حذر الشاعر والمهتم بشؤون المعرفة، صلاح بوسريف، من بروز فكر تكفيري بالمغرب، يقوم على "اضْطِهاد حرية المغاربة، وما يتمتَّعُون به أمْن وتَسامُح وتكافُل"، مشيرا إلى أن "الذين يخرجون في الشوارع، والأماكن العامة، ويُنَصِّبُون أنفسهم مُنافِحين عن الدِّين، هم حَطَبٌ قابِلٌ للاشتعال، ينتظر من يوقِظ فيه شرارة القَتْل". ونفى بوسريف، في مقال توصلت به جريدة هسبريس، أن يكون الدِّين هو الحَلَّ، معتبرا أن هذا وَهْمٌ، لأن الدِّين وسيلة للتَّصافُح والتَّساكُن، ومعرفة أنَّ الإنسان موجود ليبني، لا لِيُدَمِّر، وأنَّ الله خلق الإنسان ليعمر الوجود، دون أن نختزله في شيعي أو سني، أو في مالكي أو حنبلي". أهذا هو الدِّين، كما قرأناه، وعَرَفْناه، من نُصُوصِه التي تدعو إلى الرَّحْمَة والتَّكافُل، وصَدِّ الباطِلِ بالحق، وأنَّ ابْنَ آدَم، مُكرَّم، مُعزَّز عند الله، وكُلّ ما يَجُرُّ النَّاس إلى الفِتْنَةِ، وقَتْل النَّفْسِ بغير حَقّ، أو إلى تحويل الدِّين إلى سَيْفٍ، أو رَصاصٍ يُقْتَلُ به المسلم، وغير المسلم، ممن يعيشون في أَمْنٍ وأمان، إنَّما هو، مهما تكن مُبَرِّراتُه، قاتِلٌ، فلا هُوَ شهيدٌ، ولا مُجاهِدٌ، ولا الجَنَّة مفتوحة له، بجواريها، وما فيها من حُورٍ عين، بل إنَّه يُحَرِّفُ كُلّ هذه المعاني، في الدِّين نفسِه، ويُحرِّف الدِّينَ نَفَسَه، أو هو بالأحْرَى يَجني على اللَّه، بما يَنْسُبُه لَهُ من تأويلاتٍ لا علاقةَ لها، باللَّه، ولا برسوله، ويخلُق لنفسِه آلِهَةً من البَشَر، هُم الذين يُهَيِّئونَه للِقَتْل، ويُحَوِّلونَه من بَشَر، إلى وَحْشٍ قاتِلٍ، وآلةٍ عَمياء، صمَّاءَ، تَجْرِفُ كُل ما يقف في طريقها، تقْطَع الرؤوس، وتُدَمِّر الكنائس والمساجد، وتفصل المسلمين إلى سنة وشيعة،، والسنة إلى فِرَق ومذاهِبَ، وجَماعاتٍ، هي غير الجماعة التي هو داخِلٌ فيها، والتي هي الحق، وكُلّ ما عداها باطل، واعتبار غير المسلمين، من مسيحيين ويهود، ومن طوائف ومِلَل، كُفَّاراً، حتَّى وهو يقرأ، ويعرف، أنَّ هؤلاء يعبدون الله، وهُم أهل كِتابٍ، ولهم رُسُل، لم يَنْبُذْهُم الإسلام، ولا كفَّرَهُم، أو اتَّهَمَهُم بالزندقة والمُروق. أهذه هي صورة المُسْلِم، الذي يعرف أنَّ هُناك أشْهُراً حُرُماً، وأنَّ هُناك إنساناً يحيا في الأرض بما وَهَبَه له الله من حياة، وبما أسْبَغَه عليه من نِعَمٍ، وأنَّ الحياةَ ليستْ حُزْناً، وبُكاءً، وأَلَماً، بل إنَّها وُجود، الإنسانُ فيه له فكر، وعقلٌ، ورأيٌ، وكُلّ ما يجري حولَه، عليه أن يُسائِلَه، ويتساءل عنه، ويتأمَّل هذا الوُجودَ ليصل إلى معرفة ما فيه من أسرار، هي ما نَتَجتْ عنه العلوم، والمعارف، وما ساعد الإنسان ليخرُج من وضْع البَهِيمة، إلى وَضْع الحيوان العاقِل، النَّاطق، الذي يُفَكِّر، ويُنَظِّم، ويُقَرِّر، ويبْنِي، ويُعَمِّر الأرضَ، ليس باعتباره أعْمًى محكوماً بمن يقودُه، أو آلةً لا إرادَةَ لها على نفسها، وعلى أفعالِها، بل باعتباره خَلْقاً، وابْتِكاراً، وتسهيلاً للحياة، وتقريباً للنفوس في ما بينها. ليس المسلم مُجْرِماً، وليس الله، وفق ما كنتُ كتَبْتَ قبل اليوم، مُسْتَبِدّاً بالإنسان، وهُو من يأمُرُه بفعل الشَّرّ، وتدمير المُدُن، والمُنْشآت، وتدمير تراث الإنسان، وما يَدُلّ على معتقداته، ومن إشاراتٍ، ورُسوم، وتماثيلَ، أو منحوتاتٍ، فاللَّه، ليس مسؤولاً على ما نقترفُه من إجرامٍ، باسم الدِّين، ولا يمكنه أن يكون مُشارِكاً في قَتْل خَلْقِه، أو في بَثِّ الفِتَنِ بين البَشَر، مَهْما كانت خلافاتُهُم، ونِزاعاتُهُم، أليس الله هو من تركَ أبليس، حُرّاً، ولمْ يَقْتُلْه، أو حَكَم عليه بالقَتْل، عالِماً بما هو آتٍ من حسابٍ، وفق ما تُقَرِّرُه النصوص، وما تُثْبِتُه الآيات، وما جاء في كلام العُلماء، ممن خَبِروا النصوص، وقرأوها بتَدَبُّر، ومعرفة، وبلا شَطَطٍ في التأويل، أو في الحُكْم على الناس بالكُفْر والزندقة، أو بإقامة الحدّ عليهم. تألَّمْتُ، وأنا أرى شابّاً، لم يتجاوز الثلاثين من عمره، أو بالكاد، ما زال يتعثَّر في السنوات الأولى من العشرينيات، من هذا العمر الجميل، وهو يصرخ في الشارع العام، بعد الإفطار، وهي المرة الأولى التي أخرج فيها من بيتي لقضاء بعض «المآربِ»، في وجْه فَتاتَيْن من نفس عمره، بملء حُنْجُرَتِه، مُتَّهِماً إياهُما بالكُفْر، وخُروجِهِما عن الدِّين، وأنَّهُما، بلباسهما الذي ترتديانه، تُحَرِّضان الناس على الخُروج من دينهم، «اللهم إنَّ هذا منكَر. اللهُمّ إنَّ هذا منكر»، واخْتَفَى، كإبْرَة في التِّبْن. أليس هذا، وما حدث في أكادير، وما حدث في أكثر من مكان، خلال الأيام القليلة الماضية، إيذانا ببروز فِكْرٍ تكفيريّ، فيه اضْطِهاد لحرية المغاربة، ولِما يتمتَّعُون به أمْنٍ، ومن تَسامُح، وتكافُل؟ فهذا الشَّابّ، وغيره، من هؤلاء الذين يخرجون علينا في الشوارع، وفي الأماكن العامة، ويُنَصِّبُون أنفُسَهُم دُعاة للإيمان، ومُنافِحين عن الدِّين، هو حَطَبٌ قابِلٌ للاشتعال، وهو فَتيل، ينتظر، فقط، من يوقِظ فيه شرارة القَتْل، ويُزَكِّيه، بما يشْحَنُه به من كلام، لا هو دِينٌ، ولا هو خارجٌ من الدِّين، لينفجر في وَجوهِنا، أو ليجد نفسَه مُجاهِداً في سبيل البغدادي، ومن كرَّسُوه أميراً على المسلمين، ممن يُحرِّكُونَه من خَلْفٍ، باعتباره هو أيضاً آلةً، مثل كُل هذه الآلاتِ التي تعيتُ في الأرض فساداً. ما الَّذي يُسَوِّغُ قَتْل سياح، آمنين في فندق بمدينة سوسةبتونس، يقضون عطلتَهم مع زوجاتهم وأبنائهم، من جنسيات وثقافات مختلفة، وسَدَّ باب الرِّزْق والمَعاش، على التُّونسيين، العاملين منهم في هذه الفنادق التي أَفْلَسَ الكثير منها، أو بضرب السياحة في تونس، التي كم هالَنِي كَرَم إنسانها، ووتواضعه، وما يَتَّسِم به من حُبٍّ للمعرفة والجِوار، وهو شعب مُسالِم، لا يُكِنّ الشَّرّ لأيٍّ كان، ويحيا ويعيش دفاعاً عن كرامته، وحقه في الحياة، وفي الاستمتاع بما في هذه الحياة من بهجة وفرحٍ. أهذا هو الدِّين، والقَتَلَة، هل الله من سَخَّرَهُم لِفِعْلِ هذا؟ أرجو أن نقرأ ما يُكتَب جَيِّداً، وأن نتسلَّح بأدوات قراءة الخطاب، وما تفرضه هذه القراءة من معارف، ومن صبر، ومن بحث، ومن نقاش، لا نحتكم فيه إلى ظاهر الأشياء، أو إلى قِشَرِها، التي كثيراً ما جَنَتْ علينا، وأفْضَتْ بنا إلى هذا الدَّمار الفكري الشَّامِل الذي نعيشه. في حياتنا، وفي مجتمعاتنا، وفي علاقتنا ببعضنا البعض. فالله، حين سَمَّيْتُه مُهَيْمِنا على الإنسان، فأنا وَضَعْتُ في آخر العنوان، علامةَ تَعَجُّب [!]، ومن قرأوا واكتَفَوْا بالعنوان، خارج كُل مكوناته اللفظية، وغير اللفظية، احْتَكَمُوا لِجَهْلِهِم، وللدِّين الذي بَقِيَ في تراقيهم، وفق ما جاء في الحديث الذي كان إدانةً لمن يقرأون الكتاب، ولم ينفُذ إلى عقولهم، وإلى فكرهم، وهؤلاء هُم الذين يَسْهُل أن يَحْكُموا بالكُفْر على الناس، لأنَّهُم يقرأون، ويؤمنون ظاهراً، وهؤلاء لا يحتاجهم الدِّين، لأنَّ الدِّين، وأي مُعَتَقَد، ولو كان أرْضِياً، دُنْيوياً، يَفْتَرِضُ في تابعيه، أن يكونوا عارفين به، حتَّى لا يستغلهم العارفون، أو مُزَوِّروا المعرفة، ليَسْتَحْوِذُوا عليهم، ويستغلوهم في ما لا يَخْدُم لا الدِّين، ولا المعتقدات الدنيوية. وحتَّى لا يحدث شَطَط في الفَهْم، مرَّةً أخرى، فأنا أعني بالمعتقدات الدنيوية، الأيديولوجيات الفكرية المختلفة. ليس معقولاً، ولا مقبولاً، أن نُدَمِّرَ مَسْجِداً فوق رؤوس المصلين، وفي يوم جمعةٍ، وفي شهر رمضان، بدعوى أنهم شيعة، أي بدعوى أنهم كُفَّار، متى كان هذا يحدث في ثقافة المسلم، وفي تربيته. أليس هذا انْسِياق وراء ما تسعى إليه أمريكا وإسرائيل، من خلق للفتن بين المسلمين بتمييزهم، وبين العرب، بتمييزهم، وبين العرب والبربر، وتمييزهم، لا لشيء إلاَّ لتفريق المُفَرَّق، وتجْزيء المُجَزَّأ، وتحويل البلاد العربية الإسلامية، إلى مَكْمَن للحروب والتَّناحُراتِ، حتَّى لا يَبُورَ اقتصادُها، وتَفْسَد أسلحَتُهاالتي في يَدِها. ما تعلَّمَتْه هذه الدُّوَل التي تتحكَّم في رقابنا، من الثورات لعربية التي لم يكن لها بها علم، إلى أن وَقَعَتْ، هو أنَّ خَلْط الحابِل بالنَّابِل، وضرْب عَمْرو بزيد، وزيد بعمرو، هو الكفيل باقتناع الشعوب، بما هي فيه من بَطْشِ الأنظمة، وفسادها، فَبَطْشٌ أفضل من بطشٍ، وفساد أهْوَن من فَسادٍ، ومن يرغب في النَّعيم، وفي المُساواة، والحق في الشغل وفي السكن، أي أن ينعم بالرَّفاه، فهذا حُلُم بعيد، لا تَبْلُغُه حَتَّى الرِّقاب. أليس ما نحن فيه من قَتْل، ومن تفجيراتٍ، ومن حُروبٍ، ومن فظاعاتٍ تُرْتَكَبُ باسم الدِّين، هو التعبير الأسْمَى عن إفلاسِنا، وعن إفلاس مجتمعاتنا، ودولنا، وانهيار المعنى الثقافي عندنا، وانهيار كل هذا لتاريخ الذي تأسَّسَ عليه وُجودنا؟ ألَسْنا اليوم، في نظر العالم «المُتَحَضِّر»، سوى إرهابيين، أو كُل عربي ومسلم، مُدان بالإرهاب، حتَّى تَثْبُت براءتُه؟ لنُفَكِّرَ هذا، ونتدبَّره، وننظر في مرآة أنفسنا، لنَسْتَشْعِر طَعْم المرارة الصَّاعِدَة من جَوْفِنا، وما في أرواحِنا من آلامٍ. ألم يَحِن الوقتُ بعد لِنَنْتَبِه إلى هذا الدَّمار الشَّامِل الذي يُحيط بنا، وإلى هذه الأجيال التي تَكْبُر دون عنايةٍ، ولا رعايةٍ، ودون مدرسة، أو ما كان ينبغي أن تكون عليه المدرسة، والأسرة، وهذه البطالة التي شَمِلَت حاملي الشهادات، ومن لا يحمل شهادةً، أهذه هي الأمة التي طَمَحْنا إليها، وهذا هو الإنسان الذي نُهَيِّؤه ليحمل جَمْرَة القرار في يده، وينهض بهذه الأرض التي ما فَتِئَتْ ترزح تحت آلامها وأعطابها؟ ليس الدِّين الحَلَّ، هذا، وَهْمٌ، الدِّين وسيلة للتَّصافُح والتَّساكُن، ومعرفة أنَّ الإنسان موجود ليبني، لا لِيُدَمِّر، وأنَّ الله خلق الإنسان، ليكون مسؤولاً على نفسه، وعلى أفعاله، والعقل هو من يقوده، وهو إمامُه، وفق عبارة أبي العلاء المعري، الذي كان في زمنه، عاشَ شِبْهَ ما نعيش فيه، وأدانَه في ديوان «اللُّزُوميات»، فاقرأوه لِتَرَوْا، أنَّ الدِّين في حَرْبٍ، ليس مع من نعتبرهم علمانيين، أو «كفاراً» وخارجين عن الدِّين، بل مع من يركبون على الدِّين، لِيُفْسِدوا الدِّين، ويُلَوٍّنوه بلون الدَّم، ولون الرَّصاص، والقَارِ الذي هو سِمَة أعلامِهم القاتلة. لنخرج من هذا الجَهْل، ولنعرف أنَّ الإنسان، هكذا، وليس المسلم، أو المسيحي، أو اليهودي، أو البوذي…هو أكبر من أن نختزله في شيعي وسني، أو في مالكي أو حنبلي، فالإنسان هو هذا الذي يُعَمِّر الوُجود، ويحرص على ترك هذه الوديعة لِمَن هُم آتُونَ بعده، لا أن يُدمِّر، ويُشَوِّه صُورةَ الإنسان، ويعتبر إيمانَه هو الإيمان، وغيره لا إيمانَ له. بغير هذا، لا يبدو لي أنَّنا سنخرج من هذا الدَّمار والقَتْل، والتكفير، والتهديد، والإرهاب، الذي باتَ هو لغة العاجزين عن النقاش المعرفي والعلمي، وعن الصبر في البحث عن الحقيقة، ولو في صورتها النسبية، دائماً. وعليه، فلْتَعُد المدرسة لِلَعِب دَور المعلم، والمُوَجِّه، والمُربِّي، ولتَعُد الأسرة، ليتحمَّل الأب فيها دوْرَه، وكذلك الأم، ويقومان برعاية أبنائهما، وتربيتهما على التسامُح، والحوار، والحرية في الاختيار، ولنعد إلى الدِّين في بساطته، ويُسْرِه، وتسامُحِه، ولنترك للعُلماء، والمفكرين، أن يكونوا الكِتَاب الذي فيه نقرأ التاريخ، ونقرأ اللغة، ونقرأ الدّين، في سياقاته، وفي معانيه، ودلالاته، دون أن نُحوِّل الإنسانَ إلى رأسٍ لا عقل فيها، أو الدِّين إلى كلام، يُطْلَق على عواهنه، أو نجعل منه رُعْباً، نُخيف به الناس، في ما هو في منطوقه الظاهر، دين يُسْرٍ، وليس دين عُسْر، كما أنَّه بقدر ما آمَن برسالته، فهو اعْتَبَر أنَّ هناك ديانات أخرى، وُجِدَتْ قَبْلَه، فَلَكُم دِينٌ، ولِيَ دِين. والإعلام مسؤول، هو الآخر، عن هذا الذي يجري، ودوْرُه خطير، وعظيم، وكُل تشويه، أو تحريف يقع فيه، ينعكس على المجتمع، وهذا هو الحاصل، في إعلامنا، وما يُعْرَض علينا فيه، من بضاعة فاسِدَة، مثل هذه البضائع الفاسدة التي ضُبِطَتْ بالأطنان، في مخازن، هَيَّأها أصحابُها لتوريجها في بُطون الناس، وكأنَّنا شعب لا يَصْلُح لأكْل الطَّعام الرَّطْب واللذيذ!