إن أهم ما يميز الحداثة، بالمعنى الذي أعطيناه إياها، هنا، كمقابل للتراث وزوج له، لا كضد أو نقيض، هو قدرتها على مراجعة ذاتها ونقدها لنفسها، فهي تحيا بحيويتها، مما جعل بعض منظري الحداثة يعتبرون الحديث عن «ما بعد الحداثة»، أو تجاوز الحداثة وتخطيها، تقديرا سيئا لمعنى الحداثة ولمفهومها. فالحداثة كفيلة بتجاوز أعطابها، وهي صيرورة دائمة، لأنها أفق وليست نمطا. أضيف، هنا، في السياق الذي أشرت إليه سابقا، أن الحداثة تتجدد في علاقتها بالتراث، كما أنها تضفي الحياة والحيوية على نفسها حين تكشف عن بعض ما في التراث من حيوية، أو تعيد قراءته، في ضوء هذه الحيوية التي هي صيرورة الحداثة واستمراريتها. لم يتأسس الفكر الغربي على البدء من الحداثة، فالتراث اليوناني القديم كان أحد أهم ما ساعد الغرب على اكتشاف الحاجة إلى الحداثة. لم تبدأ الحداثة مع هيجل أو مع كانط أو ديكارت، رغم ما لهؤلاء وغيرهم من فلاسفة وشعراء، مثل بودلير ورامبو ولوتريامون، من دور في إيقاظ الوعي بالحداثة أو ضرورة الانتقال إلى نوع من الوعي النقدي الجديد على هذا الفكر، فهؤلاء جميعا استمدوا حيوية أفكارهم وما اقترحوه من نظريات، في الفكر كما في الشعر، من ذلك السلف الذي أعادوا قراءته في ضوء جديد ووفق رؤية نقدية، كان فيها النص هو المحك، وليس غير النص، مما يحرف طريق القراءة أو ينأى بها عن الحقيقة التي تقتضيها المعرفة. لم يسلم سقراط من النقد، رغم ما حظي به من تقدير وما له من مكانة في هذا الفكر، كما لم يسلم أفلاطون وأرسطو من النقد، رغم أهمية دورهما في المعاني التي ستتخذها الحداثة في الفكر والسياقات التي ستؤول إليها. ما بلغه الفكر الغربي من نضج في فهم الحداثة وفي تكريسها كاختيار كان له دوره في ما بلغه الإنسان من «تقدم»، مع يحمله هذا المفهوم في ذاته من نسبية، كان بسبب المعرفة بهؤلاء الذين جاؤوا من الماضي وقطعوا كل هذا الطريق ليصلوا إلى زمننا ويكونوا الضوء الذي سيزيل كثيرا من المساحات المعتمة في فكر الإنسان وفي معرفته بنفسه. «اعرف نفسك بنفسك»، هذا ما قاله سقراط، ليفتح أمام الإنسان طريق العقل الذي كان الجرح الذي أيقظ حاجة الإنسان إلى ذاته، بالمعنى الذي يعطيه فوكو للكلمة في حديثه عن الجرح الذي أحدثه كل من نيتشه وماركس وفرويد في الفكر الغربي الحديث. نيتشه عاد إلى ما قبل سقراط، أيقظ فكر التحول والصيرورة، فكر النهر المتدفق الذي لا يمكن السباحة فيه أكثر من مرة. فالشمس التي تشرق اليوم ليست هي الشمس نفسها التي أشرقت البارحة. هذا ما ذهب إليه هيراقليطس، وهو سابق على سقراط. أليست الصيرورة، التي تعود في جذورها إلى ما قبل سقراط، هي جوهر الحداثة، وهي جوهر كل تراث يتخلق أو يخرج من ماضيه ليلحق حاضره أو ليثبت حضوره؟ في الثقافة العربية، نظرنا إلى التراث باعتباره تراجعا، ونظرنا إلى الحداثة باعتبارها تقدما، ووضعنا بينهما خطا فاصلا.. الحداثي لا يقترب من التراث والتراثي لا علاقة له بالحداثة، ولم ننظر إلى طبيعة الزواج القائمة بين المفهومين وإلى ما عملا معا على التأسيس له، سواء في الفكر الغربي الحديث أو في ما شرعت الثقافة العربية المعاصرة في إحداثه من اختراقات، في إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين الحداثة والتراث. العائق الذي جعل هذه الثقافة تتأسس على الانتصار لمفهوم ضد الآخر، أو لتصور في مقابل غيره، هو ما جاءنا من زمن التدوين، الذي كان خطوة في اتجاه تكريس لغة في مقابل لغة، عندما اكتفى ابن منظور في «لسان العرب» بالوقوف عند ما قبل التدوين، وما أتى بعده نظر إليه بنوع من الريبة وعدم القبول. هذه الانتقائية، في الجمع وفي التدوين، كما جرت في المعجم، جرت في الشواهد النحوية وفي المتن الذي كان مصدر الشاهد، لتأكيد القاعدة وتكريسها، وهو ما حدث في حقول المعرفة الأخرى. إفراغ المدونات الثقافية العربية من فترة المابعد، أعني ما بعد التدوين، كان حصرا لهذه الثقافة في الماضي الذي مضى، وفي سلف صار نوعا من الدوكسا أو الكتاب الذي لا تصح المعرفة إلا بقراءته، طبعا، وفق ما تمليه الكلمات وما تحمله العبارات، في طياتها، من دلالات مقصودة. في هذا العمل، الذي كان الجابري وقف على ما حدث فيه من ابتسار، تم تقطيع قطعة الثوب الواحدة إلى خرقتين وإلى طرفين، بدا كل طرف منهما كأنه نسيج وحده. القراءات التي تكتفي بأحد الزوجين، دون الآخر، غير ممكنة، لأن كل مفهوم موجود في الآخر بالفعل، وليس بالقوة، أي بحكم قرابة الدم المعرفي الذي جمع بينهما، رغم ما حدث من ابتسار في ثقافتنا العربية، خلال زمن التدوين. انتهى/