مبدئيا،ً يحقّ لكل إنسان التعبير عما يختلج نفسه مِن مشاعر، ويعنّ بباله من أفكار، بالطريقة التي يراها مناسبة. حتى عندما يتعلق الأمر بالتضامن مع الغير.. فإنه من البديهي أن يكون لكل واحد منا أسلوبه في القيام بهكذا خطوة إنسانية. إلا أنّ للموت _قتلا بالأخص_ وقعا قاسيا على النفوس، ويفترض في التضامن مع ضحاياه، أن يكون خلوا من كل إسفاف، يمكن أن يسفِّه القضية، عوض أن يجعلها ذات وقع وتأثير. أنا هنا أطرح وجهة نظري الشخصية، والتي أمتلك، بدوري، كل الحق، في التعبير عنها بالشكل الذي يعجبني.. التضامن مع الطفل السوري الغريق "آلان" لا يمكن أن يكون عن طريق الاستلقاء على رمال الشاطئ في نفس الوضعية التي عُثر بها على جثة الطفل؛ كما فعل نشطاء مغاربة وغيرهم، ففي هذا تسخيفٌ للموت، وتضئيل لمأساة إنسانية تشرّد وتقتل ملايين السوريين منذ العام 2011. التضامُن لا يجب أن يكون مع آلان وحده، اللهم إذا كان تضامنا مبتورا، يفاضل بين الضحايا، على أساس من يمتلك منهم، الصورة الأكثر إبهارا والأكثر تأثيرا في الإعلام والرأي العام العالميين. آلان حين لفظ البحر جثته كان ميِّتا، والموتُ وجَع في نفوس الأحياء، أما أثره على الأموات، فلا يعرفه غير أولئك الذين ماتوا بالفعل، ماتوا حقيقة، حشرجت أرواحُهم وغادرت الدنيا بلا أيّة إمكانية للرجوع.. الموت ليسَ حدثا عابراً، وإن كان يتكرّر كلّ يوم، الموت ليسَ مشهداً إبداعيا، نراه فيبهرنا جماله فننكبّ كلنا على التصفيق له. آلان صارع بقوته الضئيلة أمواج البحر.. خارت قواه وهو يتهاوى إلى القعر، شعر بالبرودة تغطي جسده، وبالمياه تتدفق عبر فتحتي أنفه.. فتح فمه ليستغيث فإذا بالمزيد من المياه تتسلل إلى جوفه.. قاوم بيديه، راوده أمل –وهو في لحظاته الأخيرة_ في أن تنتشله يد ال بابا أو يد ال ماما أو أي يد أخرى من الهلاك.. حاول أن يتنفس باحثا عن ذرة أوكسيجين.. لكن الماء أحاطه مرفوقا بيد الموت ولمسة من عدم.. فجحظت عيناه وهي تلقي آخر نظرة على الحياة... أفَهل يستوي مَن استيقظ في صباح مشمس، وانتقى قميصا أحمر وبنطالا أزرق، لبسهما، وتناول فطوره على مهل، ثم خرج ليلقى أصحابه مرفوقين ببعض المصورين، ثم استلقى على بطنه فوق الرمال الدافئة، على أرض بلده الآمن، وهو ينعم ببعض الهدوء، ويكسب بعض الصور.. أفهل يستوي هذا، بمن فرّ من بلده مفزوعا، تتبعه القنابل ويحيطه ظلام المجهول، ليموت بين الأمواج شر ميتة؟! هذا النوع من التضامن الكرنفالي، لا ينفع آلان الميت، ولا الملايين من أبناء جلدته الذين قُتلوا أو الذين باتوا مشردين.. هذا النوع من التضامن لا يلفت النظر إلى أية قضية، أولا: لأنه لأنه تضامن جاء استجابة لموات فرد واحد، وثانيا: لأنّه جاء متأخراً؛ فبينما لقي العديد من أطفال سوريا (وغيرها من البلدان المكلومة) مصرعهم ذبحا وشنقا وحرقا وغرقا، لم يأت هذا التضامن المسرحي إلا مع آلان، وفقط بعد أن جابت صورته، وهو غريق، أرجاء العالم، وذاعت سيرتها بين الصغير والكبير. وأغلب الظن (وبعض الظن إثم، ولا يمكن أن ينطبق كلامي هذا على كل من شارك في التظاهرة) أنّ مَن دعوا إلى هذا النوع الفجّ مِن التضامن، سعوا إلى لفت الانتباه إليهم، أكثر مما همهم لفت الانتباه إلى الطفل الغريق.. وإلا فلم لا يتضامنون مع كل الأطفال الذين ذبحوا وقطعت أشلاءهم البراميل المتفجرة..؟ ليس من العدل التضامُن مع طفل واحد مات غرقا، كأن الذين ماتوا قبله وبعده، وغيرهم الذين لا يزالون يواجهون الموت ليسوا بشرا، ولا يستحقون التضامن، وكل ذنبهم أنّ صورهم وهُم موتى، لم تكن جميلة بما يكفي لاستدرار عطف، وشفقة المتضامنين. كما أنه ليس من الأخلاقي التضامن مع إنسان واجه قسوة الموت، بارتداء ثياب أنيقة والتمدّد على الشاطئ في تقليدٍ سافر للحظة أليمة في حياة إنسان ما.. الموت ألم عميق، حزن يشرخ الروح إلى نصفين، شيء يهز الكيان الإنساني، يعصف به.. لا يمكن لأي كان أن يتخيّل قسوة الموت.. تلك الرجّة التي يحدثها في نفس كل حي ضيّع أحبابه.. لا أحد يمكنه أن يتصوّر ذلك أو يشعر به إلا مُجرِّب عبثت يد الموت بأحبائه.. وفي الواقع، كلنا مجربوه إلا إن اختارت يد الموت أن تأخذنا نحن أولا. صحيح أن الأحداث التي عرفتها الأمة العربية والإسلامية مؤخرا أغرقتنا بصور الموت والموتى، لكن هذا ليس داعيا للاستخفاف بالموت، والتطبيع معه على هذا النوع المشين.. ليس داعيا للاستلقاء على الرمل ولعب دور طفل ميت، بصورة باردة، تجلب الضحك والسخرية أكثر مما تثير في النفس مشاعر الحزن والألم. قد يحاول العالم الآن أن يقنعنا أن أزمة السوريين، هي أزمة لجوء إلى أروربا، وأزمة أناس يغرقون وهم ويحاولون الوصول إلى الضفة الأخرى من الحلم.. لكن لا يتوجب علينا، نحن الذين عشنا أحداث المأساة السورية خطوة بخطوة، لا يتوجب علينا أن ننسى، أنّ مأساة السوريين هي أزمة وطن، وأنظمة سياسية فاسدة، وشعوب متخلفة، ومجتمع دولي لا يتحرك إلا دفاعا عن مصالحه الخاصة. آلان حملته الأمواج في براءته، في ودعته، حملته الأمواج ميتا، فلنتضامن كلنا مع آلان، فلندعمه وندعم إخوانه وكل ذوي الجروح المفتوحة فوق هذه الأرض.. لكن ليس عن طريق تسفيه وجعهم، ليس عن طريق تبسيط القضية، واختزالها في بنطال أزرق وقميص أحمر، وجسد ممدد على شاطئ البحر.. [email protected]