[كثيراً ما نَدْعُو النَّاس ليَقْرأوا، وَنَنْسَى أنْ نُعَلِّمَهُم كيف يقرأونَ] من بين أكْبَر مشكلاتِنا في الثَّقافة العربية المُعاصِرَة، أَنَّنا لا نقرأ إلاَّ ما نُرِيدُ، أو نقرأُ ما في رُؤُوسِنا، ونَتْرُك ما هو مكتوبٌ خارِجَ هذه الرؤوس المَمْلُوءةِ بكثيرٍ من أعْطابِ الأفْكار المسبقة. لم نَجْرُؤ بَعْدُ على التَّخلُّص من هذا الحَشْوِ، ومن الزَّوائِد والأفْكَار التي تَحْجُبُ عَنَّا الآخَرِين، أو تَجْعَلهُم غير مَرْئِيِّين، وغير مَسْمُوعِين لَدَيْنا. ما نَقْرأُه، في ما هو مَوضُوع أمامَنا، لا نَسْتَنْبِطُه مِنْ مَا هو مكتوب: من الكِتابِ، أو من الصَّفَحات التي نَقْرأُها، بل إنَّنا نقرأُ الكِتاب، أو الصَّفحات، بما هو مَكْتُوب قَبْل القِراءة، بفِكْرٍ راسِخٍ، قارٍّ ومُتَحَجِّرٍ، هو ما نَحْكُمُ به على كُلِّ ما يجري تَحْتَ أعْيُنِنا، أو ما يَمُر بآذَانِنا، لأنَّنا نعتبرُ هذا الفكر الرَّاسِخَ مُكْتَسباً، لا نَقْبَل التَّنازُلَ عنه، كما أنَّنا نعتبرُه هو الفِكْر الكَامِل، الذي لا يَشُوبُه نَقْدٌ، ولا نُقْصانٌ. ما يعنِي، أنَّنا نَعِيش دَاخِلَ سِجْنٍ مُحْكَمٍ، مَنِيعٍ، أقْفَالَهُ أكَلَها الصَّدَأُ، ولَمْ تَعُد تُفْتَح أبداً. لا يَسْرِي هذا على مَنِ اسْتَغَرَقَهُم الدِّينُ، وأصْبَحُوا نائِمِين داخِلَه، لا يَرَوْنَ ما يَجْرِي خارِجَ الكَهْفِ، فهؤلاءِ، باتُوا أصْحاب دِينٍ، ليس هو الدِّين، في صُورتِهِ التي جاء بها، نَصّاً، وأصْبَحُوا أسْرَى لهذا الانْغِلاق العقائدِي، الذي أفْضَى لِما نراه اليوم من انْحرافٍ في كُلّ شيء، بل يَسْرِي حتَّى على من يَعْمَلُون في حقل الفلسفة والفكر، وفي حقل البحث «العلمي»، وفي كُلِّ مجالات المعرفة. كُلُّ واحِدٍ من هؤلاءِ، بَنَى حَوْل نفسِه سِياجاً، وأصْبَحَ ما يجري خارِجَ هذا السِّياجِ لا معنَى له، ولا يَقْبَل الاهْتِمام والانْتِباهَ، لأنَّ «العِلْم» والمعرفة، هي ما يَصْدُرُ عنه هُوَ، أو عن من آمَنَ بِه، أو اتَّخَذَهُم آلِهَةً لدِينِه هذا، مِمَّن أمْلَوْا عليه ما يقولُه، وما يَكْتُبُه، أو يَهْرِفُ بِه. في الدِّين أوّلاً كُلُّ الذين فَسَّرُوا القرآن، بغير ما يَتَّفِقُ مع «عقول» الفُقهاء، وما هو سَائِدٌ من أفْهامٍ، ومن قراءاتٍ، كانوا عُرْضَةً للِتَّشْهٍير، واتُّهِمُوا بالكُفْرِ والإلْحادِ، أو الزَّنْدَقَة والمُرُوق. الذين اتَّهَمُوهُم، لم يَقْرَأُوهُم، ولَمْ يُجادِلُوهُم، بالمعنى القرآني، ولَمْ يُحاجِجُوهُم، ولا أنْصَتُوا إليهم، بل أدانُوهُم، مُكْتَفِين ببعض النُّتَفِ، مِمَّا قرأُوه، لأنَّ في هذا القَليل، ما يُغْنِي، عندهم، عن الكُلّ. هذا ما حدث مع المعتزلة، وهو ما حَدَثَ الرّازي، وما حدث مع إبن عربي، ومع غيرهم، بما في ذلك بعض المُعاصِرِين لَنا، من مثل حامد أبوزيد، ومحمد عابد الجابري، خصوصاً في إعادة ترتيبه لآيات القرآن، حسب نُزُولِها، وهو لم يَفْعَل سِوَى ما كان فَعَلَه الإمام السيوطي، في كتابه «الإتقان في علوم القرآن». لا أحَد من هُؤلاء الذين يَحْشدُون سيوفَهُم في وَجْه العُلماء والمُفَكِّرين والمُجْتَهِدِين من المُفَسِّرِين، فَضَح ما فَعَلَه كثير من المُفَسِّرِين ممن يَعْتَدُّون بقراءاتِهِم، ويعتبرونها داخِلَةً في الدِّين، لَم تَخْرُج عنه، بِما دَسُّوه في تفسيراتِهِم من شُرُوح، فيها كثير من الأمُور التي لا تَسْتَقِيم، لا تاريخياً، ولا منطقياً، ولا حتَّى في ما يقتضيه سياق نُزول الآيات نفسِها. تناقُضاتٌ شَتَّى، يَقْبَلُها المُؤْمِن التَّابِعُ، الذي اسْتَغْنَى عن العقل في مُقابِل الإيمان بالتَّفْويض، وبالتَّبَعِيَةِ، ويعتبرُها قَوْلاً جاء من اللَّه، لا مِن الشَّارِح، الذي هو بَشَرٌ مِثْلَه، مهما بَلَغ من العِلْم، فما يُدْلِي به، هو تفسيرٌ، يَحْتاجُ إلى التَدَبُّر، و«الفَلْيِ» بتعبير عبد القاهر الجرجاني، وإلى المُراجَعَة، والنقد، مَتَى بدا أنَّ هُناك ما يحتاج إلى النقد، دون أن أستعمل عبارة «التفكيك»، االتي قد تُثير الكثير من سُوء الفَهْم، الذي كان دريدا نفسَه أشار إليه، وهو يتحدَّث عن الكلمة في أصلها الفرنسي، أحْرَى أن ننظر إليها في غير مَصْدَرِها. باتَتْ لَدَيْنا، اليومَ، «مصادر» للمعرفة، بما تعنيه كلمة مصدر، من «أصْل»، أي العَيْن التي منها يخرج الماء. ثَمَّةَ من اسْتَغْنَى عن العين، واكْتَفَى بما يجري من ماءٍ، رغم ما قد يَحْمِلُه من شوائب، ودون أنْ يُدْرِك، بأنَّنا لا نَسْتَطيع السِّباحَة في هذا الماء مَرَّتَيْن. وثمَّة من عادَ إلى العَيْن، ملِيئاً بِشَغَف السُّؤال، وفُضُوا المعرفة. لم يَكْتَفِ من العَيْن بصفائِها، بل إنَّ ما يَشْغَلُه، هو الماء في ذاتِه. هؤلاء الذين لا يَطْمَئِنُّون، ويأكُلُهُم الشَّكّ في كُل شيء، يَقْلِبُون التُّرَب، يبحثُون ويتَقَصَّوْنَ، قليلون، لأنَّهُم، ليسوا أصْحاب مَذاهِب، وأفْكار راجِحَة وقارَّة، فَهُم أنْفُسُهُم، يُعيدون النَّظَر في ما قالوه، وفي ما كتبُوه، يتجدَّدُون، ويخرجون من كُل أشكال الحَشْوِ والزِّيادات، لِيَضَعُوا أيديهم على بعض ما يمكنه أن يُشيع الضَّوْء، أو بعض الضَّوْء في الزوايا المُعْتِمَة في فِكْرِنا، ووُجُودِنا. مذهب هؤلاء، هو أن نكون مثل ماء هِيراقْلِط، نتجدَّد، ونَتَهَيّأ، باستمرار، للإنْصاتِ للآخرين، وقراءتهم كما هُم، قبل أن نتسلَّط عليهم بفكرنا، أو نضعَهَم في سجوننا التي نحن فيها، والتي نَعْتَبِرُها هَواءً. الانغلاقُ، والقراءات العَمياء، الموجودة سَلَفاً، وتَرْك التَّدَبُّر، والمُراجَعَة، والنقد، في مُقابِل التَّسْلِيم، والتَّبَعِيَّة، هو ما أفْضَى إلى هذه المُعْضِلات الكُبْرَى التي نحن فيها اليوم، وإلى انتشار فِقْه التَّكفير والقَتْل والتَّشْهير. في الفِكْر والمعرفة ثانياً الفلاسفة والمُفكِّرون، منذ شَرَع الفِكْر الفلسفي في التَّساؤل، وبَثِّ القَلَقِ في رُوح الإنسان، وفي عقله، لم يُجازِفُوا بأطْلاقِ أحْكامٍ مُغْلَقَة ونهائِيَةٍ. كان هؤلاء، يقترحون أفْكاراً، يُعْمِلُون العَقْل والمنطق، ويُحاجِجُون ليُقْنِعُوا مُحاوٍرِيهِم، أو ليُدْلُوا بفكرتهم، بين الأفكار، دُون أن ينزعُوا العَقْلَ والمنطق عن غيرهم، أو يَتَّهِمُوه بالجَهْل، هكذا، علانِيَة، بل يَحْكُمُون ب «فساد» منطقه، وبفساد «منهجه»، أو حُدُوث بعض الخلل في مُقَدِّماتِه، ما جعل النتائج تكون على غير ما كان ينبغي أن تكون عليه. حتَّى عند المُتَنوِّرِين من فُقَهائنا، وعُلَمائِنا، وفلاسفتنا، ومُؤرِّخينا، من القُدامَى، بشكل خاص، كانوا، بهذا المعنى، وبهذه الصُّورة، وكان المنطق، والعَقْل، والحُجَّة، هي ما يَقُودُهُم، وكانوا من المُؤْمِنين الكِبار، الذين دَخَلُوا الدِّين بالعَقْل، لا بالنَّقْل، رغم إنَّهُم، مثلما فَعَل ابن رشد، لَمْ يُلْغُوا النَّقْل كاملاً، بل اسْتَدْرَجُوه إلى العَقْل، وحَمَوْهُ به. المُعاصِرون، أو أغلب المُعاصرين، من المفكرين، والنُّقّاد، والباحثين، حالَما تنتهي من قراءةِ عمَل لهم، تُصابُ بالدَّهْشَة، وبِخَيْبَة الأمَل، ليس لأنَّ كتاباتهم سَيِّئَةً، أو غير مُتَماسِكة، بل لأنَّ هذا التَّماسُك مَبْنِيّ على التَّجْمِيع، وتَلْفِيق الآراء، وعلى الاخْتِباء خلف أفكار الآخرين، بدل تفكيكها، ونقدها، وبناء الرأي على ما فيها من هَشَاشَةٍ وتَصَدُّعٍ، والانْفرادِ في المنهج، وفي الرؤية، وفي المُقاربَة وطريقة النظر. ما يحدُثُ، هو امْتِصاص الآخَر لَنا، ذَوَبَانُنا فيه. نَظْهَر أمامَ هذا الآخر الذي نَحْتَمِي به لِتَمْرِير كتاباتنا، عاجزين، وغير مُؤَهَّلِين لِيكون لنا صَوْتُنا الفردي، الخاصّ، مَهْما كان مُتواضِعاً. وفي هذا السِّياق، أذْكُرُ ما كان أجاب بِه الشَّاعر الدكتور محمد السرغيني أحدَ الطُّلاب، في ندوة حول الشِّعر المغربي، حين تدخَّل، وشرع في سَرْد ما قالَه بارت، وياكبسون، وكريستيفا، وباختين، وغيرهم: إن كان هؤلاء قالوا هذا، أنْتَ ماذا تقول؟! الحاجةُ إلى معرفة هؤلاء، وإلى معرفة الفكر الإنساني، والتاريخ، والنصوص، قديمها وحديثها، ضرورة لا معرفة تَحْدُث دونها، لكن، على عُقولِنا أن تتمرَّنَ على الخُروج من سلطةِ «المصدر» و «الأصل»، سواء كان ديناً، أو مُعْتَقداً سياسياً، أو فكرياً، لأنَّ الإنْسان لَم يوجَد ليكون عالَةً على الوُجود، وعلى الكون، وحتَّى على الله، فهو موجود لِيَفْتَح عيْنَيّه ليرى الشمس، مهما كانت حارِقَةً، وليفضح عراء الإمبراطوراتِ، وليكتَسِب رجاحَة العقل والخيال، ويقول ما يراه، وما يبدو له، لا أن يدَّعِي ما ليس له، ويصير هذا الذي علَّمَه السِّحْر، هو سيْفُه الذي يُسَلِّطُه على كُلّ الرؤوس. فكثيراً ما نَدْعُو النَّاس ليَقْرأوا، وَنَنْسَى أنْ نُعَلِّمَهُم كيف يقرأونَ. وأنْ نُعَلِّمَهُم أنَّ الكُتُبَ لَها لِسَانُها الذي به تتكلَّم، وهي تُجادِلُنا، وتَخْتَبِر ذَكاءَنا، وقُدْرَتَنا على تَفكيك أسرارها، وما تَحْمِلُه في طَيَّاتِها من مزالِق، لا يمكن تفادِيها، دون مُؤانَسَةٍ، وصَبْرٍ، واخْتِبار، ودون شَغَفِ القراءة ومُتْعَتِها، التي هِيَ سِحْرٌ زُلالٌ.