يندرج موضوع سؤال التنوع بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في إشكالية تحديات النظام العالمي الجديد. في هذا السياق يمكن توصيف واقع حكامة التنوع بدول المنطقة بكونه في حالة جنينية على اعتبار أن التنوع مازال في مرحلة الاعتراف الدستوري ولم يصل إلى مرحلة التفعيل المؤسساتي. فالحالة الراهنة توحي بأن المرحلة القادمة هي مرحلة التجريب وليست مرحلة للإعمال وذلك لأن مسألة التنوع ترتبط ارتباطا وثيقا بمنظومتي المواطنة والمشاركة في علاقتهما بالتراب والتاريخ والدين والثقافة واللغة وضمانهما لحقوق الإنسان. كيف يمكن إذن ملائمة قضايا ورهانات التنوع في علاقتهما بخطر التفكك وعدم الاستقرار؟ وعلى اعتبار المطالب والنزوعات الديمقراطية للجماعات ( المارونيون – الأمازيغ – الأكراد – السنة – الإيباضيين – اليهود – الشيعة – الأقباط - ...) كيف يمكن فهم التبعات المباشرة و الغير المباشرة لما بعد ربيع 2011 لمقاربة مستقبل مختلف أنواع التنوع؟ للإجابة على هذه التساؤلات وجب استحضار التمثل المرحلي لمسألة التنوع من خلال ثلاث محطات ما قبل "الربيع العربي" و إبان "الربيع العربي" و ما بعد "الربيع العربي". في المحطة الأولى كان الخطاب حول التنوع شبه مغيبا مع بعض التفاوتات (لبنان كنموذج عالمي – المغرب – الجزائر، ...) وهذا الغياب تجلى في الحياة العامة و في المتن الدستورية حيث مقولة الإقصاء والتهميش تحت ضغط وفرض المناخ التوحيدي. كما أن عدم القبول بالتنوع مرده أن هذا الأخير يمثل منظومة ديمقراطية خطرها يتجسد في أنها تمس مباشرة المسلمات و المقدسات السلطوية. فمنطق تدبير التنوع بالمنطقة لم يخرج عن منطق الأحادية الرسمية مع تعددية وظيفية. أما إبان "الربيع العربي" فبزغت خطابات وشعارات تنادي بالتنوع والاعتراف بالخصوصيات اللغوية والثقافية و العرقية و الدينية مما أدى إلى دحض منطق التوحد والانسجام الوطني كما أن صور "الربيع العربي" التي وفرتها التعددية الإعلامية مكنت الأفراد من إعادة التفكير في التنوع عبر منظومة المواطنة والانتماء الهوياتي وبالموازاة شكل التقارب الافتراضي أداة ووسيلة لإعادة استكشاف جميع ضروب التنوع بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتباعا مكنت طبيعة المشاركة في النقاش العام حول الإحباطات و المطالب والتموقعات من المغرب إلى الأردن مرورا بلبنانوالعراق و سوريا و ليبيا و تونس و مصر و الجزائر واليمن من خلق حركية تضمنت في طياتها مؤشرات لإعادة إحياء مسألة التنوع. فيما يمت إلى المحطة الثالثة أي محطة ما بعد "الربيع العربي" فقد أضحت مقولة التنوع من مرتكزات الانتقال الديمقراطي و أساس المتن الدستورية في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويمكن رصد التمظهرات الجديدة لهذه المقولة بالمنطقة من خلال ثلاث آليات وهي آلية الاعتراف (الاعتراف باللغتين الأمازيغية والكردية كلغتين رسميتين بالمغرب والعراق) وآلية الحوار الوطني (حالة اليمن) وآلية المطالبة ( بعض المكونات الثقافية واللغوية مثل النوبية والأمازيغية والقبطية والبولار لا تزال في مرحلة المطالبة الحقوقية في دول ليبيا – تونس- موريتانيا- مصر- مالي ...) كما تجدر الإشارة إلى أن مصير الصيرورات السياسية يرتبط بصيغ الضمانات الدستورية و بناء النظم الانتخابية وكذلك بمختلف التدابير لحماية الخصوصيات والأقليات. وفي هذا النطاق تتعدد النماذج وتختلف ويمكن أن نذكر من بينها النموذج الإدماجي البعيد المدى والذي يتوخى التوافق (المغرب – تونس- العراق ...) والنموذج الإقصائي وفيه يتم إقصاء فئات عريضة من المجتمع (مصر نموذجا) والنموذج المبني على بقاء النظام القائم (حالة سوريا). فالاختلافات ونتائجها التي يمكن رصدها بين النماذج الثلاثة تحيل على استنتاج وحيد هو أن الإدماج و التعددية و التنوع تشكل العناصر الأساسية لمسار الاستقرار.لهذه الأسباب يبدو من الآني التفكير في تنوع متفاوض عليه أساسه تلاقي تتداخل فيه التعددية بجميع أنواعها. فمباشرة بعد ربيع 2011 ظهر جليا أن دعم التعددية والديمقراطية هو مفتاح الانتقال الديمقراطي الناجح ولا يمكن تحقيقه إلا عبر سياسة إدماجية مبنية على الحوار والتوافقات. يبدو أن من مكاسب هذه السياسة فتح النقاش حول التداول في خصوصيات المنطقة و إعادة استكشاف مواضع الهوية المشتركة ومسائلة مصفوفة التنوع عبر مداخل عدة منها تاريخ الشعوب، الحركية الجيوسياسية و واقع ما بعد "الربيع العربي" و الصراعات المحتملة وأوجه التعاون الاقتصادي. كما ستمكن كذلك من تثبيت حكامة التعددية في مسار تقليص الانكسارات والقطيعات التي تميز المنطقة وترصيدها في إطار تنمية إقليمية وبناء لفضاء ديمقراطي للسلم و الأمن والرفاهية المشتركة. ومن نتائجها أيضا صقل هويات جماعية مشتركة ( مثال فكرة المغرب الكبير أو الاتحاد المغاربي عوض المغرب العربي ) مبنية على التقاطعات الدينية و اللغوية و السياسية و الثقافية وربط المسارات الدستورية لبلدان المنطقة في علاقتها بضمانات احترام التعددية السياسية وتكريس القيم الكونية لحقوق الإنسان واستقرار المسلسلات الانتقالية على ضوء تسوية سياسية تقوم على عقد اجتماعي جديد. كما ستفضي هذه السياسة الإدماجية إلى خلق تقاطب قيمي داخل المجتمع لا سيما مع استحضار الدور الجديد للمجتمع المدني كوسيط بين الدولة والمواطنين فيما يخص إشكالية تدبير التعدد و التنوع . وفي المقابل وجب التذكير بمخاطر وانزلاقات وهوامش هذه السياسة المنفتحة على جميع أنواع التنوع بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن المخاطر المباشرة التي تحدق بدول المنطقة يمكن سرد عدة تبعات وانعكاسات منها البلقنة (الحالة الليبية) وانعدام الاستقرار (سوريا) والصراعات القبلية والطائفيىة (العراق – اليمن) وخطر الاثنية المحورية ((ethnocentrisme (شمال افريقيا) والإكسنوفبيا والعنف الدموي بين المجموعات البشرية (العرب –الأمازيغ ، السنة – الشيعة ، السنة – الأقباط، المسلمون – المسيحيون، الحداثيين – المحافظين، العلماتيون- الإسلاميون ...) وبروز الكيانات الترابية عوض الكيانات الوطنية (الأكراد ...) لتفادي هذه المخاطر يبدو من الضروري ضبط وتحديد منطلقات الحكامة الجيدة لمقاربة سؤال التنوع بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عبر إعمال مبدأ الدستورية و الوظيفية والفاعلية فيما يتعلق بالتنوع المجتمعي و ملائمة الحقوق اللغوية والثقافية والدينية و المدنية والاقتصادية والاجتماعية و تفعيلها داخل المرافق العمومية والارتكاز على منطق الحياد الرمزي للدولة المركزية في الحفاظ والرفع من الخصوصيات واعتماد سياسة تجد تجلياتها في المحلي حيث تصبح الخصوصية المحلية هي أساس السياسة الوطنية و أجرأة حكامة التنوع من خلال مبدأي الشخصانية و مبدأ الترابية. لهذه العوامل تتمثل رهانات التنوع في تلبية الحاجيات الرمزية للجماعة والمجموعات و الأفراد والتحول من منطق التوحد إلى منطق التمازج والانتقال من نموذج الدولة المركزية إلى نموذج الدولة التي تتقاسم الممتلكات والخيرات الرمزية مع الجهات والأفراد. من هذا المنطلق تشكل إعادة صياغة المناهج التعليمية والتربوية لتتوافق مع واقع هذا التنوع والتعدد، وبالتالي تربية وتنشئة المواطنين على تفاعل الوطني والمحلي مدخلا لإدارة التنوع في علاقته بالحداثة والديمقراطية والكونية واعتماده مرتكزا أساسيا للتنمية الديمقراطية. ويبقى الرهان الأخير هو الأخد بعين الاعتبار تأثير هذا النمط من الحكامة على العلاقات الجيوسياسية مع بلدان الجوار لاسيما تلك التي تتواجد بها نفس المجموعات البشرية بتنوع وتعدد مماثل مثل الجزائر- مالي- تونس- ليبيا – تشاد- موريتانيا- مصر- ... يظهر في خضم الأوضاع الراهنة أن سؤال التنوع انتقل من تصور تسطيحي إلى إستراتيجية تفاوضية للتعددية والتنوع بالرغم من تداخل عدة عوامل في مسألة التنوع في بلدان المنطقة منها ما يرتبط بالداخل ومنها ما يمت إلى الخارج (القوى العظمى). مما أدى إلى تقويض معايير وآليات مأسسة التنوع من أجل انتقال تفاوضي نحو التعددية الديمقراطية واستتباب الأمن وتعزيز حقوق الإنسان. لذا يتوجب إعادة طرح سؤال التنوع بشكل ديمقراطي وليس في صيغة تسطيحية للاعتراف عبر التوفيق بين إكراه مبدأ التعددية و ضرورة الوحدة الوطنية في ظل نسق سياسي مستقر و قدرة الأنظمة الجديدة على التكيف مع واقع التعددية و إدارة الاختلاف. لكن في غياب معطيات ميدانية دقيقة، لن يتمكن لا الباحث ولا الفاعل السياسي والمدني من معرفة معمقة للتوجهات العميقة داخل مجتمعات دول المنطقة لا سيما أن قيما مثل قيم الوطنية و التضامن والمساواة و الحرية لا تبين بشكل واضح التوازن بين المرجعيات التقليدية و الحداثية في علاقتها بسؤال التنوع. يبدو في هذا السياق أنه باستثناء النموذجين المغربي والتونسي لازالت باقي المسارات الانتقالية تتلمس الطريق وهذا ما يحيل على مدى نضج النخب السياسية خصوصا إذا تم اعتبار ما حدث في مصر والأردن واليمن تراجعا على مستوى الحقوق والحريات . وانطلاقا من هذه الأوضاع يتوخى على الفرقاء السياسيين أن يعوا أن مصدر الشرعية ليست هي الانتخابات أو الهيمنة الميدانية المسلحة لأن توظيف هذه الأنواع من الشرعية بشكل غير متوازن لا يأخذ بعين الاعتبار تعددية المرجعيات والمطالب غالبا ما يؤدي إلى ممارسات إقصائية وإلى صراعات مسلحة دموية لا تستوعب كل الحساسيات الرمزية (اللغوية والثقافية والدينية والطائفية والعرقية ...) الموجودة في المجتمع. مما لا يساعد على رد الاعتبار للتعددية التي سيلاحظ آثارها في غياب التمثيلية البرلمانية وعدم إقرار إطار متعدد يضمن مواطنة متساوية ولا يعترف بالمشاركة السياسية للأقليات. فبعد ما عرفته منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من تطورات سياسية واجتماعية يتوجب إعادة النظر في تموقعاتها الراهنة بموازاة النظام العالمي الجديد فيما يتعلق بإشكالية التنوع كمنظومة قيمية ورمزية تحيل على ما يسمى بالقوى الناعمة. لهذا فالتسميات من قبيل "ربيع 2011" و ''الربيع الديمقراطي'' أو ''ربيع الحرية '' أو ''ربيع الشعوب'' تبدو ملائمة لأنها تمكن من تضمين ما أطلق عليه ب"الربيع العربي" عنصر تنوع الفاعلين : أمازيغ و أكراد و أقباط و عرب ... و تحيل على مكونات مختلفة شاركت في الربيع بنفس الحماس والتلقائية دون هيمنة مجموعة على مجموعة أو بصيغة أخرى دون التمييز بين فاعل مؤثر ومهيمن و فاعل ثانوي ومهيمن عليه. وتبقى عدة تساؤلات مطروحة منها: هل تفعيل الاعتراف بمختلف أشكال التنوع ( الديني – اللغوي- الثقافي – البشري - ...) يمكن أن يؤثر في طبيعة محورية القيم الجماعية و يفضي إلى توافقات من نتائجه ا دمقرطة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ؟ إلى أي حد يمكن اعتبار موجة العولمة التي تغزو المنطقة في جميع الميادين سببا مباشرا في بروز أشكال جديدة من الهويات و إعادة إحياء التعبئة الإثنية و التيارات الدينية و الجهويات العشائرية وتراجع الشعور بالمواطنة والانتماء للدولة الوطنية ؟