-1- منذ إنشاء "التلفزة المغربية" في بداية الستينيات، ظلت وظيفتها الأساسية هي نقل الصورة المرغوبة.كانت أداة دعائية في يد العهد السابق يسوق بها صورته،وبالتالي كنا أمام تلفزيون يمارس الدعاية السياسية المفضوحة القريبة من إعلام الأنظمة الاستبدادية والشمولية في أوروبا الشرقية والعالم العربي سابقا.كما شكل أداة لنقل الصور المرضي عليها أو المرغوب في تمريرها بين الفينة و الأخرى سواء للشعب أو لبعض فئاته أو للنخب السياسية و الثقافية والاقتصادية والإدارية.كانت صورة المغاربة الفرحين الضاحكين المهللين المبتهجين الخارجين "عن بكرة أبيهم"..بمثابة كاريكاتورات اخفت حقيقة الوضع النفسي و الاجتماعي والاقتصادي لأغلبية المغاربة في المغرب العميق بالبوادي و الجبال أو الضواحي وفي أزقة المدن العتيقة. لم يكن صوت/صورة المغربي "يمر" (الأم أو الطفل أو الشيخ أو الفلاح أو الصانع التقليدي أو العامل أو الموظف أو التاجر،الخ) إلا ليبارك ويشكر ويحمد الله ويعبر عن أواصر و روابط تشبته بالمقدسات أو يندد بما يتعرض له الشعب الفلسطيني الشقيق و يستنكر العدوان الإسرائيلي الغاشم و قس على هذا المنوال. 2- لخصت عبارة "العام زين" النموذج المعرفي السائد والخط التحريري القائم في نشرات أخبار دار البريهي.لم يعد يخفى على احد سطوة هواتف الداخلية والأمن و "المراقبة المستمرة" للقصر في الشاذة والفادة أحيانا. فالنشرات الإخبارية للثامنة والنصف والحادية عشرة و الربع كانت ( و مازالت؟) موجودة لخدمة تغطية الأنشطة الرسمية.كان الخبر في التلفزة المغربية/ "الأولى" حاليا- وما زال لحد الآن وإن بدرجة أو حدة اقل-هو ما قامت به المؤسسات الدستورية، و في مقدمتها المؤسسة الملكية.كان الخبر وما زال هو ما يتوافق أصحاب الحل و العقد و ذوو النفوذ على الجهاز التلفزيوني على انه خبر.كان الحدث هو ما يعتبرونه حدثا و كتب له أن يحظى برعايتهم و موافقتهم، بل وإصدار أوامرهم "لتمريره"بكل "التوابل البلاغية" إياها.أما إذا لم ينظروا بعين الرضى( أو الرحمة)،فقد تغطيه كل قنوات الدنيا،لكن لا يجد له مستقرا أو مقاما في "كونديكتور"النشرة المسائية. وهذا ما انعكس مباشرة على صورة/صور المغربي و المغاربة التي كانت مؤطرة و مشيدة حتى تؤدي دورها على الوجه المرغوب.لم يكن بالإمكان "تغطية" المآسي المغربية و لا نقل صور المغربي الفقير أو المعطل أو المريض أو السجين أو المنكوب أو المظلوم..و إذا كتب الله أن يحدث ذلك، فلغاية في نفس يعقوب، حيث يظهر المغربي و هو يحمد و يشكر و يعبر عن فرحه و امتنانه؛أي نكون أمام صورة كاريكاتورية للمغربي الحزين بمظهر الفرح و السعيد رغما عن خاطره. 3- يمكن تلخيص صورة المغربي في تلفزيون العهد السابق، ولا سيما القناة الأولى في: *المغربي المتصالح مع العالم و مع واقعه و الراضي على حياته والمومن بقضاء الله و قدره؛ *المغربي المحافظ على تقاليد بلاده المتشبث بأصالته، والحريص على الاحتفال بالمناسبات الدينية و الوطنية، و الذي يدفع الغالي والنفيس حتى تمر في أحسن الظروف و بكل اللوازم الضرورية على مستوى الطبخ و اللباس و الزيارات و"الترويح" عن الأطفال.. *المغربي الذي يرفع راية بلاده خفاقة في الأعالي و تحتفي به المنتديات الرياضية و العلمية، و يعزف النشيد الوطني عند تتويجه بالذهب في بطولات العاب القوى أو المحرز/المحرزين على انتصار كبير أو تأهل تاريخي أو حضور مشرف"( عويطة،نوال،منتخب 86..)؛ *المغربي الذي يؤدي واجباته الوطنية على أحسن ما يرام.فهو فرحان في الانتخابات التشريعية و المحلية، و لا يخفي "غبطته و حبوره".كما لا يتوانى في التصويت ب"نعم" الشهيرة على الاستفتاءات و التعديلات الدستورية المتتالية.و في كل مرة،يحرص على التعبير عن أهمية هذه اللحظة التاريخية التي ستشكل "نقلة نوعية" على درب " الديمقراطية الحسنية"؛ *المغربي المهاجر الذي يعود في الصيف إلى ارض وطنه محملا بالهدايا و الأموال أو يغادره في نهاية غشت و في نفسه غصة لمفارقة الأهل و الأحباب و "ما ساخيش " بالبلاد. 4- منذ تقرير "السكتة القلبية" الشهير،بدأت النشرات الإخبارية بشكل محتشم تخرج من "دوغما العام زين" وتقر بوجود اختلالات تؤثر على المعيش اليومي للمغاربة، و بالتالي تسقط القناع عن صورهم الباهرة المتصالحة مع العالم و "الحامدة الشاكرة".و عند اضطلاع ولي العهد آنذاك بالملف الاجتماعي من خلال مؤسسة محمد الخامس للتضامن و شعاراتها السنوية" لنتحد ضد الحاجة"، بدأت صور مغاربة آخرين تطل من التلفزيون و تصل إلى المشاهدين شيئا فشيئا:طوابير الفقراء و الأرامل و العجزة و اليتامى التي توزع عليها إعانات غذائية و وجبات خاصة في رمضان.و بعد تنصيب حكومة التناوب في سياق الانفراج السياسي العام،صارت تغطيات بعض الوقفات الاحتجاجية للعمال و الموظفين و عموم المواطنين هنا و هناك تؤثث روبورتاجات النشرات بشكل تدريجي. بدأت تظهر صور المغربي القاطن في مدن الصفيح، و المغربي الذي يعاني الأمرين مع حافلات النقل العمومي، و المغربي المعزول في قريته من دون ماء أو كهرباء أو طريق و المغربي المعطل الحامل لشهادة جامعية و يبحث عن عمل و مصدر للرزق، والمغربي الذي يعبر عن غضبه لتعقد المساطر الإدارية و طول الانتظار لقضاء أغراضه المختلفة في الإدارات والمقاطعات والمغربي الباحث عن سكن..إلى غيرها من الأمثلة. 5- لم يكتب لهذا التغيير في صور المغربي أن يستمر بشكل تصاعدي و يخضع لاعتبارات مهنية، و ليس لاعتبارات سياسية/دعائية أو أمنية حقيقية أو وهمية.اتخذت دوغما العام زين المهيمنة في العهد السابق طبعة مزيدة و منقحة في العهد الجديد من خلال: *إعطاء الأولوية للصوت و الخطاب الرسميين عبر تغطية أنشطة الحكومة التي تقدم رؤيتها و وجهة نظرها حول مختلف المشكلات المطروحة؛ *عدم تغطية بعض التظاهرات الاجتماعية أو الثقافية التي تتخذ طابعا احتجاجيا ضد الحكومة أو السياسات المتبعة( تنسيقيات، مجموعات المعطلين،اعتصامات عمال..) إلا في حالات نادرة لا تتحمل الدولة فبها مسؤولية مباشرة، *تقديم الرواية الرسمية لبعض الأحداث و الوقائع الكبرى مثل أحداث سيدي ايفني و صفرو، بدل نقل صور المغاربة" كما هي" من دون تاطير أو مراقبة قبلية للتحكم في الصوت و الصورة المقدمة؛ *البطء الشديد في التفاعل مع بعض الأحداث أو الأخبار المؤكدة ( فيضانات، عزلة السكان..)، بحيث نادرا ما يتحرك التلفزيون لنقل الصور و تقديم وجهة نظر السكان و صورتهم، إلا بعد أن تتضح "خطة العمل" الرسمية لمواجهة الموقف( فيضانات الغرب،ثلوج الأطلس مثلا).و من المفارقات العجيبة التي حصلت في الشتاء الماضي أن يجد مسؤولو التلفزيون الوسائل لإعداد روبورتاجات عن التزحلق على الجليد في الجبال وإبراز فرحة علية القوم و أبنائهم و زوجاتهم و هم يقضون "اوقاتا ممتعة"، فيما يعيش آلاف المغاربة مثل أهل الكهف جراء عزلتهم في قراهم و دواويرهم الجبلية، و لا يجدون خبزا أو حطبا أو دواءا. يستخلص من الأمثلة القليلة و المختزلة السابقة أن هناك توجها للتحكم في صورة/صور المغربي منبثقا من التوجه العام الداعي إلى عدم التيئيس وإبراز المظاهر الايجابية والتغيرات الحاصلة في المجتمع و السياسة والاقتصاد و الثقافة.من ثمة، يمكن القول إن صور المغربي في النشرات الإخبارية هي المعبر الحقيقي عن مستوى الانتقال إلى الديمقراطية وعن مضمون التغيير السياسي والاجتماعي. وهذا ما يستدعي معالجتها من زوايا أخرى و بأمثلة و موضوعات أكثر تدقيقا لاستجلاء أبعاده وعلاقاته المركبة وغير الواضحة للوهلة الأولى. [email protected]