ترتكز قراءتي لمِؤلف الأستاذ أحمد بوكوس المعنون بEssais de politique et d'aménagement linguistiques على عناصر منها ما يمت إلى منطق الكتابة والتداعيات المنهجية والنظرية، ومنها ما يرتبط برهانات السياسة اللغوية، وإرهاصات التهيئة اللغوية، ومنها ما يخوض في جدلية التخطيط وتحديات السوق اللغوية المغربية، ومنها ما يسائل تمفصلات السياسة اللغوية والمنظومة الحقوقية، ومنها كذلك كعنصر أخير الاستشرافات من خلال تساؤلات مستقبلية. يقع الكتاب في 352 ورقة، ويتضمن 21 فصلا توزعت على محاور رئيسية، أولها يرمي إلى توصيف المنهجية المتبعة لمقاربة إشكالات السياسة والتهيئة اللغوية (3 فصول) والثاني يتناول إشكالات السياسة اللغوية في علاقتها بوضعية اللغات بالمغرب (3 فصول)، والثالث مكانة الأمازيغية في السياسة اللغوية (4 فصول)، والرابع السياسة اللغوية ورهانات السوق اللغوية (4 فصول)، والخامس واقع الفرنكوفونية والتهيئة اللغوية (4 فصول)، والسادس السياسة اللغوية وتحدي التعاقد الاجتماعي وحقوق الإنسان (3 فصول). منطق الكتابة يجادل الكتاب في معظمه مسألة تمفصلات الترسيم والمأسسة في ما يتعلق باللغة الأمازيغية، لهذا انبرى الكاتب إلى ربط إشكالات السياسة اللغوية وآليات التهيئة من خلال مقاربة طبيعة الفعل السياسي في علاقته بالتفعيل والأجرأة، من خلال مساءلة إستراتيجيات الدسترة والمأسسة. كما يعرض الكتاب تجربة الكاتب في حقل السياسة والتهيئة اللغوية لمشاركتها مع القارئ من خلال إعادة تقديم وتحيين عدة مقالات وأعمال نشرت في السابق في مجلات وطنية وأخرى دولية. ويبدو أن إعادة قراءة الأعمال التي امتدت من 1977 إلى 2017 هي محاولة من الكاتب كذلك لإعادة وتوظيب الرؤيا المناسبة لتناول إشكال التهيئة، ليصبح في الراهن ومع تسارع الأحداث انتقالا حتميا إلى التفعيل والملاءمة، لاسيما في ما يمت للأمازيغية. لهذا ارتأى الكاتب الغوص في الصيرورة التاريخية للسياسة اللغوية بالمغرب على امتداد 50 سنة من 1960 إلى 2011. وتظل المقاربة المنهجية للكتاب من أقوى مميزاته، على اعتبار أن مسألة السياسة اللغوية يتداخل فيها السياسي بالإيديولوجي بالهوياتي بالثقافي... فالمقاربة التي اعتمدها الكاتب هي مقاربة أكاديمية أسس لها أحمد بوكوس من خلال ثلاثية بورديو: "الهابيتوس" "الحقل" و"الرأس المال"، لكي يرفع تحدي التماس بين الذاتية والموضوعية أو ما يرمز إليه باشلار ب"النية الموضوعية والأخلاقية" « L'intentionnalité objective et éthique » التداعيات المنهجية والنظرية شرع الكاتب في تناوله للسياسة اللغوية على اعتبار أن الواقع اللغوي المغربي أصبح ساحة تجاذب ونزوعات ثلاثية الأقطاب: القطب العربي بجميع تلويناته، والقطب الأمازيغي بجميع أطيافه، والقطب الفرانكوفوني بتمثلاته المهيمنة، والقطب الأنكلوفوني ببعده العولمي، مع تراجع القطب الإسبانوفوني. وللإلمام بهذا الواقع اللغوي دأب الكاتب على تناول وتحليل عدة تجارب دولية في إطار ما يطلق عليه "البنشمارك"، أو التجارب الناجحة، لاسيما منها الهندية والسويسرية والإسبانية، واللائحة تطول؛ ما مكنه من إبداع بعض التنميطات الجديدة التي تمكن من تمييز الجهات اللغوية من المجالات اللغوية، لاسيما أن دستور 2011 اعتمد مصفوفة لغوية ترتكز على أربعة مستويات: مستوى رسمي (الأمازيغية والعربية) ومستوى وطني (الأمازيغية المغربية والعربية المغربية) ومستوى ترابي محلي (تاشلحيت والعروبية والريفية والجبلية وتامازيغت والحسانية والمدينية) ومستوى دولي (اللغات الأجنبية). من هذه الزاوية جاءت تساؤلات الكاتب حاملة لرهانات التعدد اللغوي وتحديات التنوع الثقافي في شقها المستعصي، ألا وهو الشق الهوياتي الذي من انزلاقاته المباشرة خلق مناخ من التوتر والانكماش الهوياتي في أفق تضخم الخطابات حول العربوفيليا والأمازيغوفيليا والفرنكوفيليا. وفي نظري المتواضع تبقى جدة الكتاب ومغامرة الكاتب في قدرته على المزاوجة بين جانبين متنافرين، جانب مادي تفعيلي يهم السياسة والتهيئة اللغوية، وجانب رمزي يسائل السياسة الهوياتية للدولة؛ لأن الجانبين في تنافرهما يحيلان على وضعية سياسية لغوية ((Glottopolitique تتداخل فيها الصفات الاعتبارية للغات والخطاب السياسي والأيديولوجي حول اللغات وتدابير تهيئة اللغات. فكان لا بد للكاتب أن يطرح السؤال المنهجي المركب، ألا وهو: ما علاقة النظرية السوسيولوجية بالسياسة والتهيئة اللغوية؟ واقترح من بين البدائل الممكنة اعتماد مفهوم السوق اللغوية، وهو مفهوم شامل ينطوي على بعد سياسي يسائل موقع اللغات بما فيها اللغات الأم في السياسة الاجتماعية للدولة. فالهم المنهجي والأكاديمي للكاتب حاضر مع منسوب عال في ما يخص أخلاقيات ومعايير البحث العلمي، لاسيما في ما يتعلق بتحديد المتغيرات (المستقلة منها وغير المستقلة)، والعينة وأدوات البحث والعراقيل، إذ إن الكاتب لا يصل إلى نتائجه إلا من خلال تصريف الوقائع اللغوية إلى معطيات لسانية وهو يحرص على اتباع الشرط الماوي (ماو سي تونغ) الذي يقول "من لم يخبر الميدان ليس الحق في الكلام" (qui n'a pas fait d'enquête n'a pas droit à la parole ). كما دأب الكاتب على إحاطة جميع نتائجه بالتذكير بهوامش الخطأ والنسبية لإضفاء المصداقية العلمية على إشكالات التعدد والتنوع. رهانات السياسة اللغوية الأطروحة العامة تعتمد على جدلية الوعي الطبقي والإثني بالقضايا المرتبطة بمنطق التوافق والتعايش بين المجموعات المسيطرة والمهيمنة والمجموعات الأخرى؛ لهذا عمد الكاتب إلى مناقشة رهانات السياسة اللغوية بالمغرب انطلاقا من كون السياسة اللغوية هي أساسا مجموع الاختيارات الإرادية لتدبير تمفصلات اللغات بالبنية المجتمعية، في أفق تشجيع وتطور بعض اللغات وحماية تراجع أخرى. وفي ما يتعلق بالحالة المغربية يرى الكاتب أن السياسة اللغوية تأثرت كثيرا ببقايا ونزوعات المرحلة الاستعمارية من جهة، ومقاومة وتوغل الرمزية الإيديولوجية الوطنية من جهة أخرى. إلا أن هذه الأخيرة تظل الأكثر أهمية بالنظر إلى أن منظومة الإيديولوجيا اللغوية أضحت أكثر وقعا على واقع التوجهات العامة للسياسة اللغوية على اعتبار أن الإيديولوجيا اللغوية في الحالة المغربية اعتمدت خطاب شرعنة التعريب، ليس فقط من باب لغة المشترك العربي والإسلامي، ولكن كذلك من باب أنها لغة الحداثة في مقابل أن الأمازيغية لغة بدائية. لهذا أضحت السياسة اللغوية متموجة وغير قارة، لاسيما مع تدابير شرعنة ومأسسة اللغة العربية وتمادي وتجذر مقاومة اللغة الفرنسية، ما خلق حربا لغوية قديمة متجددة بين هاتين اللغتين، كان من آثارها الجانبية والمباشرة شكل جديد لتهميش اللغة الأمازيغية – اللغة الرسمية الثانية – باعتبارها لغة للتواصل الشفوي في مشاريع الهيئات المختصة بتدبير حقل التربية والتعليم. لهذه الأسباب يطرح الكاتب فكرة جديدة مفادها أن حكامة السياسة اللغوية وجب ربطها بالمحددات الإيكولوجية التي تنبني على عدة عناصر، منها السياسي والاقتصادي والديمغرافي والجيولساني والديني والتعليمي والإعلامي والاجتماعي (التمثلات)، وليس فقط ما هو وظيفي محض. ولأن السياسة اللغوية ترتهن كذلك بواقع لغات الأقليات (ليس الأقليات العددية ولكن أقليات الحقوق ) فمن أدوارها الأساسية تطوير وتشجيع وتعزيز هذه اللغات وحمايتها من الاندثار. إرهاصات التهيئة اللغوية ومن حتميات الحفاظ على المتن اللغوي البت في آليات التقعيد (تقعيد الكتابة والمصطلح)، أي الانتقال من الشفهي (الشخصي) إلى الكتابي (الجمعي). من هذه الزاوية تبدو مشاريع الهيئات المختصة خارج الزمن الدستوري، وتذهب بعكس المأسسة إلى التلهيج (مقارنة مع تجربة معهد التعريب الذي عمل على تقويم الكتابة والمصطلح وليس على جعل العربية لغة تواصل شفوي). ويقترح الكاتب في هذا الباب عدة قنوات مباشرة كفيلة بتهيئة الأمازيغية منها لا للحصر: - تدبير المتن اللغوي - تعميق البحث العلمي - زيادة الإنتاج الثقافي - دينامية الحركة الجمعوية - تفعيل الصفة الاعتباريىة للأمازيغية فما يلاحظ في الساحة الرسمية المغربية، عوض الانكباب على تفعيل روح دستور 2011 الذي يقر بالثنائية الرسمية، أصبح السائد هو ارتداد فاضح، إذ أصبحت اللغة الفرنسية هي قناة التواصل في أغلب المحافل الرسمية (نعيش فعلا حالة سكيزوكلوسيا، أي حالة انفصام لغوي). في هذا السياق الموسوم بالترددات، يرى الكاتب أن الدفع بالأمازيغية كلغة رسمية للبلاد يقتضي أن تتمكن التهيئة اللغوية من رفع ثلاثة تحديات: التحدي الدستوري والتحدي المؤسساتي والتحدي التفعيلي. لكن في الحالة الراهنة لازالت الأمازيغية كعنصر من عناصر الشأن العمومي للمواطن المغربي في حالة جنينية، لاسيما أنها لم تبرح مرحلة الاعتراف الدستوري، وما فتئ التعثر يشوب مسار التحدي المؤسساتي والتفعيلي. ومع هذا وجبت الإشادة بالأعمال العلمية والإنتاج التقعيدي والتقنيني للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، لاسيما في ما يخص تدبير المتن اللغوي. وتبقى الإرادة السياسية كفيلة بتفعيل هذا المجهود العلمي، وخاصة في ما يخص المتن. ("آش غدي نخصرو الى انتقلتا إلى هوية مرئية مجالية تقر بالثنائية الدستورية": الطريق السيار خريبكةبني ملال ...). كل هذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال توفر إرادة ورؤية سياسية تقاوم الممانعات اللغوية والنقاء الهوياتي. أما من زاوية التدبير الفعلي لإدماج الأمازيغية في الحياة العامة، يؤكد الكاتب على ضرورة ضبط آليات التوحيد والانسجامية (المعيرة والتقعيد والتقنين) لتلبية الحاجيات اللغوية للأفراد والمجموعات، وإنشاء قاعدة معطيات ومعالجتها لسانيا وتجربتها لكي يمكن تثبيتها على أرض الواقع. في جدلية التخطيط في هذا الخضم اختار الكاتب محاورة التجارب الدولية في حقل التهيئة اللغوية، فتطرق لحالة العبرية والفرنسية والعربية. فالعبرية تمثل حالة إحياء للغة ميتة لتصير لغة معيارية. وحالة الفرنسية تشكل نموذج لغة التنافسية لاسيما في منافستها للإنجليزية من خلال اعتماد تدابير التخطيط المصطلحي والإصلاح المعجمي. وحالة العربية التي تحيل على إشكال التحديث اللغوي. يبدو إذن أن الأمازيغية تستدعي خطة عمل تدبيرية ترتكز على ثلاثة مستويات: المستوى الأول يرتبط بمعيرة الأمازيغية، والثاني بتقنين المصطلح، والثالث بتحديث اللغة لتصبح لغة علم وصناعة و... ولأن التحدي كبير يمكن أن نقر بأنه منذ خطاب أجدير تم رفع التحدي الأهم، ألا وهو التحدي الهوياتي، إذ أضحت اللغة الأمازيغية لغة هوياتية، إذ أصبح المغرب نموذجا يحتدى به في منطقة شمال إفريقيا، وصار له تأثير في مراجعة وصياغات دساتير دول المنطقة (الجزائر وليبيا). وفي مناقشته لفعل التدبير اللساني اختار الكاتب ضبط آليات المعيرة من خلال مقاربة مجالية (المغرب – الجزائر – تونس ...) تبتعد عن التمثلات الرمزية والإيديولوجية لبلاد تمازغا، وأيضا لا تحصر الأمازيغية في إعادة تلهيجها الترابي والغوص بها في صيرورة التنافر (Héterogénéisation). لذا يسوق الكاتب عدة تجارب ناجحة، منها تجربة "أموال" وتجربة "الايركام". في هذا الصدد مكنت تجارب معيرة المتن بواسطة التجديد المصطلحي الذي قام به "الإركام"، أو ترجمة بعض المواثيق مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من طرف بعض منظمات المجتمع المدني، من إنعاش الأمازيغية. إضافة إلى ذلك دأب "الإركام" على نشر وإنجاز عدة أعمال في هذا المضمار، لاسيما في ما يخص المعجم العام للغة (2006 و2018) ومعجم الجيولوجيا (2006) ومعجم مصور (2008) ومعجم عربي-أمازيغي (2009) والمعجم النحوي (2009) ومعجم الإعلام (2009) والمعجم المدرسي أمازيغي عربي فرنسي (2011). رهانات السوق اللغوية المغربية تباعا يقترح الكاتب في حالة الأمازيغية والعربية في المغرب والمغرب الكبير إعمال خطة إستراتيجية قوامها التجديد المصطلحي والمعجمي لإنعاش اللغات، في أفق سياسة لغوية محددة الغايات والأهداف بخطط عمل تركز على التفعيل المبني وعلى تعبئة الموارد البشرية والمالية واللوجيستية لتطبيق السياسة اللغوية المعتمدة. هذا المقترح ينبع من كون التنافسية اللغوية في علاقتها بالسياسة اللغوية الرسمية تشكل الحجر الأساس لمستقبل اللغات. ولأن التنافسية كذلك تحدد تمظهرات السوق اللغوية انطلاقا من الخصائص الوظيفية فإن اللغات الهوياتية واللغات الأم التي ترتكز على خصائص رمزية (التاريخ – الدين – الثقافة ) توجد في خطر يبدأ من التهميش التدريجي إلى الاندثار الكلي. وفي علاقة السياسة اللغوية بالتمثلات تظل الأمازيغية في وضعية لغة مهيمن عليها، تنحصر في تداولات نفس المجموعة اللغوية، لاسيما في المدارات القروية. فالتمثلات حول اللغات ترتبط ارتباطا وثيقا بعناصر الشرعية والاعتراف والوظيفية المعلنة في السياسة اللغوية. أما في ما يمت إلى تمفصلات السياسة اللغوية بالفرنكوفونية، اعتبر الكاتب أن العلائق تنبني على واقع متحرك (Réalité mouvante) يتغذى من التنافسية اللغوية (العربية والإنجليزية) والإستراتيجيات الموظفة من طرف مستعمليها، التي تصب جميعها في شرعنة لغة بعينها من خلال الركوب على عدة خصائص، منها ما هو ديني أو مؤسساتي أو تراثي أو تاريخي أو إستراتيجي أو اقتصادي أو عالمي أو عولمي... ومع هذا، وحسب الكاتب تظل اللغة الفرنسية بالمغرب في ظل هذه التنافسية ثلاثية الأقطاب لغة الهيمنة الرمزية والاقتصادية. وهذا مرده تنامي الاعتقاد بتماهي الفرنكوفونية مع مشروع الهيمنة السياسية والثقافية الفرنسية، ما يخلق ارتباكا في المواقف؛ فهناك من يعتبر الفرنسية عنصر إثراء وغنى، وهناك من يعتبرها استيلابا وتبخيسا؛ وهذا ما سيوجه المواقف إما في اتجاه الانكماش والاختزالية الهوياتية أو الاندماج والذوبان في مجموعات كبرى (الفرنكوفونية – الأنكلوفونية...)، ما يعكس منطق التحرر في مقابل منطق التبعية. أما على المستوى الأحادي فيستنتج الكاتب أن الأمازيغية تأثرت بموجة التعمير التي عرفها المغرب، والتي أفضت إلى أقطاب حضرية كان لها الدور الأساسي في تراجع الأمازيغية من خلال تعمير لغوي لصالح العربية ولهجاتها، ما خلق هويات لغوية جديدة على اساس ترابي حضري (رباطي – مكناسي – وزاني- مراكشي ...). وجبت الإشارة إلى أن هذا التعمير اللغوي لم يكن كله ضد تواجد الأمازيغية، بل إذا أخذنا حالة مدينة الدارالبيضاء فالعكس هو الذي حصل، وأن الدارالبيضاء حسب عدد المتكلمين بالأمازيغية يمكن اعتبارها من أكبر المدن الناطقة بالأمازيغية، إن لم تكن أولاها على المستوى الوطني (4 ملايين نسمة، على أن نفترض أن النصف أمازيغي النطق في مقابل 1 مليون بأكادير) السياسة اللغوية والمنظومة الحقوقية ولأن الإشكال اللغوي يرتبط بالحقوق، سواء كان المتكلم يقطن الحواضر أو القرى، فقد تطرق الكاتب لعلاقة السياسة اللغوية بحقوق الإنسان من زاوية حكامة التنوع التي تستدعي مبدأين اثنين: مبدأ الشخصانية ومبدأ الترابية. وفي كلتا الحالتين يبقى تفعيل المأسسة اللغوية أهم ضمانة للوحدة الوطنية أمام مخاطر التفكك والانفصال والاستقلال وتلاشي الشعور بالانتماء المشترك وتوترات الرابط الاجتماعي والتماسك الاجتماعي. من هذه الزاوية، وبالنظر للوقائع الثقافية والحقوق السوسيولسانية وإحياء التاريخ والذاكرة الجماعية، اضطلعت الحركة الأمازيغية بنهج إستراتيجية التمييز الرمزي في أفق تكسير هيمنة الإيديولوجية العربية الإسلامية وإحياء الشعور الأصلي بالارتكاز على الحقوق اللغوية والثقافية. من هذا المنظور أضحى تدخل الحركة الأمازيغية في دينامية السياسة اللغوية ضرورة ملحة للرقي بالتمكين السياسي للأمازيغية وإبداع الترافع اللغوي. لهذا بالنسبة للكاتب يتوجب دعم الأمازيغية بالارتكاز على إرادة سياسية للدولة ومؤسساتها، وبتملكها من طرف المجتمع، ولا يمكن تحقيق هذا إلا باختبار السلطة التشريعية والتنفيذية في عزمها على تفعيل الفصل 5 من الدستور، وتمكين اللغة الأمازيغية من الرسمية. فسؤال ترسيم الأمازيغية يرتبط أساسا بثلاث آليات متسلسلة؛ أولها التملك، ثانيها الترصيد، وآخرها التمكين. ذلك لأن زمن الدولة مشروط بالاستمرارية وليس زمنا متقطعا أو عابرا. كما أن المسألة اللغوية تقحم ليس فقط الدولة والطبقة السياسية، بل تهم المجتمع برمته؛ لهذا فالتفاوض حول الراهن اللغوي في شقه الأمازيغي هو تفاوض من أجل ضبط تفاعلات وترددات الوحدة والتنوع والديمقراطية. من هذا المنطلق يمكن أن يشكل مبدأ الحياد اللغوي للدولة آلية نوعية لتدبير التعدد اللغوي في أفق تفكيك وتذويب المقاومات. وتظل العلاقة الوطيدة بين الدسترة والمأسسة السبيل الأنجع للرفع من الحقوق اللغوية والثقافية، باعتبارها عنصرا لا يتجزأ من عناصر حقوق الإنسان الكونية وركيزة من ركائز المواطنة. كما يتضح من خلال ثنائية الكوني والمحلي أن المسألة الأمازيغية قد تستفيد من ريادة مواطنة لا تنحو منحى الانكماش والخصوصية، بل ترنو إلى جعل اللغة الأمازيغية عنصرا مهيكلا للتماسك الاجتماعي والعيش المشترك بالمغرب. تساؤلات مستقبلية وانطلاقا من المكانة المركزية للغة الأمازيغية في الدينامية المجتمعية يطرح الكاتب في آخر كتابه عدة تساؤلات منها: كيف يمكن مقاربة الحكامة الترابية من خلال واقع الثنائية الرسمية بموازاة مبدأي الشخصانية والترابية؟. ما هي المنهجية التي ستعتمد لتحديد الأمازيغية الرسمية؟ هل سيتم الارتهان إلى أمازيغية معيارية حاضنة لجميع التنويعات الأمازيغية المجالية أم إلى نموذج أمازيغية ترابية تنقسم إلى عدة تنويعات مقننة ومستقلة ومحددة مجاليا؟. هل مشروع مغرب اللغات والثقافات يندرج في الرؤية الديمقراطية والمستدامة التي تؤسس للنموذج المغربي في تدبير التنوع الثقافي والتعدد اللغوي أم يدخل في إطار التكتيكات السياسية العابرة للتفاوض حول موازين القوى؟.