رحلته، وقد يكون رحل في رفقة شيخه أبي العباس أحمد بن عمر.. والمعروف أن هذا خرج من قرطبة مهاجرا، ومر بسبتة، وفاس، وتلمسان، وتونس، ثم نزل الإسكندرية واستقر بها إلى أن مات فيها سنة 656ه.. والإمام القرطبي يروي كثيرا عن هذا الشيخ وينقل عن كتابه "المفهم في شرح صحيح مسلم" وذكره يتردد في "الجامع"، وفي "التذكرة".. ونستفيد من إشارة الدكتور محمد بنشريفة في كتابه لنص ورد عند الصفدي في "الوافي بالوفيات" أن الإمام القرطبي "دخل مصر القديمة، ولقي الإمام القرافي شيخ علمائها يومئذ، ولعله استدعاه في وقت من أوقات الربيع إلى نزهة في أرض الفيوم كما جرت عادة أهل مصر".. ويضيف الدكتور بنشريفة: "لا ندري سبب اختيار القرطبي المقام بمنية ابن خصيب في الصعيد، ولكننا نعرف أن عددا غير قليل من أهل الأندلس والمغرب استقروا اختيارا أو اضطرارا بمختلف مدن الصعيد.. ولعل اختيار القرطبي منية ابن خصيب لكونها تذكره بمُنية نصر التي ربما نشأ بمنطقتها، ومهما يكن السبب؛ فإن القرطبي كان زاهدا ميالا إلى التقشف مطرحا للتكلف"، ونقرأ في "النفح" للمقري أن الإمام القرطبي كان "يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية".. ورجل هذه حاله –يضيف محمد بنشريفة في كتابه- ربما تكون الأرياف أنسب له وأليق به، ويبدو أنه كان معجبا بالنّيل يطيب له ركوبه والتنزه فيه، والتدارس على ظهره قال في "التذكرة": "أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام، مفتي الأنام، أبو الحسن علي بن هبة الله الشافعي بمنية ابن خصيب على ظهر النيل بها...". ذكر المؤرخون للإمام القرطبى عدة مؤلفات غير كتاب "الجامع لأحكام القرآن"، ومن هذه المؤلفات: "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة"؛ و"التذكار في أفضل الأذكار"؛ و "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى".. وقد أشار القرطبي في تفسيره إلى مؤلفات له منها: "المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس"؛ و "اللمع اللؤلؤية في شرح العشرينات النبوية". وإن المطلع على تفسير الإمام القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" يجده قد استوعب فيه علوم من سبقه من المفسرين كمحمد بن جرير الطبري، صاحب "جامع البيان في تفسير القرآن"، المتوفى سنة 310ه، وأبو الحسن على بن محمد المارودي المتوفى سنة 450ه، وأبو جعفر النّحاس صاحب كتابي: "إعراب القرآن"، و"معاني القرآن" المتوفى سنة 338ه، وقد نقل عنه القرطبي كثيراً، وابن عطية (ت سنة 541ه) صاحب "المحرر الوجيز في التفسير"، وقد أفاد القرطبي منه كثيراً في القراءات واللغة والنحو والبلاغة، وأبو بكر بن العربي صاحب كتاب "أحكام القرآن" (ت سنة 543ه)... ويجمل العلامة بنشريفة في كتابه عن القرطبي البيئة العلمية التي نشأ بها الإمام القرطبي بالأندلس مستنبطا من خلال كتابيه "الجامع" و"التذكرة" "أن تكوينه العلمي المتين حصل في الأندلس، وهو في هذين الكتابين يحيل كثيرا على علمائها كأبي بكر ابن العربي، وأبي محمد ابن عطية، وأبي الخطاب ابن دِحية، وأبي الحسن بن بطال، وأبي بكر بن برَّجان، والقاضي عياض، وأبي الوليد الباجي، وعبد الحق الإشبيلي، وأبي بكر الطرطوشي، وأبي عبد الله المازري، وابن سيدة، والسُّهيلي..". وقد تأثر كثير من المفسرين الذين جاءوا بعد القرطبي بتفسيره، ومنهم الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774ه، وأبو حيان الأندلسي الغرناطي المتوفى سنة 754ه، وذلك في تفسيره "البحر المحيط"، ومحمد بن على الشوكاني المتوفى سنة 1255ه، وقد أفاد من القرطبي كثيراً في تفسيره "فتح القدير".. ولا شك أن تفسير القرطبي يعتبر موسوعة عظيمة حوت كثيراً من العلوم، فهو من أجلّ التفاسير وأنفعها.. أسقط منه القرطبي القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن واستنباط الأدلة، وذكر القراءات والإعراب وعني بذكر أسباب النزول... وكتابه "الجامع لأحكام القرآن" من أوائل الكتب التي نهجت هذا النهج في استخراج الأحكام من القرآن.. قال القرطبي في مقدمة "الجامع لأحكام القرآن": "فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقلّ بالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمري وأستفرغ فيه قوتي، بأن أكتب فيه تعليقاً وجيزاً يتضمَّن نكتاً من التفسير واللغات والإعراب والقراءات والردّ على أهل الزيغ والضلالات. وأحاديثنا كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعاً بين معانيها، ومبيناً ما أشكل منهما، بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف، وعملته تذكرة لنفسي، وذخيرة ليوم رمسي، وعملاً صالحاً بعد موتي"... ومن مميزات تفسير الإمام القرطبي تضمنه لأحكام القرآن بتوسع، وتخريجه الأحاديث وعزوها إلى من رووها غالباً، وهذا عمل منهجي كبير... وجدير بالملاحظة أن القرطبي تجنب ما استطاع الإكثار من ذكر الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة إلا من بعض مواطن كان يمر عليها دون تعقيب، كما أنه كان إذا ذكر بعض الإسرائيليات؛ فإنه يستفرغ جهده في إظهار ضعفها، كما فعل في قصة هاروت وماروت، وقصة داود وسليمان وقصة الغرانيق.. وهي أمور تداولها المفسرون قبل وبعد القرطبي دون نقد أو تمحيص.. حدد القرطبي منهجه بأن يبين أسباب النزول، ويذكر القراءات، واللغات ووجوه الإعراب، وتخريج الأحاديث، وبيان غريب الألفاظ، وتحديد أقوال الفقهاء، ثم أكثر من الاستشهاد بأشعار العرب، ونقل عمن سبقه في التفسير، مع تعقيبه على من ينقل عنه، مثل ابن جرير، وابن عطية، وابن العربي، وأبي بكر الجصّاص.. لذلك يمكن اعتبار كتاب "الجامع" وثيقة ثمينة ضمت الفقه والأصول والأدب والرجال، وشاهدة على الروح العلمية السائدة في عصر القرطبي، وعلى المادة العلمية المتداولة، والعلائق بين العلماء، ومسارات انتقال العلم عبر التلمذة والإجازة والرحلة.. وكم يعتبر هذا المبحث رائقا ومفيدا، ذلك أنه شاهد موضوعي على الحياة الثقافية والفكرية وراصدا لتحولاتها قوة وضعفا... ولم يكن الإمام القرطبي متعصبا لمذهبه الفقهي رغم مالكيته المعلنة، وكان يذكر مذاهب الأئمة ويناقشها، وينتصر لما يبدو له مستندا إلى الدليل.. وقد دفعه الإنصاف إلى الدفاع عن المذاهب والأقوال التي نال منها أبو بكر ابن العربي المالكي في تفسيره، مع العلم أن الإمام القرطبي من أكثر العلماء المتأثرين بابن العربي، لكن ذلك لم يمنعه من أن يمارس حرية كبيرة في النقد والتمحيص والمناقشة الهادئة بما أضاف لعلم التفسير فوائد عملية قطعت –بما سمحت لها الشروط الموضوعية- مع منهج في التفسير يعتمد أساسا على النقل والقصص وفي كثير من الأحيان على "الأساطير"... وقد بيّن الإمام القرطبي شرطه ومنهجه في تفسيره بما يمكن إجماله في النقاط التالية: إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها؛ فإنه يقال: "من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله"؛ والإضراب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين؛ وتبيين آيات الأحكام بمسائل تُسفر عن معناها وترشد الطالب إلى مقتضاها؛ وإن لم تتضمن الآية حكماً ذكر ما فيها من التفسير والتأويل؛ وذكر أسباب النزول، والقراءات، والإعراب، وبيان الغريب من الألفاظ، مع الاستشهاد بأشعار العرب (انظر "الجامع لأحكام القرآن").. والذي يقرأ تفسير القرطبي يجد أنه قد التزم بما شرطَه، فهو يعرِض لأسباب النزول، والغريب من الألفاظ، ويحتكم إلى اللغة كثيراً، ويناقش الفِرق الكلامية كالمعتزلة، والقدريّة، ويناقش الفلاسفة، كما كان ينقل عن كثير ممن تقدمه في التفسير، خصوصاً من ألّف منهم في كتب الأحكام كابن جرير الطبري، وابن عطية، وابن العربي، وأبو بكر الجصّاص.... ونموذج هذا المنهج نستشفه في تفسير القرطبي لسورة الحاقة... يقول القرطبي: قوله تعالى: "الحاقة، ما الحاقة" يريد القيامة، سميت بذلك لأن الأمور تحق فيها، قاله الطبري، كأنه جعلها من باب "ليل نائم"، وقيل: سميت حاقة لأنها تكون من غير شك، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها أحقت لأقوام الجنة، وأحقت لأقوام النار، وقيل: سميت بذلك لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله... "وما أدراك ما الحاقة".. قال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن "وما اَدراك" فقد أدراه إياه وعلمه.. وكل شيء قال: "وما يدريك" فهو مما لم يعلمه.. ومن مميزات "الجامع" للإمام القرطبي مراعاة الدليل وعدم التعصب للمذهب، ذلك أنه عند ذكره لمسائل الخلاف بين العلماء لا يتعصب لمذهبه المالكي بل يمضي مع الدليل حتى يصل إلى ما يراه أنه الحق.. ومن أمثلة ذلك ما ذكره القرطبي في آيات الصيام عند قوله تعالى: "ولِتُكْمِلوا العِدَّةَ.." في المسألة السابعة عشرة في حكم صلاة عيد الفطر في اليوم الثاني، مع نقله عن ابن عبد البر أنه لا خلاف عند مالك وأصحابه أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال، وحجتهم في ذلك أن صلاة العيد لو قضيت بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى، فهذه مثلها". لكن صاحبنا يعلق بقوله: "قلت: والقول بالخروج إن شاء الله أصح، للسنة الثابتة في ذلك، ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يصلِّ ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس".. ومن أمثلة ذلك أيضاً مسألة تقديم الحلق على الذبح في يوم النحر، فقد وضّح أن ظاهر المذهب المنع من تقديم الحلق على الذبح إن كان عامداً قاصداً، ثم قال: والصحيح الجواز، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج"... مما يتميّز به القرطبي كذلك في تفسيره التحقيق التام للمذهب المالكي حيث يذكر روايات الإمام مالك في المسألة، وقول أئمة المذهب، ومن وافق، ومن خالف، وذلك في كثير من المسائل، ومع ذلك قد يرجح بين هذه الأقوال.. ومثال ذلك "أنه لما ذكر قَدر السفر الذي يترخّص فيه المسافر بالرّخص في آية الصيام قال: "واختلف العلماء في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلاً، قال ابن خوَيزمَنْداد: وهو ظاهر مذهبه، وقال مرّة: اثنان وأربعون ميلا، وقال مرة ستة وثلاثون ميلاً، وقال مرة: مسيرة يومٍ وليلة، وروي عنه يومان، وهو قول الشافعي، وفصّل مرة بين البر والبحر، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا، وفي المذهب ثلاثون ميلاً، وفي غير المذهب ثلاثة أميال".. لا شك أننا إزاء عالم كانت مقاصده واضحة: التعمق في المذهب والانفتاح على المذاهب الأخرى وإنصافها، وتكثيف المفاهيم العملية في "جامعه" بدل القصص والأخبار والإسرائيليات، وجمع غريب الألفاظ، وتدوين كلام العرب، ورسمه لخريطة الحركة العلمية في عصره... كلها مباحث تغري بالتعمق وتعد باستثمار معرفي على عدة مستويات... كانت وفاة الإمام القرطبي رحمه الله بمنية الخصيب بصعيد مصر، ليلة الاثنين التاسع من شهر شوال سنة 671ه.. والله الموفق للخير والمعين عليه..