عندي، ليس التراث، هو الماضي الذي مضى، وانتهى إلى الأبد، أو هو كل ما كان في زَمَنٍ هو غير زَمَنِنا. فالتراث، كما أذهبُ إليه، هو كل ما في يَدِنا من نصوص، وكتابات، ورموز، وصور، وإشارات، وتعبيرات فنية وجمالية، ومعارف مختلفة، كانتْ في لحظةٍ من اللحظات، نوعاً من التَّعْبيرِ عن فكر وخيالِ مَنْ سبقونا، ممن نعتبرهم أسلافاً لَنا. هؤلاء الذين أعْمَلُوا العقل والخيال للتعبير عن أفكارهم، ولابتداع قيم وتَصَوُّرات، إمَّا لِتَثْبِيتِ ما هو سائد وقائم، والحِرْص عليه باعتباره النموذج والمثال، أو لمراجعة هذا السائد، بِغَرْبَلَتِه ونقده، واقتراح بدائل مغايرة، أو رافضة له. لم يكن التراث، اتَّجاهاً واحداً، أو فكرةً يستعيدها الجميع، بنفس القِيمَة، وبنفس اللغة، ونفس المعنى. فالتراث، هو، بالأحرى، تراثات، أو هو أراضٍ، بما يعنيه من تَنَوُّع واختلافٍ. فكما يكون الدينيّ تراثاً، فالفلسفة والفكر، والتأريخ، والعلوم المختلفة، هي أيضاً تراث، دون أن ننسى، التراث الجمالي، الذي لا يمكن حصره في الشِّعر، فقط، باعتباره التعبير الأكثر حضوراً وانتشاراً في الثقافة العربية، فثمة أشكال جمالية أخرى، كان لها تأثيرها في ثقافتنا، هي أيضاً، جزء من هذا التراث الكثير، المتنوع، والمختلف، رغم ما عَرَفَتْه من حَجْبٍ، وطَمْسٍ، أو مَنْعٍ، لأسباب ارتبطتْ، بفهم خاصٍّ للدِّين، أو ببعض قراءاته التي أفْرَطَت في تأويلاتها، في اتغلاقها على فَهْمٍ واحد ل «النص». حين أعود إلى التراث، لأقرأه، فأنا أحاول أن أقرأه في تَنَوُّعِه هذا، كما أقرأه بكل ما فيه من اختلاف وتناقض، أو بما فيه شُقوق وتَصَدُّعات، لأنَّ ما يَهُمُّنِي فيه، هو أن أَكْشِفَ عن طبيعة النظام المعرفي، أو الجمالي الذي ينطوي عليه، أي هذا اللِّسان الذي لم يَعُد قادراً، بحكم ما تَراكَمَ عليه من تُرَبٍ، أن يتكلَّم عن نفسه بنفسه. وأنا، في هذا مُضطر أن أقرأ النص دون وساطاتٍ، أو دون وُسطاء، رغم أنني أحتاج، في دخول أراضي هذا التراث، إلى لغته التي هي لغةٌ، الكثير من مفرداتها، وتعبيراتها، لم تعد رائجةً في التداول العام، ولم تعد رائِجَةً في السياق الحديث، لِما كانت تحمله في طيَّاتِها من خصوصيات مرتبطة بطبيعة البيئة، أو الزمن الذي ظهرت فيه. فلسان العرب، مثلاً، هو بين المعاجم التي هي مفاتيح للحوار مع النص التراثي، ولاسْتِجْوابِه، خصوصاً ما تعلَّقَ منه بفترة ما قبل التدوين، وهي الفترة التي حصر فيها ابن منظور معجمه هذا . أن نَتَسلَّح، ببعض المناهج، وببعض المعارف، والمفاهيم النقدية الحديثة، وأن نكون على معرفة بالسياقات التاريخية للنص الذي نقرأه، وبالظروف التي أفرزته، أو كانت سبباً في ظهوره، وبما أحاط به مُلابساتٍ، أو بما يمكن أن يحمله دلالات ورموز، هو مِنَ الأمور التي بدونها، لا يمكن أن ندَّعِي هذه القراءة، أو ندَّعِي معرفتنا بهذا التراث، أو رغبتنا، في معرفته. كان طه حسين، الذي كنتُ قرأتُه، في السنوات الأولى من التعليم الجامعي، بنوع من الاندهاش والإعجاب، و مُتْعَةِ الرُّفْقَة، والتَّعَلُّم والإنصات، هو أول من نَبَّهَنِي إلى أن دراسةَ الأدب القديم، لا يمكنها أن تكون ذات قيمة، أو معنى، أو تُفضي، بالأحرى، إلى وضوح في الرؤية، إذا لم تُرافقها قراءة التاريخ، في مصادره الأولى، والأساسية. وهذا ما كان ساعدَ طه حسين، نفسَه، على معرفة سياقات النصوص، والموضوعات التي درسَها، واشْتَغَل عليها، بما فيها كتابه عن الشعر الجاهلي، الذي كان موضوع جدال ونقاش كبيرين، وكان فاتِحَةً لكثير من المراجعات، و التفكيكات التي حدثت في النص التراثي العربي، إجمالاً. التراث، بهذا المعنى، هو أكثر من أرضٍ، وأكثر من حقل، ومن مجال، فهو مثل النهر الذي ينبغي أن نبحث في امتداداته، وفي ما يمكنه أن يكون شَقَّه من مجار، وما حدث فيه من تفرُّعات، وما اخْتَرَقَه من أراضٍ. ليس النهر هو العين، باعتبارها مصدر الماء، بل ما ترتَّب عنها من امتدادات، وانشقاقاتٍ، وما خلقَتْه من تفريعات، أفْضَت بالنهر إلى ما هو عليه من انْسيابٍ وانتشار. القراءات التي قام بها شُعراء، ودارسين، ونقاد، ومفكرين عرب، منذ بداية «النهضة العربية»، إلى يومنا هذا، هي قراءات، ساعدتْ، بغض النظر عن خلفياتها الفكرية والنظرية، وما استعانتْ به من مناهج، ومفاهيم، وأدوات، وما وصلت إليه من نتائج، في الفهم والتأويل، على وضع هذا التراث في سياق المُراجعة، والمساءلة والنقد. كما أنها فتحت بعض «الجراح»، بالتعبير الذي يُعطيه فوكو للكلمة، في سياق حديثه عن نيتشه وماركس وفرويد في الثقافة الغربية، ما ساعد على إخراج هذا التراث من ماضويته، من جهة، ومن انغلاقه على ذاته، أو على ما كان يَسْتَحْكِم فيه من قراءات سابقة، كانت قراءات ذات اتجاه واحد، مُغْلَق، لا تتجاوز حدود المعنى الظاهر، أو تعمل على تأويل النص، انطلاقاً من خلفية ذات مرجعية دينية سلفية، ترفض كل ما بدا لها مُخالِفاً ل «النص»، باعتباره «شَرْعاً»، و«قانوناً»، كل ما لا يسير في إطاره، فهو مناهض له. هذه القراءات الحديثة، التي هي نوافذ في غُرْفَةٍ مظلمة، هي، أيضاً، بين ما لا يمكن تفاديه في قراءة التراث. فما وصل إليه طه حسين، وما وصل إليه أدونيس، وحسين مروة، وطيب تيزيني، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وغير هؤلاء ممن يشتغلون في هذا «الماضي»، ويعملون على قراءته من خارج الأطُر التقليدية التي حاولتْ إغلاق النص التراثي داخل فَهْمٍ، أو معنىً كُلِّيٍّ، شامِلٍ ونهائيّ، هو بين ما ساعدَ في خلخلة معنى القداسة في هذا الماضي، وفي ما انْطَوَى عليه أفكار، وتصوُّراتٍ . لم تعُد المعرفةُ بالتراث أرْضاً خلاءً، ثمَّة آثار لعابرين قرأوا هذا التراث، ودرسُوه، أصبحت قراءاتهم هذه، تفرض علينا، إلى جانب قراءة النص التراثيِّ، ومساءلته، قراءة هذه القراءات، ذاتها، ومساءلتها، هي الأخرى، لكن في ضوء النص الأصل، أوَّلاً، وفي ضوء المعارف، والمفاهيم الجديدة التي لم تكن مُتاحَةً لهم، أو لم يُفَكِّروا في الاستعانة بها، أو بقيت خارج ما كانوا يذهبون إليه، في هذه القراءات. نصَّان، يستدعيان بعضَهُما، ويُساعدان، في نفس الوقت، على توسيع الأسئلة، ووضع اليَد على بعض ما ظل مُحْتَجِباً، أو في مَنْأًى عن المساءلة، والاستجواب. لا ينبغي أن ننسى، أو نتجاهل، ما جاءنا من غير ثقافتنا، من قراءات، لمستشرقين، أو مستعربين، أو باحثين أوربيين وأمريكيين، ممن كان تراثنا ضمن اهتمامهم. فهؤلاء، أيضاً، سواء بما أصبح متاحاً من ترجمات، أو ما ظل مُقيماً في أصْلِه اللغوي، نحتاج لمعرفة رأيهم، ولاختبار نظام معرفتهم الذي حَكَم رؤيتَهم، وقراءتَهم لهذا التراث. المعرفة بالتراث، هي معرفةٌ بمعارفِه، أي بما أصبح يُحيط به من علوم، أدوات، وما أصبح يحكمُه من رؤًى، ومن سياقاتٍ، لم تكن هي نفس المعارف، والرُّؤى، والسياقات التي اشتغل في ضوئها الدكتور طه حسين، مثلاً، أو حسين مروة وطيب تيزيني. ف «مهنة» الباحث، والمشتغل في البحث المعرفي، حتي لا أستعمل كلمة العلمي، التي تحتاج لمراجعة، هي الأخرى، لم تعد هي نفسُها، بما عرفَتْه من توسُّعات، وما اقْتَحَمَها من معارف، وفَرَضَ نفسَه عليها، أو كما يقول محمد أركون، في سياق حديثه عن مهنة المؤرِّخ، «إنَّ مهنة المُؤرِّخ نفسها أصبحت على محك التساؤل والشك. لم تعد بدهية كما عليه الأمر في السابق، وإنما أصبحت مُضْطَرَّةً لأن تتغيَّر وتتطوَّر. أصبحت مكانتها المعرفية بحاجة إلى التحديد من جديد، أو التوسيع، وكذلك الأمر في ما يخص حقل تجاربها، ومسؤوليتها الثقافية والفكرية. يُضاف إلى ذلك أن الانقلابات التي تتعرض لها المجتمعات الخاضعة للمرجعية المدعوة إسلامية، قد بلغت حدّاً مُخيفاً يُجْبِر المؤرِّخ الحديث [إن لم نقل المستشرق] على إعادة النظر جذرياً في مناهجه ومصطلحاته وأدواته، لقد أصبح مُضطرّاً للتحرُّر من المقولات العتيقة البالية، والأطُر الضَّيِّقَة والمُنْغَلِقَة، والمنهجيات التكرارية التي عفا عليها الزمن. أصبح مضطراً للقيام بكل ذلك من أجل تجذير تحليلاته النقدية أكثر فأكثر، وتوسيع آفاقه المعرفية ومنظوراته الإبستمولوجية. في الواقع، إننا وصلنا الآن إلى مشارف معرفة جديدة لم نعهدها من قبل، معرفة لا تزال تنتظر اسمها الجديد». يَجُرُّنا كلام أركون هذا، للحديث عن أهمية الحداثة، وعن حيوتها، وما تحمله في ذاتها من قدرة على التَّصَيُّر، باعتبارها مراجعة دائِمةً لنفسها، فهي تحمل تَصَدُّعاتها في ذاتها، وتعي هذه التصدُّعات، وتفضحها، بعكس الفكر الوُثوقي، اليقيني، الذي يعتبر نفسه أزلياً، ثُبُوتياً ودائماً، أو بالتعبير الديني «صالح لكل زمان ومكان». وحين يرفض أركون، أو يتحفَّظ على «الاسم الجديد» الذي اعتبره البعض هو «ما بعد الحداثة»، فهو يسير في سياق هذا الفهم المتقدم للحداثة، باعتبارها صيرورة، ونهراً لا يستقر على مَجْرًى واحد، كُلِّيّ، ونهائيّ. لا تابث في الحداثة، ولا مُسْتَقِرّ. ثمَّة رمال تتحرَّك، ولها عُمْق، بقدر ما يشي بخطر السَيْر، وأهواله، بقدر ما يدعو للحذر، واجتناب المُطْلَقات. وهذا ما يجعل من معرفتنا بالتراث، بهذا الماضي الذي لم يَمْضِ، من هذا المنظور الحداثي، معرفة ناقصة، تحتاج، قبل البحث في التراث نفسه، بشكل دائم ومستمر، البحث في ما بِهِ سنذهب لهذا التراث، من مناهج، ومعارف، وأدوات، ووضعها هي الأخرى في محك المساءلة والاستجواب. فكثيراً ما تكون الطريق، أهم من السَّفَر ذاته، وهذه هي متعة، ودَهْشة البحث في هذا الماضي الذي لم يَمْضِ بعد، ولن يمضيَ أبداً، ما دام ينطوي على أسرارٍ، هي في حاجة دائمة للكشف، قبل التجاوز.