من خِصال المعرفة التَّوَاضُع والاعتراف. من يَدَّعِي أنَّه عَرَفَ كل شيء، أو أنَّه بَدَأ من الصِّفْر، لا سابق له، ولا لاحِقَ عليه، فهذا شخص لا علاقةَ له بالمعرفة، ولا يمكن أن يكون خبر تاريخ المعرفة الإنسانية، بما فيها من قيم، أو ما تُعَلِّمُه من أمور لا تسمح بهذا النوع من الادِّعاء الأعمى والجاهِل. قد يكون بعض المفكرين والعُلماء الكبار، ممن تركوا أثراً في المعرفة الإنسانية، اتَّسَمُوا بنوع من «التَّهَوُّر» أو كانوا مزاجيين في كثير سلوكاتهم العامة، وفي بعض مواقفهم التي كانت غير مقبولة، قياساً بوضعهم الاعتباري، لكن هذا لا ينفي عنهم خِصال المعرفة، باعتبار ما كتبوه، وما أنْتَجُوه من نظريات، ومن أفكار. التَّواضُع هو تعبير عن رغبة دائمةٍ في الإنصات، والمعرفة، وهو رغبة، أكيدة، في اقتسام المعرفة وتبادُلِها، عن طريق الحوار، واختبار أفكار الآخرين، وقراءة ما يكتبونه، وما في تجاربهم من «أصالة»، ومن ابتداع. فمن يُغْلِق على نفسه داخل ما يكتبُه، أو ما يقوله، دون الإنصات إلى ِما يكتبُه ويقوله غيره ممن يتقاسَم معهم نفس المساحة، سيكون حتماً، شخصاً يعيش في غرفة مظلمة، لا تدخُلُها الشمس من أيِّ مكان، لأنَّها، أصلاً، غرفة لا مَنْفَذَ فيها، والعالم بالنسبة للمُقِيم فيها هو هذا الدَّاخِل المُغْلَق على نفسه. المعرفةُ استمرارٌ، وهي مثل صَرْحٍ، كُلُّ حَجَر فيه هو امتدادٌ، وسَنَدٌ لِما قبله، كما أنَّ كل حَجَر جديد هو إضافة لهذا الصَّرْح، وتأكيد لِسُمُوِّه. اللاَّحِق يُنْصِتُ إلى السابِق، ويتحاور معه، وينتقده، أو يَسْتَمِدّ منه ما قد يَفْتَحُه من طُرُق، وفي هذا ما يُساعِد على اسْتِشْراف المستقبل، والنظر، من خلال محاورة الآخرين، وقراءتهم، ومُساءلتهم، ونقدهم، حين يقتضي الأمر هذا النقد، وتفكيك أفكارهم، وأعمالهم، إلى أبْعَد من الحاضر نفسه، الذي هو لحظة قابلة للاسْتِنْفاد. أما الاعتراف، فهو جوهر التواضُع، وهو تقدير اللاَّحِق لقيمة السابق، رغم ما يكون بينهما من اختلاف، في الفكر وفي النظر. ليست الدولة هي من اعْتَرف بالكُتَّاب، وبالمفكرين، والفنانين، فللِدَّوْلَة كُتَّابُها، ومفكِّروها، وفنانونها، وهؤلاء يحظون باعتراف الدولة، لكنهم لا يحظون باعتراف التاريخ، وأعني تاريخ المعرفة، الذي يُعِيد الاعتبار للأفكار، ولِما تحمله من جُرْأة، واختراق، رغم ما قد يتعرض له الكاتب أو المفكر أو الفنان الحُر من تَجاهُل، ويتحوَّل كُتَّاب «الآداب السلطانية» في غَفْلَةٍ من الجميع إلى مفكرين وشعراء وروائيين. خِصْلَتا التواضع والاعتراف تمتازان بالقُدْرَة على تمييز الزَّبَدِ عن غيره، مِمَّا يَمْكُث في الأرض، ويَمْكُثُ في تاريخ العلم والمعرفة، وهذا وحده يكفي ليجعل من المعرفة أرضاً تَسْتَشْعِر رِمالُها الدَّخيل من الأصيل.