المدرسة الدولية بالجديدة تميز وتألق مستمر في الباكالوريا المغربية وباكالوريا البعثة الفرنسية    لبؤات الأطلس يلدغن الكونغو في مباراة لا تُنسى    مجزرة كروية في أمريكا .. الملكي يتهاوى أمام إعصار باريس    ارتفاع مقلق في حوادث السير المميتة بمدينة طنجة    العلمي يشارك في لقاءات للفرنكوفونية    سان جرمان يهزم ريال مدريد برباعية    باريس سان جيرمان يكتسح ريال مدريد برباعية ويتأهل لنهائي مونديال الأندية    "غي -تا" تكشف عن ملامح عملها الفني الجديد "كروا غوج"    المنتخب الوطني فئة فريق مختلط للتايكوندو يتوج بفضية في كأس العالم للفرق بجمهورية كوريا    أنشيلوتي يُدان بسنة حبسا بتهمة "الاحتيال المالي"    إعادة فتح سفارة المملكة المغربية بدمشق    وسط ملء لا يتعدى 37% للسدود.. أخنوش يترأس اجتماعا لتسريع تنزيل برنامج الماء    مراكش.. توقيف فرنسي من أصل جزائري مطلوب دوليًا في قضايا تهريب مخدرات    حموشي يؤشر على تعيينات أمنية    في سابقة طبية إفريقية.. المغرب يشهد أول عملية جراحية بتقنية "v-NOTES" لاستئصال الرحم    مازغان يطلق المطعم الموسمي الجديد    الصحراء المغربية.. توافق دولي لا رجعة فيه حول مغربية الصحراء ودعم ثابت للمبادرة المغربية للحكم الذاتي كحل سياسي وحيد لهذا النزاع الإقليمي    بنسعيد: التحولات التي يشهدها قطاع الصحافة أفرزت الحاجة إلى تحيين الإطار التشريعي المنظم لمهنة الصحافة    أزيد من 160 مفقودا بفيضانات تكساس    الوكيل العام بالرشيدية ينفي تعرض طفل بومية لاعتداء جنسي ويكشف نتائج تشريح الجثة    نشرة إنذارية من المستوى البرتقالي: زخات رعدية قوية بعدد من مناطق المملكة    21 قتيلا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية ‏خلال الأسبوع المنصرم    مجلس المستشارين يصادق على مشروع قانون التأمين الإجباري الأساسي عن المرض رقم 54.23    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر    أكثر من 790 مليون شخص في 12 دولة عانوا من درجات حرارة قصوى في يونيو 2025    المدافع المغربي محمد حمدون ينضم إلى ريال بيتيس إشبيلية    ترامب يدفع بتطبيع موريتانيا وإسرائيل                المغرب يفتح باب المشاركة بالأوسكار    إسرائيل تنفذ عملية برية بجنوب لبنان    اليونان توقف طلبات اللجوء للأفارقة    "مجرم حرب يدعم تاجر سلاح".. بوريل ينتقد ترشيح نتنياهو لترامب لجائزة نوبل        هذه توقعات أحوال الطقس بالريف واجهة الشرقية اليوم الأربعاء    الغرفة الثانية تصادق على مشروع قانون المسطرة المدنية    الحسابات الوطنية توضح المسيرة الإيجابية للاقتصاد الوطني    أصيلة تحتضن الدورة الخامسة للأكاديمية المتوسّطية للشباب من 11 إلى 19 يوليوز    بنك المغرب: 58% من المغاربة يمتلكون حسابات بنكية بنهاية 2024    الصين تعتزم توسيع شبكة السكك الحديدية فائقة السرعة لتصل إلى 50 ألف كيلومتر بنهاية 2025    عندما ينقلب "الحياد الأكسيولوجي" إلى سلسلة ثنائيات شاردة!    كاظم جهاد: جاك ديريدا والمسألة الفلسطينية    ظاهرة "طوطو" هل نُربي جيلاً لتمجيد الصعلكة!؟    أكثر من مليون متابع لفرقة تولّد موسيقاها بالذكاء الاصطناعي    أسعار النفط تتراجع وسط تقييم اقتصادي لتأثير الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة    سايس يعود إلى التداريب بعد غياب دام لأربعة أشهر بسبب الإصابة    من أين جاءت هذه الصور الجديدة؟ .. الجواب داخل واتساب    الشاعر حسن نجمي يفوز بجائزة ابن عربي الدولية للأدب العربي    تورونتو تحتفي بعبق السوق المغربي    الطالبة ماجدة بن علي تنال شهادة الدكتوراه في الكيمياء بميزة مشرف جدا    ممارسة الرياضة بانتظام تقلل الشعور بالاكتئاب والتوتر لدى الأطفال    دراسة ألمانية: فيروس التهاب الكبد "E" يهاجم الكلى ويقاوم العلاج التقليدي    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام وأوروبا: هل هي نواة حوار الشرق والغرب؟
نشر في المساء يوم 21 - 05 - 2010

يصل الملف، في هذا المستوى، إلى منحرفه الإبستمولوجي الوعر، لأن وضعية الإسلام اليوم بأوروبا تتلقى ردود أفعال مضادة حياله (مشروع قانون منع البرقع بالأماكن العامة ببلجيكا وفرنسا-
قانون منع تشييد المآذن بسويسرا- الرسوم الكاريكاتورية السلبية حول الإسلام ورموزه بالدانمارك- الرسومات المشينة على قبور المسلمين بفرنسا...).
وهي ردود أفعال ربما ازدادت حدتها بعيد أحداث 11 شتنبر 2001 التي استهدفت برجي التجارة بنيويورك، حيث كان مقترفوها- حسب روايات وتحقيقات واعترافات متعددة- شرقيون إرهابيون يستهدفون رموزا حضارية غربية. وازدادت حدتها أيضا بنمط العيش غير المندمج للعديد من المسلمين بأوروبا، الذين لم يستوعبوا بأن أرض أوروبا تضمن حق الاختلاف، لكنها لا تؤمن بالهيمنة على المؤسسات والمرافق العمومية التي تعتبرها ملكا للجميع من دون تلوينها دينيا ورمزيا (حتى من طرف القساوسة والرهبان أنفسهم).
إنه منحرف وعر لأنه مرتبط أولا بالوجدان وبالهوية (حيث التضييقات وردود الأفعال حولها قائمة وواقعية ويومية)، ومن ثم فالموقف المعرفي سيجد صعوبة التحلي المطلق بالموضوعية. وهل الموضوعية ممكنة دائمة وموفقة في حوار الأديان والهويات؟
الموضوع صعب ثانيا لأنه تعرض للاستغلال الإعلامي والهوياتي ولم يستفد إلا قليلا من التحليل التاريخي والفلسفي والسوسيولوجي وبالأخص من جهتنا نحن المسلمين وكل ملامسة معرفية لأزمة الإسلام دوليا تتلقاها دائما ردود أفعال، شعبوية وعنصرية متطرفة، من الجانبين (المسلمون والآخر).
ولنقلها صراحة: أليس حريا بالإسلام اليوم أن يدخل مرحلة استجلاء متناقضاته ونفض شوائبه السياسية حفاظا على روحه الحضارية التي هي ملك للإنسانية؟ من ينتقد الإسلام اليوم؟ إنه دائما الأوروبي والغربي الذي يفتقر في كثير من الأحيان إلى ضبط مقومات الإسلام الحقيقية (الحضارية والإنسانية واللغوية الشاعرية...)، وعندما لا يجد أمامه إلا منتوجات فكرية إسلامية (كثير منها لا يصلح إلا لقلة من البشر) وعندما يحس بأن كل تحليل تاريخي نقدي للإسلام هو مجازفة داخل دار الإسلام، فمن الطبيعي أن يساء فهم هذا الدين، ومن الطبيعي أيضا أن تنتفض العلمانية أمامه لأنه دين يريد أن يهيمن ويحكم (الشق التعبوي والسياسي والجماعاتي والدعوي للإسلام بأوروبا).
ألا نتقاسم – نحن المسلمين- نفس الإحساس غير المعبر عنه بأن الإسلام كان مقنعا عندما كان حواريا وسلميا يركز على مقومات الإنسان (وبالأخص المهزوم والضعيف) بدل التركيز على آليات تطويع الإنسان؟ من يتحدث عن الإسلام اليوم بأوروبا؟ أليس أغلبهم أعضاء جماعات من المهاجرين أكثرها متطرف ولم تحقق اندماجا حضاريا في أوروبا وبدأت ترفع الإسلام كفزاعة؟ وماذا عن الإنتلجنسيا المسلمة بأوروبا؟ جلهم ذوو أصول عربية مسلمة نعم، لكنهم متشبعون بقيم التفكير النقدي والتاريخي والفلسفي، وهو ما يجعلهم غير مرغوب فيهم بدار الإسلام، والأخوف فيهم تراه يتقن قليلا من السفسطة ليقنع الأطياف المختلفة بأطروحاته.
أنا أتابع مثلا مجهودات طارق رمضان الدعوية (حتى ولو ألبسها لباس الفلسفة وعلم النفس) لكنني ضجرت كثيرا من مشروعه عندما لم يستطع الجواب عن سؤال ذكي طرحه عليه نيكولا ساركوزي – في أحد الحوارات التلفزية- «قل لنا هل أنت مع ارتداء الحجاب أم لا؟». سكت رمضان لبرهة وعرج على الإجابة الصريحة بوضع افتراضات جانبية. محمد أركون عانى الأمرين هو أيضا حسب اعترافاته الشخصية في مقدمة كتابه «قضايا في نقد العقل الديني». ينتقده عموم الجمهور المسلم لانضباطه المطلق بالنقد التاريخي، وهو النقد الذي يضع الإسلام أيضا موضوعا تحليليا إبستمولوجيا لعزل التاريخي الإنساني المتحول في الإسلام عن القيمي الإنساني الثابت فيه. وينتقده كذلك أغلب الجمهور في أوروبا لأنه لا يحيد عن التذكير بأهمية الدين والمعتقد والعقيدة في صناعة التاريخ والشعوب، وهو الجمهور الغربي الذي سقط- حسب قول أركون- ضحية إسراف علماني (نتيجة تعويض العقيدة المسيحية بالعقيدة الرأسمالية الليبرالية). ومن ثم فالمجهود في إعادة فهم العقل الديني هو مجهود مزدوج: تخليص الدين من التسلط وتخليص السلطة من التدين.

ما الذي يجعلنا متدينين أكثر من الغرب؟
يعرف العديد من مؤرخي الديانات بأن الغرب الأوروبي عانى كثيرا من بطش الإكليروس، وأن العقل الأوروبي وعى بأن الدين والكنيسة لم يكونا من أسباب إقلاعه الفكري والعلمي. ووجود الدين كمؤسسة قوية لم يحم الشعب الأوروبي- طيلة قرون طويلة- من الحروب والمجاعاة، بل ربما كان سببا فيها مادامت أغلب الحروب القروسطوية كانت تخرج خرائطها وخططها من الكنائس.
وفكرت أوروبا دينيا في مصيرها، بل كانت أكثر تدينا وأكثر تعويلا على الانعتاق بالدين بعد المرحلة الإصلاحية لمارتن لوثر. وما يجهله العديد من المسلمين هو أن أوروبا استنفدت تاريخيا المشروع الديني الإصلاحي بأكمله من أجل تحقيق السلام والرفاه، قبل أن تتوجه، بعد خروجها من حقبة طويلة من العنف، نحو مشروع بديل يكون واقفا برجليه على الأرض لا أثر للميتافيزيقا فيه. إنها حقبة أرسطية جديدة.
ففي القرن الثامن عشر وحدودا في بداية ما يصطلح عليه بعصر الأنوار، وقع شبه إجماع أوروبي (انطلق من فرنسا وإنجلترا، مرورا من بروسيا والأراضي المنخفضة) بعدم السماح للكنيسة مطلقا بأخذ زمام الحكامة من جديد والاستفراد بالثروات، وفتح فرص انبثاق الأفراد ومبادراتهم التجارية والاقتصادية وتشكيل النواة الأولى لبورجوازية أوروبية بقواعد جد واسعة. البطش الديني تبعه الطموح الاقتصادي ليعبد الطريق لفكر «وضعي» علمي براغماتي، يحفظ للشعائر والمعتقدات الدينية مجالاتها المغلقة، لكنه يركز بالأساس على المعرفة في خدمة الرفاه مع الحرص على أن لايستغل محصول الرفاه طيفا دون آخر.
العلمانية بأوروبا ليست ترفا فكريا ولا عدائية دينية وإنما محصلة تاريخية كانت ملاذا حاسما للأوروبيين المتطاحنين (لم تعرف قارة مثل أوروبا ذلك الخراب الهائل التي تركته الحروب الإثنية والإيديولوجية) لتحقيق السلم (من خلال دسترته constitutionnalisation) الذي يعتبر الشرط الأساسي لانتقال أوروبا لمرحلة الثورة الصناعية والرفاه الاقتصادي. لا أحد بعد ذلك التاريخ سيحكم أوروبا باسم الدين أو باسم أي أدلوجة (هذا سر رفض أوروبا للشيوعية)، فقط القانون الوضعي- الذي يضعه الجميع- هو الذي سيعطي للمؤسسات الوضعية ضمان ممتلكات وثروات ومشاريع الأوروبيين وأوروبا التي لم تعد تطيق حربا ولا مجاعة بعد اليوم.
ماذا عنا نحن المسلمون؟ إننا نعيش في رقعة جغرافية أكبر بكثير من أوروبا. نتكلم لغة واحدة ونحس أمام الأوروبي بنفس الإحساس (الفردي والجماعي والثقافي). كنا نطرح نفس السؤال وبشكل دائم: لماذا تقدم الغرب وتخلفنا نحن؟ وفجأة يختفي السؤال (لأنه وليد سياق عصر «النهضة» نهاية القرن التاسع عشر) لتظهر يقينيات جديدة بأن «تخلفنا» مصدره الغرب نفسه الذي نضعه في نفس الوقت موضوع تماه. إنها بشكل مصيري مسألة هوية، حيث لم تعد للدين نفس الوظائف التعبوية والشعبية لطرد المستعمر (من أواخر القرن 19 إلى منتصف القرن 20) لكن وظائفه تحولت ليلعب دور إثبات الذات «المختلفة» عن الآخر واستعماله كأداة لرد فعل هوياتي أمام هيمنة الآخر بنماذجه الحضارية (من خلال العولمة). هذا الآخر الذي ما زال يسوق العنف والإمبريالية (احتلال فلسطين- حرب لبنان- حرب العراق- حرب أفغانستان...) واستغلال الثروات.
وهو البعد الذي ستركب عليه السياسة وتستغله جيدا. فالاستغلال السياسي للدين من طرف أنظمة الحكم العربية لا يحتاج لكثير تنقيب وتعليل. فانطلاقا من الأدوار السياسية التي لعبها الإسلام لحشد الجماهير العربية، ضد المستعمر وطرده وتسخير الحركات الشبابية الإسلامية ضد المعارضة الاشتراكية بالعديد من الأقطار العربية، واستغلال الحركات الإسلامية ل«الثورة الإسلامية» كحل جذري للانقلاب على بطش الأنظمة الكليانية (الثورة الإيرانية) يمكن من الوصول إلى المحصلة التاريخية التي مفادها أن الدين بالأقطار العربية الإسلامية كان دائما في خدمة الأنظمة الحاكمة, إمارة المؤمنين، دولة الخلافة، الأسر الحاكمة ذات النسب الشريف... كلها تمظهرات لنفس الواقع. لا مجال لنهضة الدين لأن ذلك سيزعزع السياسة والنظام قبل زعزعة عقيدة مسلم.
ومن النتائج الموضوعية لاستغلال السياسة للدين، توظيف الأنظمة الحاكمة لتقزيم حركات التحرر الفكري ذات البعد الاشتراكي (سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي) وعسكرة إجراءات قمع الحركات الإسلامية المتشددة. ومن الأنظمة ما سعت إلى أسلمة الجامعات لتحد من إرهاصات الحركات التحررية الطلابية. وماكان للحركات الإسلامية من مبررات إيديولوجية لتقويض الأنظمة سوى التطرف والانزواء مادامت هذه الأنظمة نفسها تتقاسم معها نفس الأطر والمرجعيات الدينية وتتحكم في مؤسسات الإفتاء والمجالس العلمية من دون الحديث عن تحكمها في وسائل الإعلام (إذاعات وقنوات تلفزية قومية) ووضع اليد وتسجيل كل ما يجري في المساجد من خطب.
ولعل المستفيد الأكبر من أحداث 11 شتنبر 2001 هي هذه الأنظمة الحاكمة باسم الدين، حيث سمحت الأجندة الأمنية الجديدة للعالم باتخاذ إجراءات احترازية مكنتها من التحكم أكثر بالشأن الديني وإيجاد ذرائع جديدة لفرض أداء ديني جديد بالأقطار العربية، والسعي أكثر لإدماج مزيد من الإسلاميين في لعبة السياسة، وهو ما سيجعل مشروع دولة الخلافة (الذي كان قويا في بدايات القرن الماضي) مشروعا طوباويا يستحيل تحقيقه.
أيمكننا إذن الوصول إلى استحالة إنشاء المجتمع الوضعي العلماني بالأقطار العربية مادام المتحكم بأنظمتها يريد المجتمع العربي في المنزلة مابين المنزلتين (بين الديني والوضعي)؟
لم يكتب فهم العلمانية جيدا في المجتمعات العربية مع الأسف، بل هناك من المفكرين كمحمد أركون من ينفي أصلا وجود معنى إيتيمولوجي قائم الذات لمفهوم laicité داخل المعجم العربي لغياب المقومات التاريخية والحضارية لوجوده عربيا. إذ لم يقع إطلاقا حدث علماني أصيل authentique في التاريخ العربي الإسلامي كله (بالرغم من الإرهاصات العلمانية الأصيلة لدستور المدينة المنورة, الذي ضاع تاريخيا كتجربة رائدة لتعايش اليهود والنصارى مع المسلمين). وحتى المحاولات الفلسفية لابن رشد لم تستثمر حضاريا وبقيت محصورة، بل حرقت منها أبهج الأطروحات, وهو الحدث المأساوي الذي يشبه، عند الغرب، إعدام غاليلي.
عصر البترول هو الآخر قوى من عوامل خارجانية extrinsèques لإبقاء الأنظمة العربية على ما هي عليه (وبالأخص في الخليج الفارسي أو دول شبه الجزيرة العربية)، فظهرت وتقوت (لكثرة الموارد المالية وجسامة المصالح الاقتصادية) الحركات الوهابية والسنية والشيعية، وتعددت الملل والنحل ليتحول الإسلام بعد ذلك لسياط تجلد به هذه الحركات نفسها. وأصبح من الصعب حدوث مشروع إقلاع فكري وحضاري بأغلب الدول العربية المتوفرة على النفط، بل وصل الغرب إلى مستوى تهديد هذه الدول (مخابراتيا وسياسيا) إن هي زعزعت الموازنات الطاقية بالمنطقة، وبالتالي فأمل استثمار الآخر للإقلاع الذاتي أصبح صعبا.

ما المفيد في التجربة المغربية في مجال حوار الأديان والحضارات ؟
المغرب هو أكثر البلدان العربية قربا من أوروبا الغربية، ومن الدول العربية القليلة التي استعمرتها دولتان أوروبيتان، ومن بين دول العالم التي مازالت لم تسترجع كل أراضيها المستعمرة. نضيف بأنه البلد العربي الأكثر معايشة لفاجعة سقوط الأندلس، وبه عاش الموريسكيون مع اليهود المرحلين من الأندلس وانصهروا مع سكان المغرب إلى جانب العرب والبربر. المغرب من البلدان العربية القليلة التي تعترف بمواطنيها اليهود والمسيحيين، والبلدان العربية القليلة التي وقف ملكها (محمد الخامس رحمه الله) معارضا لترحيلهم إبان حكومة فيشي بفرنسا. لكنه من البلدان التي تحترم فيه هذه القوميات الدينية المختلفة المقومات الحضارية الإسلامية للمغرب, الذي لا يتردد في طرد المبشرين والمنصرين بدون هوادة.
أعضاء شرطة الصويرة موكادور سنة 1920
ما هو المغرب في نهاية المطاف؟ أين يبدأ العربي المشرقي ويبدأ الأندلسي والأفريقي والأمازيغي؟ أبي أمازيغي من جذور أفريقية وأمي من أصول بهلولية مشرقية... وهذا حال أغلب المغاربة (ومن هنا تفاهة دعاة التفرقة الإثنية في المغرب). وأظن أن حوار الهوية فيه – وحتى لا نكون شوفينيين – سيكون حتما أكثر ثراء وأكثر خصوبة من حوار الهوية بالدول الأوروبية لا لشيء إلا لأنه أحد أهم نقط التماس القارية والحضارية ما بين الشرق والغرب. ومن ثم فالاستثمار الحضاري في المغرب- في نظرنا- يرتكز على مبررات تاريخية وجغرافية رصينة.
كيف يمكن للمغرب أن يعطي نموذجا مثاليا لحوار الشرق والغرب؟
ليس من قبيل الصدفة أن تقف الإمبراطورية العثمانية عند حدود المملكة الشريفة لأنها وصلت إلى نقطة تماس حقيقية تحدق بها أخطار الاحتكاك المباشر مع الإسبانيين، وليس من قبيل الصدفة التاريخية كذلك أن يعطى لطنجة وضع دولي. فحتى ما وقع في دول المشرق العربي من حركات سياسية وثقافية ودينية لم يكتب له الاستنساخ بالمغرب.
دار المغرب بإشبيلية التي شيدها المغفور له الحسن الثاني ليست معلمة دخيلة، بل ربما هي في ترابها الأصلي، وهي رسالة قوية تثبت أصول العمران والمعمار المغربي القادم نصفه من إسبانيا. وقصر المعتمد بن عباد. الذي فر ودفن بشكل رومانسي تراجيدي بغمات نواحي مراكش محميا من طرف زينب النفزاوية- هو معلمة شاهدة على انصهار حضاري بين التراث الإسلامي والأندلسي والأوروبي. وحيثما كان التماس الحضاري يأتي المعمار ليشخصه (آيا صوفيا والمسجد الأزرق بإسطانبول من نماذج المحاكاة الرائعة بين الإسلام والمسيحية).
هذا عن التاريخ، فماذا عن الإنسان؟. المغربي يحب أن يستضيف إلى مائدته الأجنبي ليشاركه طعامه. والسياح بمراكش يجوبون افواجا كل الأزقة وكل الدروب من دون الإحساس بردود الفعل العنيفة للسكان. ووالدي كان دائما يحكي لي- وهو من سكان المدينة العتيقة بمراكش- كيف تعلم أقرانه الحياكة من طرف الصناع اليهود. مظاهر العنصرية – وهي قائمة في كل مجتمع- كانت أيضا حاضرة ضد السود واليهود والبرابرة بكل المدن العتيقة، لكنها كانت فردية ومتفرقة ولم تكن تفضي إطلاقا إلى أعمال عنف منظمة ولا إلى إبادات جماعية ولا مواقف حكومية عنصرية (وأضرحة اليهود ما زالت قائمة لم يدمرها أحد).
المغرب اليوم حول التعايش الحضاري والديني مع الغرب من مستواه الخام واللاواعي والشعبي إلى إستراتيجية. الرغبة حميدة لكنها حمالة لخطرين اثنين:
خطر السقوط في الفلكلور، بتحويل كل نمط حضاري للتعايش إلى صورة مفرطة في الوصف والتبجيل. المهرجانات والأسفار والأنشطة الإشعاعية والتغطيات الإعلامية مفيدة، لكنها يمكن أن تحول الواقع إلى صورة إعلامية عن الواقع... تكون في نهاية المطاف صورة زائفة.
الخطر الثاني هو التسييس، عندما يتحول موضوع التعايش من مستواه الثقافي إلى الخطب السياسية الحكومية. ما يقع دائما لهذا التحوير هو تحويل ظاهرة إنسانية تفاعلية (غير قابلة للتشخيص مع أنها موجودة) إلى خطاب سياسي وصفي وديماغوجي قابل للنقد والمعارضة وبالتالي النفور والنكوص. المجهود في النهاية ليس فلكلوريا سياحيا ولا سياسيا سفسطائيا، إنه ثقافي معرفي. رافقت في عملي العديد من المسؤولين والنشطاء الإسبان وفوجئت بجهلهم الكبير للمغرب (بتاريخه وحتى بإنجازاته السياسية التي كنت أظن أنها معروفة...) وأجابني أحدهم قائلا: «لم العجب يا صاح؟ ماذا تعرف أنت عن إسبانيا وتاريخها؟»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.