اعتبار بعض الناس في نواحي آسفي ما يسمونه «حج المسكين» حجّا مشروعا هو نتيجة من نتائج جهلهم بالدين، والجهلُ لا يُرفَعُ إلا بالعلم، وهذه المقالة للعلامة عبد الله اكديرة مساهمة أخرى منه في إضاءة هذا الموضوع: 1 هذا البيت الذي فرض اللّه تبارك وتعالى حجه هو البيت الحرام بمكةالمكرمة - زادها اللّه تعالى تكريما وتشريفا وتعظيما - وقد صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم أنه قال حين سأله سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عن أول مسجد وضع في الأرض: «المسجد الحرام» قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى» قلت: كم بينهما؟ قال: «أربعون عاما، ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل» (مسلم)، وهو مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام... وقد أخرج الإمام ابن أبي حاتم رحمه اللّه تعالى بسنده عن حبْر الأمة عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: «الحرم كله مقام إبراهيم» ولقد ذهب العالِم الصالح التابعي الجليل الشهيد سعيد بن جُبَيْر رحمه اللّه إلى القول: «الحج مقام إبراهيم»، أوجب اللّه الأمن لمن دخله في قوله تعالى: «... ومن دخله كان آمنا...» (نفس الآية 97 من سورة آل عمران).. والحرم المكي كله آمن ومَنْ دخله أمِنَ .. وذلك من آيات اللّه في الحرم والبيت... وقد ذكر الإمام القرطبي رحمه اللّه تعالى منْ بعض أهل المعاني:«... صورة الآية خبر ومعناها أمر، تقديرها ومن دخله فأمنوه» (الجامع لأحكام القرآن - المجلد الثاني- ص: 132)، وقد فُهمَ من هذا أن من دخل البيت ومقام إبراهيم والحرم لا ليؤدي مناسكه ويحج بل ليرفث أو يفسق أو يريد فيه بإلحاد بظلم فإنه يذوق ما يستحق من إقامة شرع اللّه عليه بالعقاب والحد شرعا في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة نكالا من اللّه.. لقوله تعالى في سورة الحج : «.. ومن يُردْ فيه بإلحاد بظلم نذقهُ من عذاب أليم» (الحج: 25).. وكم أعجبني قول الإمام الجليل الحسن البصري رضي اللّه عنه: «الحج المبرور هو أن يرجع زاهداً في الدنيا، راغبا في الآخرة.. وأنشد رحمه اللّه: ياكعبةَ اللّه دعوة اللاجي دعوةَ مستشعر ومحتاج ودع أحبابَه ومسكَنه فجاء ما بينَ خائفٍ راج إن يقبَل اللّه سعيَه كرماً نَجا، وإلاّ فليس بالنّاجي وأنتَ ممّن تُرجى شفاعتُه فاعطِف على وافدينَ حجّاج وهل يعطفُ اللّه على المريدين في حرمه وبيته بإلحاد بظلم!؟ حاشاه وهو الحكم العدْل المقسط! ونُذكّر هنا ونذُكّرُ أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: «من أتى هذا البيت فلم يرفث أويفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (البخاري). ومعنى يرفث: يفحش قولاً أو فعلا أو هما معاً، ومعنى يفسق: يعصي اللّه ويجاوز حدود شرعه ويخرج عن طاعته.. وأول من فسق إبليس برفض الامتثال لأمر اللّه تعالى حين أمر ملائكته بالسجود لآدم... وذلك قوله جل وعلا: «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا، إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه..» وليس للفاسق عند الله أمان في أيّ مكان ولا زمان إلا بالتوبة النصوح وأما « من كفر فإن اللّه غني عن العالمين» (آل عمران: 97). والحج من حرمات اللّه تجتنب فيه كل معاصيه ومحظوراته ومنهياته .. على اختلاف أنواعها ومستوياتها ودرجاتها.. فهو القائل جل وعلا: «الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» (البقرة» 197).. وكل حاج أو معتمر مُلزم نفسه بأمر اللّه وفرضه أن يشرََع في الحج بالقصد والنية والقول والفعل.. ليقوم بكل مناسكه، كما فرضها اللّه تعالى عليه، على طهارة ظاهرة وباطنة، إلا للضرورة البشرية بدون فحش ولا تفحش، ولو بالعلاقة المشروعة بين الزوجين... ولا فسوق أيا كان خلال الإحرام وتوطين العزم الأكيد على المضي في تركه - في الحرام - بعد انتهاء الحج.. أي مغالبة الناس في الحوار ومماراتهم بالباطل أو بالحق.. فقد ينتهي ذلك الجدال إلى المغاضبة والتشاتم والمشاجرة التي قد تشتد وتمتد إلى المقاتلة.. فلا جدال في وقت الحج ولا مواضعه ولا مواقفه ... بأي شكل من أشكال الجدال... إلا ما كان من المذاكرة في العلم النافع بغير مماراة ولا تعصب... قال الإمام القرطبي عند كلامه على هذه الآية رحمه اللّه تعالى في المجلد الأول من تفسيره:« .. وقيل: هو تحريض وحث على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجدال، وقيل: جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لايوجد ما نُهوا عنه» (الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي، المجلد الأول، ص 380). 2 - لايفهم المسلمون من لفظ الحج ومعناه إلا أنه القصد بنية وعزم وإيمان ويقين إلى بيت اللّه الحرام مقام إبراهيم، لأداء مناسكهم، وعبادة ربهم الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، عبادة تجريد وتوحيد، بلا تعديد ولا تجسيد، عبادة منهم له، وتقرباً منهم إليه بلا زلفى من ملائكة ولا كهنة ولا أصنام ولا أوثان ولا طواغيت من إنس ولا جان... نواياهم صافية نقية طاهرة.. وأعمالهم خالصةٌ مخلصة مخلصة له دون شريكِ ولا ندّ .. وفقَ شرائعه وشعائره، بما شرع لما شرع... عبادة حب وإسلام وطاعة وتعظيم، أداء لأمانته جل وعلا، ووفاء بعهده وميثاقه 63 الذي أخذه على جميع بني آدم منذ عهد كونهم في قديم الدهور في الظهور ذَرّاً، بقوله سبحانه: «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا..» (الأعراف: 172)، ونفس هذا الميثاق والعهد أخذه على الأنبياء مفصلا كتابا وحكمة على مدى العصور والدهور، في قوله عز وجل: «وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لمَا آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتومنن به ولتنصُرُنَّهُ قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا: أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين» (آل عمران: 81)، وهذا الرسول هو خاتمُ الأنبياء والرسُل وخاتَمُهُم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، الذي يعرف الجميع وإن أنكر منهم مَنْ أنكَر، وجحد مَن جحد، أنه رسول خالد برسالة خالدة، لن تزال قائمة محفوظة بحفظ الله، مَرعية برعايته، مصونة بصيانته، إلى أن يرث سبحانه الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، بنبوته ورسالته انتفت الحاجة إذن إلى رسول جديد (....) وقد أثبت الزمن، وما يزال يثبت أن النبوة خُتمَتْ بمحمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم» مع الرسل والأنبياء عبدالحليم محمود رحمه الله دار المعارف ص: 395)... 3 وهذا الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام هو مجرد القصد، وهو أيضا القصد المتكرر، بالعقل والعاطفة، وبالإيمان واليقين، وبالشوق والحنين، وبالتفاني والتضحية.. من كل مؤمن موقن مسلم، إلى بيت الله الحرام مقام إبراهيم بمكة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. إلى مهبط الوحي، ومنبت الإسلام، حبا لله، فإذا بعضُ الناس يحبون المال، أو الجاه، أو السلطان أو المتاع بأي نوع من أنواعه... أو أي ندٍّ مما يتخذ محبوبا من دون الله، فالله يقول تبكيتاً للكافرين، وتنبيها للمؤمنين: «ومِن الناس مَنْ يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله...» (البقرة: 164) فبهذا الحب الشديد لله يقصد المؤمن الحر البالغ المستطيع ذلك المكان المقدس الحبيب مرة واحدة في عمره، ليعظم شعائر الله، وحرمات الله، وكل شعائر الله وحرماته عنده دائما معظمة.. في كل زمان محترمة مقدسة.. وبيت الله الحرام ببكة (أي مكة) مثابة للناس، والمكان الذي أمنهم الله به وفيه، وإن تُخُطِّفَ الناس من حولهم، تُجْبَى إليهم فيه ثمرات كل شيء رزقاً من الله الرزاق ذي القوة المتين سبحانه وتعالى.... وهو فريضة من الله على كل مسلم، مستطيع، قادر بالصحة والعافية، والزاد، وأمن الطريق، ووسيلة السفر، والحرية، والبلوغ والعقل.... ولو حُجَّ بالعبد أو الطفل صح منهما وقبل وأثيب، وبقيت عليهما حجة الإسلام إلى أن يبلغ الطفل ويتحرر العبد...وفرضية الحج دلت عليها دلائل الكتاب والسنة والإجماع.. فدليل الكتاب قوله جل علاه: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» (آل عمران:97). وهي عامة في الذكور والإناث.. والصغار والعبيد والإماء مُسْتَثْنَون.. فالصغار لا تكليف عليهم.. وعلى العبد حقوق لسيده... وذكر الإمام القرطبي رحمه الله تعالى عند تفسيره لهذه الآية: «وقد قدَّم الله سبحانه حق السيد على حقه رفقا بالعباد ومصلحة لهم (....) ولا دليل عليه الاجماع...» (المجلد 2 ص: 138). وقد شرع الإسلام المنَّ والفداء والمكاتبة وأوجب تحرير الرقاب في كثير من المخالفات الشرعية كالظهار والكفارات.. وفي القتل والحنث في اليمين.. وحض على طلب الأجر والثواب بذلك كلما كان المؤمن يبتغي بذلك رضوان الله تعالى... ودليل السنة ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في قوله: «أيها الناس قد كُتبَ عليكم الحجُّ فحجّوا» (مسلم وأحمد وقد أخرج الإمام البخاري ومسلم رحمهما الله أيضا: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان... وأما الإجماع فقد اتفق عليه المالكية والشافعية والحنبلية والحنفية والظاهرية.. ولا نعلم خلافا بين الأئمة الأعلام من هذه الأمة إلا في خلافهم في وجوبه على الفور أو التراخي.. وقد ذكر الإمام القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن المجلد الثاني ص: 137): «... قال ابن عبدالبر: ومن الدليل على أن الحج على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العامَ والعامين ونحوهما، وأنه إذا حج من بعد أعوام من حين استطاعته فقد أدى الحج الواجب عليه في وقته (...)، علمنا أن وقت الحج موسع فيه وأنه على التراخي لا على الفور (....) قال أبو عمر: كل من قال بالتراخي لا يحُدُّ في ذلك حداً إلا ما رُوي عن سُحنونٍ وقد سُئِل عن الرجل يجد ما يحج به فيؤخر ذلك إلى سنين كثيرة مع قدرته على ذلك، هل يُفَسَّقُ بتأخيره الحج وتُرَدُّ شهادته؟ قال: لا.... (نفس المصدر نفس الصفحة). وقد ذكر الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى في حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله تعالى:« ... والإجماع حكاه غير واحد». 4 أما وقد عرفنا حكم الحج على الفور والتراخي... فإن من حِكْمَته ما ذكره الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندْوي رحمه الله تعالى في كتابه الجليل القيم (الأركان الأربعة...) حين تكلم عن دور الإسلام الإصلاحي في تشريع الحج، فقال: «... وقد كان أهل الجاهلية أدخلوا في الحج عادات جاهلية، وأمورا ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان، واصطلحوا على أشياء، وتواضعوا على أشياء من الزمن القديم، فكان تحريفا في الحج الذي شرعه الله على لسان إبراهيم، والنخوة القبلية، وما كانت عليه قريش من التفاخر والكبرياء، وحِرصهم على التميز، هو الباعث الأكبر على هذه الزيادات والتحريفات، فجاء القرآن والتشريع الإسلامي بإزالة هذه البدعة والتحريفات وإبطالها (...) ومنها أن الحج قد فقد على مر الأيام شيئاً كثيراً من قدسه ونزاهته، وأصبح عيدا من أعياد الجاهلية ومكاناً للهو والخصام، فذم الله ذلك في القرآن، وقال: «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» (البقرة: 197)، (.....) وكذلك كانوا يتأثمون من التجارة في الموسم، وذلك تحريم ما أحل الله (....) ومنها أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة، ويقولون: لا نطوف في ملابس عصينا فيها، فكان ذلك باباً لفساد عظيم وتشريعاً جاهلياَ. (انظر الصفحات: 296 وما بعدها من الكتاب المذكور أنفا)....