قد لا نجافي الصواب إذا قلنا إن أزمة صدامات الأمة، وتطاحنات المجتمع، وتمزق طوائفه، وتقطع أوصاله هو غياب- ليس الحوار ولكن- قيم الحوار وأدبياته وجانبه التحسيني الجمالي. سواء على المستوى العمودي (بين الحاكم والمحكوم)، أو على المستوى الأفقي (بدءا بالأسرة، وبين فئات ونخب المجتمع المدني من مختلف توجهاته الاجتماعية، ونخبه السياسية، وتياراته الفكرية، وملله ونحله الإيديولوجية، وهيئاته النقابية وتنظيماته الحركية... إن غياب قيم الحوار هذه تكاد تضعف بوحدة المجتمع وتفقده رشده ليزداد بذلك تشظيا وتجزئة وتشرذما وتمزقا، لتخندق الأمة نفسها من جديد في نكد التاريخ وتباريحه وآلامه. والذاكرة لا تنسى أن بعض محطاته كانت عبئا- إلى يوم الناس هذا- على تاريخنا الإسلامي والسياسي في لحظة كان يمكن تجاوز ذلك لو كان لبعض اللقطات في التاريخ رجل رشيد، يسمو بنفسه عن هذه الجراحات، ويتعالى عن استدعاء معارك التاريخ التي لم نكن جزءا منها، ويتصدى لمعارك الحاضر واستشراف المستقبل في وقت تتعرض فيه الأمة لكثير من الهزات العرقية والطائفية. ويجعل نصب عينيه قوله تعالى: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون"البقرة 134. ويستبصر بهدي النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا" . ويمتح من حكمة الشاعر العربي القائل: إن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن زجروا طيرا بنحس تمر بي زجرت لهم طير ا تمر بهم سعدا لا أحمل الحقد القديم عليهم فليس زعيم القوم من يحمل الحقد ولما كان القرآن الكريم هو المرجع المشترك، والأرضية العقدية والفكرية للفكر الموحدة بين المسلمين، منه وإليه يحتكمون، يؤصلون، يبنون، ينظرون، يحررون مواطن الخلاف في مساحات التاريخ المسكوت عنها، يحسمون في شأن المشاحات الاصطلاحية، والمفاهيم المطاطة الرجراجة...فإني أجعله- بحول الله- منطلقا لبناء صرح جمالية الحوار فيما سأدبجه في هذه الأسطر. أولا : القرآن الكريم دعوة إلى الحوار لا إلى إقصاء الآخر. لقد قرر القرآن الكريم بين ثناياه وفي صفحاته الدعوة إلى التعارف، يوجه الخطاب إلى "الناس" كافة في قوله تعالى : "يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير"الحجرات13. التي هي لفظ شامل للمؤالف والمخالف، لمن هو داخل الدائرة وخارجها..ثم لا ينفك في آخر الآية يربط الحكم بقيمته وغايته، وهو أن التعارف المطلوب تعارف روحي مؤداه التعاون على المعروف ونشره، لا التعارف على المنكر الذي عنوان الوقاحة هو أحد مظاهره البارزة. ويستلزم الحوار الاعتراف بالطرف الآخر، وبحقه في الوجود، وبحقه في التعبير عن رأيه، وبحقه في الاختلاف مع الآخر. وأهم"مؤشر على وجود الحوار فيه هو تصرف مادة القول، أي فعل"قال" ومشتقاتها. ومادة"ق و ل" تتكرر في القرآن 1722 مرة. وتتصرف هذه المادة على تسعة وأربعين تصريفا واشتقاقا لأنه لو كانت "قال" متصرفة تصريفا واحدا: قال أو يقول..منسوبة إلى الذات الإلهية –قلت أو قلنا أو غيرها من التصرفات الدالة على جهة المتكلم المتعالي- لما كان هناك أي استعمال لمادة "القول" كمؤشر على الحوار. فهذا يكون مؤشرا على التلقين، وعلى التعالي، وعلى الصوت الواحد والفكر الواحد. ولكن نجدها متوزعة على تسعة وأربعين اشتقاقا تتوزع على كل أطراف المقام الحواري، من متكلم ومخاطب ومستمع ومحاور ومقاطع وغائب وحاضر ومذكر ومؤنث ومثنى وجمع" . والحال أن النص القرني كلام الله نص متعال بطبيعته، لأنه من رب خالق، وهو القائل : "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون"الحشر21 . وقال جل في علاه: "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ايتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين"فصلت 11 . ولكنه مع ذلك -جل في علاه- يكسر قاعدة المقام والمقال، وينزل مقاميا ومقاليا ليخاطب ويحاور المخلوق والعبد على اختلاف رتبته ومستواه، (الصالح والطالح، المتواضع والمتكبر، الجميل والقبيح الخسيس، التائب والعاصي المتمرد، الصادق والكاذب، المؤمن والكافر، المهتدي والضال، ثم بعد ذلك يحكي مقالاتهم على اختلاف مستويات شغبها وقبحها، وضلالاتها وتشويشها وانحرافاتها، ومتعلقاتها في فتح فتنة خالدة متكررة، متجددة بتجدد الأجيال. صبغتها أن تفسد الفكر تصورا وممارسة..بل الأكثر من ذلك أن يجعلها خالدة في كتابه. فنجد في القرآن الكريم كلام الملحدين الذين ينكرون وجود الله " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر"الجاثية24. وكلام اليهود : "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا"المائدة 64. وكلام النصارى : "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة"المائدة73. وكلام ذوي الشبهات : "يضل من يشاء ويهدي من يشاء"النحل 93. وكلام المندسين تحت شبه القضاء والقدر : "وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا"النحل 35. ثانيا : القرآن الكريم يقف في الحوار على منتصف الطريق. لا يزال المتأمل في القرآن الكريم يكتشف جمالية حواره، فآياته تظهر في أكثر من موضع، وقوفه على منتصف الطريق في الحوار، منها قوله تعالى : "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" سبأ24 . قال سيد قطب –رحمه الله- " وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال. أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين : "إنا أحدنا لا بد أن يكون على هدى والآخر لا بد أن يكون على ضلال، ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال، ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم، والرغبة في الجدال والمحال، فإنما هو هاد ومعلم يبتغي هداهم وإرشادهم، لا إذلالهم وإفحامهم، لمجرد الإذلال والإفحام" . ثم لا يزال عليه الصلاة والسلام محافظا على المنهج، حريصا على نفس المقصد الذي شقه القرآن وهو ابتغاء هدايتهم، يقترب أكثر فأكثر، ويبسط يده إليهم، ويغازلهم في أعرافهم الايجابية، ويغبطهم فيما تحتفظ به ذاكرتهم وتاريخهم من قيم إنسانية نبيلة هي من المشترك الإنساني وقد قال عليه الصلاة والسلام : "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت" . لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان تجسيدا عمليا لتصورات القرآن ولمنهجه ولإستراتيجيته في الحوار، وهو بعيد كل البعد عن أن يكرس في منهجية الحوار خطاب العنف وإرهاب الفكر. لأنه كان يؤمن أشد الإيمان بمشروعه الحضاري الضخم "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله عز وجل بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر" . ولا يمكن أن يحقق مشروعه الحضاري إلا بلغة حضارية وحوار حضاري يؤلف ولا ينفر، يحشد ويحشر ولا يفرق، يرغب ولا يرهب، يطمئن ولا يفزع، يبشر ولا ينفر، ييسر ولا يعسر. هذا الإنصاف في الحوار امتد إلى عمق القرآن شكلا ومضمونا. وبين ذلك على ثلاث مستويات : الأول : القرآن الكريم يفسح صدره ويفتح ذراعيه للرأي المخالف ويعطيه نصف مساحة القول، وهي نفس المسافة التي يعطيها الله لنفسه في القول. ولذلك نجد عدد اللفظ "قل" بالصيغة المتضمنة لأمر الله 330 مرة. وهو نفس العدد المعطى للرأي المخالف. الثاني : استحضاره لرأي الآخر رغم شناعته وقبحه " وقالت اليهود يد الله مغلولة"المائدة 64. وهو قول في غاية الوقاحة.: وقوله تعالى : "وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين "يس47. الثالث : القرآن الكريم لا يبتر رأي الآخر بل يأتي به كاملا ويتركه يأخذ مداه. ولا يقف القرآن الكريم عند حدود الإنصاف والتسوية في الحوار بل يرتقي في هذه الآداب إلى مستوى الإحسان قال تعالى : "قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون" سبأ 25. فسمى عمل الآخر عملا بصفة محايدة، وسمى عمل المؤمنين إجراما بصفة قدحية التفاتة منه إلى إيقاظهم إلى التأمل والتدبر والتفكر...واستماتة واستبصارا منه إلى استمرارية جسور الحوار والتواصل، ومواصلة الطريق رغم حجم الإعراض الكبير الذي يلاقيه منهم حرصا منه على الوصول إلى الهدف. ولا يكتفي القرآن الكريم بالتخلق بذلك بل يأمر أتباعه من المؤمنين بالتحلي بهذه الأخلاق العالية. قال تعالى : "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"العنكبوت46. فهو يعلي من إحسانية هذه الأخلاق حينما يتعلق الأمر بالحوار مع الآخر، لأنه "إذا كان تصرف الإنسان مع أبناء أمته عموما يستدعي أخلاقا معينة –أي عملا تعارفيا مخصوصا- فإن تصرفه مع غيره من الأمم الأخرى يتطلب منه أخلاقا تعلوها رقة وتنوعا –أي عملا تعارفيا أكبر- نظرا إلى أن وجوه الاختلاف بين أمته وأممهم تكون أظهر وأشد، وحيثما وجد مزيد الاختلاف احتاج إلى مزيد العمل التعارفي، وأساسه تبادل المعروف" . ثم وجدنا القرآن الكريم يعطي القدوة والنموذج منه فما ادعى دعوى إلا وكان له في نفسه عليها دليل: "فالقرآن يأمر بالعدل والإحسان وهو يمارس العدل والإحسان. والقرآن يأمر بالزينة عند كل مجلس وهو يتزين بجمال البلاغة. القرآن يقول هاتوا برهانكم وهو يقدم برهانه. القرآن يدعو إلى الإقناع وهو ينهج منهج الإقناع. القرآن يدعو إلى التسامي عن الضغائن وهو يتسامى عن الضغائن. القرآن يدعو إلى الهداية وهو يمارس الهداية" . ثالثا : القرآن الكريم يراعي المعهود العربي في الحوار. لطالما اهتم القرآن الكريم ببيئة المحاور والمخاطب مراعيا كل ما يتعلق بأحوال الإنسان العربي، وعاداته في أساليب تواصله وتعبيره عما يرمي إليه من الأغراض في الأنكحة والبيوع .. وعلاقة القبائل بعضها ببعض، وكذا ما يتعلق بعقائدهم ودياناتهم وتعبداتهم وطقوسهم، وكل ما يتعلق بأحوالهم في السلم والحرب. إن مراعاة معهودهم هو ما جعل الشارع يسوق الشريعة أمية كما هم. قال الشاطبي: "هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعتبار المصالح. ويدل على ذلك أمور : أحدها : النصوص المتواترة اللفظ والمعنى كقوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} الجمعة2. وقوله: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته}الأعراف158 .وفي الحديث"بعثت إلى أمة أمية" لأنه لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين. والأمي منسوب إلى الأم وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها, وفي الحديث "نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا". وقد فسر معنى الأمية في الحديث، أي ليس أهل علم بالكتاب ولا الحساب. ونحو قوله تعالى: "وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك" العنكبوت48 . وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك . والثاني : أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا. فإن كان كذلك فهو معنى كونها أمية، أي منسوبة إلى الأميين. وإن لم تكن كذلك لزم أن تكون على غير ما عهدوا فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها ، فلا بد من أن تكون على ما يعهدون، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية فالشريعة إذا أمية"( ) . تتجلى هذه الأمية في كثير من أساليب القرآن التي خوطبوا بها، مما يلمس فيها زيادة بيان أو تأكيد، منها قوله تعالى في التمتع {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}البقرة 196. فكان بينا عند من خوطب بهذه الآية أن صوم الثلاثة في الحج والسبع في المرجع عشرة أيام كاملة قال تعالى {تلك عشرة كاملة} فاحتملت أن تكون زيادة في التبيين ،واحتملت أن يكون أعلمهم أن ثلاثة إذا اجتمعت إلى سبع كانت عشرة كاملة . وقال الله سبحانه: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة}الأعراف 142 وقوله {أربعين ليلة } يحتمل ما احتملت الآية قبلها : من أن تكون إذا اجتمعت ثلاثون إلى عشر كانت أربعين وأن تكون زيادة في التبيين . وقال الله تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }البقرة 183 . وقال تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} البقرة185. فافترض عليهم الصوم ثم بين أنه شهر والشهر عندهم ما بين الهلالين وقد يكون ثلاثين وتسعا وعشرين"( ) وهي أمثلة بين فيها الشافعي جمالية الحوار القرآني الرامية إلى بيان ما يقصد إليه الشارع من أحكام متضمنة في الخطاب وهو يراعي في ذلك أمية العرب، ولذلك كانت وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم بيان معنى ما أراد الله، مما أنزل فيه جملة كتاب. ولتوضيح هذه المسألة أكثر نورد نص الشافعي الذي يبين فيه بالاستقراء معهودهم اللغوي ومقاصدهم الاستعمالية قال : "فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها. وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغني بأول هذا منه عن آخر، وعاما يراد به العام، ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وخاصا ظاهرا يراد به الخاص، وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره فكل هذا موجود علمه في أول الكلام، أو وسطه، أو آخره. وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها . وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة."( ) إن عبارة الإمام الشافعي الحصرية "إنما خاطب الله بكتابه العرب.."وهو يعرض أوجه وصور التعبير القرآني المطابق لكلام العرب، إنما يبين فعلا أن لغة الحوار القائمة على وظيفة البيان في أي علم كان يجب أن تحمل وتتشرب معاني البيئة وسياقاتها الاجتماعية ومساربها الاعتيادية وخصوصياتها النفسية. ولهذا الأمر انطلق الخطاب القرآني أيضا -وهو يهدف الى وجوب اتصافهم بمكارم الأخلاق- إلى ما هو محمود للعرب، مما هو آنس لهم. فقد جاء في الصور المكية { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى } النحل90. إلى آخرها وقوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا }الأنعام 151 إلى انقضاء تلك الخصال. وقوله: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده }الأعراف 32. وقوله: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق }الأعراف33 إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى. لكن أدرج فيها ما هو أولى من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم. وأبطل لهم ما كانوا يعتدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك، أو فيه من المفاسد ما يربو على المصالح التي توهموها كما قال تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}( ) المائدة 90. والخطاب القرآني، وهو ينطلق مما يتمدح به عندهم يضمن خطابه خصالا حميدة لم تكن من محاسن أخلاقهم، ولا شرعهم استدراجا بهم إلى التخلق بها ، فهو إذ يخاطبهم في البدء يضع أرضية للتعايش تجنبا لما هم ممتعضون مستنكفون منه، حتى إذا حصل التقارب بين البيئتين (بيئة الخطاب القرآني وبيئة المعهود والعرف العربي) وآنست النفوس وارتاحت القلوب إلى ما تعاقدوا عليه استدرجوا حكمة إلى ما هو أعظم من ذلك. ولذلك انتهج بالمخاطب العربي منهجا انسيابيا استطاع أن يدمجه تصوريا وسلوكيا في زمن جد قياسي حتى إنه ليكاد يكون "إنشاء الكلام من لدن المتكلم وفهمه من لدن المخاطب، عمليتين لا انفصال لأحدهما عن الأخرى، وانفراد المتكلم بالسبق الزمني ما كان ليلزم عنه انفراد بتكوين مضمون الكلام، بل ما إن يشرع المتكلم في النطق حتى يقاسمه المخاطب دلالته، لأن هذه الدلالات الخطابية لا تنزل على ألفاظها نزول المعنى على المفردات في المعجم، وإنما تنشأ وتتكاثر وتتقلب وتتعرف من خلال العلاقة التخاطبية، متجهة شيئا فشيئا إلى تحصيل الاتفاق عليها بين المتكلم ونظيره المخاطب، بعد أن تكون قد تدرجت في مجاوزة اختلاف مقتضيات مقاميهما واختلاف طرق عقدهما للدلالات" . ولذلك كانت مكارم الأخلاق على ضربين : أحدهما ما كان مألوفا وقريبا من المعقول والمقبول كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ثم لما رسخوا فيه، تم لهم ما بقي "وهو الضرب الثاني". وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأخر حتى كان من آخره تحريم الربا وما أشبه ذلك. وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق، وهو الذي كان معهودا عندهم في الجملة. ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام، كما قالوا في القراض وتقدير الدية وضربها على العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة والوقوف بالمشعر الحرام، والحكم في الخنثى، وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين، والقسامة وغير ذلك مما ذكره العلماء"( ) . فالشارع سبحانه أجرى أسلوب الحوار بما كان عندهم من مكارم الأخلاق وضرب الأمثال، وما كان عندهم من العلوم معروفا فأقر بعضها كالتاريخ وعلم التنجيم. وأبطل بعضها كالسحر والكهانة. كما أجرى أسلوب الدعوة والتواصل والحوار بما كان عندهم أيضا قال تعالى: {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} النحل 125 .فالقرآن كله حكمة، وقد كانوا عارفين بالحكمة، وكان فيهم حكماء فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله. وكان فيهم أهل وعظ وتذكير كقس بن ساعدة وغيره. ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل ، ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة (الحكمة والوعظ والجدل) وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة"( ). وقد أرشد القرآن في مجال الدعوة إلى مخاطبة كل قوم بلسانهم الذي يفهمونه لا بلسان غريب عنهم. وقد قال تعالى: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم }ابراهيم04 . قال الدكتور يوسف القرضاوي معلقا على الآية : " والذي يجب أن يفهم من الآية فهما أعمق من مجرد أن يخاطب الأنجليز بالأنجليزية، والروس بالروسية، والصينيين بالصينية، ولكن أكثر من هذا : أن لكل قوم لسانا يخاطبون به، فلسان الخواص غير لسان العوام، ولسان الحضر غير لسان البدو، ولسان الغربيين غير لسان الشرقيين، ولسان الذين وصلوا إلى القمر غير لسان الذين يعيشون في الأدغال"( ). كما أن معالجة بعض علماء القرآن لمبحث المكي والمدني إنما كانت بناء على مراعاة المعهود العربي، فقول الزركشي في تعريفه للمكي والمدني: " اعلم أن للناس في ذلك ثلاثة اصطلاحات ( ): -أحدها : أن المكي ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة. - والثاني : وهو المشهور أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان بمكة. - والثالث : أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة". ومن فوائد هذا التقسيم ما يلي : أحدها : ظهور بلاغة القرآن في أعلا مراتبها حيث يخاطب كل قوم بما يقتضيه حالهم من قوة وشدة أو لين ورقة. وثانيها : ظهور حكمة التشريع في أسمى غاياته حيث يتدرج شيئا فشيئا بحسب الأهم على ما يقتضيه حال المخاطبين واستعدادهم للعمل. وثالثها : متح واقتباس الخطاب القرآني من أعرافهم اللغوية وعوائدهم الاستعمالية وعاداتهم الاجتماعية. رابعا : من مقومات الحوار في القرآن الكريم تعاليه عن الشخصنة. وبعيدا عن منطق الشخصنة التي من شأنها أن تجعل القرآن الكريم مرتبطا بمكان أو زمان أو أشخاص محصورين، استعمل في حواره "الاسم الموصول ليعطي قدرة على التجريد، وفصل الشخص عن الحدث، وإعطائه فرصة لكي ينتقل من هذا الموقف إلى ضده. ولو أن القرآن الكريم كان يصاغ بشكل مشخصن، فيذكر أشخاصا بما كان من شأنهم من الصدود والعناد والتصدي للدعوة، ثم يسلم هؤلاء فيصبح النص القرآني غير قادر على الاستمرار حتى في زمانه ومكانه. ولذا وضع قوانين كلية. قال تعالى : "قل سيروا في الأرض فانظروا كان عاقبة المجرمين"النمل69. وقوله: "الذين قال لهم الناس...". وقوله أيضا : "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه...". وقوله : "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها...". قوانين عامة لا يكاد يجد الإنسان إشارة صريحة إلى الحدث إلا عندما يقرأ ذلك في كتب التفسير التي هي حاشية على النص القرآني بمساعدة علوم نقلية هي أسباب النزول، والمكي والمدني، ثم الناسخ والمنسوخ...والقرآن في كل هذا ينطلق من الواقعة ثم يتجرد عنها" . ثم يعضد هذا ما تفطن إليه علماء الشريعة إلى وضع قواعد تنسجم وهذه الروح جعلوها قواعد للتفسير "كالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". لبيان أنها قوانين عامة لا تنحصر ولا تموت ولا تجمد عند الحدث. فالقرآن الكريم إذا ينسجم "نسقيا في استعمالاته ومآلاته مع هذا التوجه العالمي الجديد فيتجرد من كل ما هو خصوصي باستعماله هذا الاسم الموصول 1446 مرة ليتجرد من الأسماء الخاصة، وينعتق من ربقة التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا ليسبح في فضاء المواقف والأعمال والاختيارات، يربط بين أحكامه وسننه وحكمه. فليس هناك قبائل ولا أشخاص، ولا مناطق ولا دول ولا طوائف، ولا نحل ولا أجناس ولا ألوان ولا شعوب ولا جماعات ولا أقوام ولا سلالات، أي لا تخصيص ولا امتيازات، وإنما هي ثلاث مجموعات مفتوحة مرنة، يدخل إليها من شاء باختياره أو يخرج كما شاء، معلقا طائره بعنقه. وهي : "الذين كفروا" و "الذين آمنوا" و "الذين نافقوا". وإنما هي أعمال واختيارات يحاسب بها كل مكلف...وهي قوانين وسنن تسع الأمريكي والصيني، وليس فقط العربي والتركي... وما عدا هذا من اختلاف ألوان وثقافات واجتهادات وميولات، وأذواق واختيارات. فالإسلام لا يضيق بها وإنما يراها نعما وآيات وإبداعات" . فالقرآن يخط قوانين وسنن للحوار تتعالى عن الزمان والمكان، وتنفلت من ربقة وإسار جنس الإنسان –مراعيا الخصوصية- تسبح في عوالم لا يقيدها التاريخ ولا الجغرافيا. خامسا : القرآن يسمو في الحوار عن العنصرية وشعب الله المختار. كثيرا ما تجد القرآن الكريم يعلن وبصراحة أنه مجرد حلقة في سلسلة كتب مصدرها وحي السماء. وهذا بين في قوله تعالى : "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه..." من الآية 48 المائدة. وهو قبل أن يقول : "ومهيمنا عليه". قدم قبلها "مصدقا لما بين يديه من الكتاب". و"ليست الهيمنة هنا إقصاء، وإنما هو التصحيح والتنبيه إلى ما وقع من التحريف في هذه الديانات، وردا لها إلى أصلها المشترك مع الديانة الإسلامية، الذي هو الأصل الإبراهيمي، أو الأصل الآدمي. والدليل على أن الهيمنة هنا هي مفهوم تكاملي وليست مفهوما إقصائيا، هو ما نلمسه على مستوى التصور والسلوك النبويين. قال عليه الصلاة والسلام : "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيئين" . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لدوره ولرسالته ولموقعه موقع لبنة صغيرة في ركن قصي من بيت كبير، وهذا ليس تكاملا فقط، بل هو تواضع كبير. فلا يمكن لدين يرى نفسه مجرد لبنة في بناء ضخم أن ينفي هذا البناء، أو أن يزيله من الوجود بأي شكل من أشكال العنف، لكي يجعل اللبنة بديلا للبيت" . وهذا منتهى نكران الذات منه عليه الصلاة والسلام، الذات الإسلامية الخاتمة لرسالات السماء والمجتباة عليها بلا منازع لا تلغي الخصوصية. ولكن حاجتنا إلى الحوار مع الآخر والتفاعل معه، وبالتالي تحقيق التكامل والانسجام اقتضى هذا الانسلاخ من الأنا. هذا التمرين في إنصاف الآخر في الحوار، وهذا المراس بهذا المستوى العالي من الاحترافية، الذي جسده الرسول صلى الله عليه وسلم إنما استلهمه من شرايين القرآن. روى ابن إسحاق... "أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا، قال يوما وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله عليه الصلاة والسلام جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه إياها شاء ويكف عنا؟ -وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه- ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون- فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا بن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب، وأنك قد آتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد أسمع". قال يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه..أو كما قال..حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : أفرغت يا أبا الوليد ؟" قال : نعم. قال : فاستمع مني. قال : أفعل. قال : "بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته لقوم يعلمون، بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون". ثم مضى ورسول الله صلى الله عليه وسلم- فيها وهو يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. فقام عتبة إل أصحابه فقال : بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالسحر ولا بالشعر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي...خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم" . وهذا الكلام (كلام الوليد) "يبدو في ظاهره مؤدبا. ويبدو عرضا لخيارات واحتمالات فيها شيء من النسبية والإيمان بوجود احتمالات أمام هذه الحالة، ولكنه في العمق هو عين الإقصاء ليس فيه فتح لمجال الحوار الحقيقي، وليس فيه أدب. وهو في العمق عين الاستهزاء. كما أنه يقول للرسول بالعبارة الصريحة : إما أنك أصولي، أو انتهازي، أو مجنون، أو شهواني. يضعه أمام أربعة احتمالات لا أخلاقية. ولم يذكر له احتمالا خامسا، وإن كنت نبيا فأعطينا دليلك...وهو إقصاء في الحقيقة لأنه اتهام بأحط ما يمكن أن يركب الإنسان من أجله الأخطار، وفيه إقصاء حقيقي لمصداقية الرسول صلى الله عليه وسلم. فرأسماله الحقيقي هو صدقه مع نفسه. وليست العظمة في أن النبي صلى الله عليه وسلم تحمل هذا الكلام، وليست العظمة فقط في أنه تركه ينتهي، ولكن النبي صل الله عليه وسلم وصل إلى ذروة ما يحلم به المحاور الحضاري، وهو أن يكمل الآخر رأيه دون أن يقاطعه، دون أن يستفزه، ولكن يزيد شيئا ملائكيا غير موجود عند البشر بل هو موجود عند الأنبياء فيقول له : أوقد فرغت يا أبا الوليد؟ وكأنه يعطيه فرصة أخرى للحوار" . هكذا يخلد النبي صلى الله عليه وسلم للبشرية منهجا في الحوار يتحقق ب"الحضاري" تتخلق به الأجيال السائرة على خطاه، والمفكرون العاضون على سنته، الناهلون من حكمته، ليفتحوا للمخالف الخصم، وللمحاور الذاتي مساحة ومجالا للقول. وسيرا على خطى القرآن الكريم، واقتفاء لمهيعه في الحوار نهج النبي صلى الله عليه وسلم منهجا تكتيكيا –يسمى الحوار التكتيكي- مع سهيل بن عمرو في صلح الحديبية. جاء في الرحيق المختوم "ثم دعا عليه الصلاة والسلام عليا ليكتب الكتاب، فأملى عليه : "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل : أما الرحمن فوالله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب : باسمك اللهم. فأمر النبي صل الله عليه وسلم بذلك. ثم أملى : "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" فقال سهيل : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله فقال : "إني رسول الله وإن كذبتموني"، وأمر عليا أن يكتب محمد بن عبد الله، ويمحوا لفظ رسول الله، فأبى علي أن يمحو هذا اللفظ. فمحاه صلى الله عليه وسلم بيده، ثم تمت كتابة الصحيفة.." إيمانا منه عليه الصلاة والسلام باقتناع هؤلاء واستجابتهم إلى حين، وتحولهم من أعداء ومهاجمين شرسين لهذا الدين إلى منافحين مدافعين عنه، على نوع من الفدائية العالية. وانعكس هذا المنهج القرآني للحوار في تاريخنا الإسلامي تصورا وممارسة على عدة مستويات، في أدب المناظرة، وأدب الاختلاف، ووجدنا أنفسنا أمام ما يسمى "أممية مرنة". ولم يقم فقيه من الفقهاء على الإطلاق ليقول: لا لهذه المرونة في الحوار، ولا لهذا التنوع والاختلاف. ووجدنا رجلا مثل الإمام الشافعي يقول : "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". هذا التواضع العلمي الذي تخلق به العلماء، وهم الذين بنوا علومهم على البراهين والاستدلال يجعلونها محفوفة بمخاطر الخطأ، والرأي الآخر المؤسس على الهوى البعيد عن العلمية محفوفا بالصواب. إن جمالية الحوار التي رسم القرآن الكريم معالمها بقدر ما هي فن من الفنون الأدبية المفيدة في حسن التواصل، بقدر ما هي إستراتيجية لمشروع ضخم اقتفاء أثرها هو الذي ساعد المسلمين في الصدر الأول من الإسلام أن ينتقلوا من الدعوة إلى الدولة، ومن التسخير إلى التمكين، والإمساك بزمام هذا اليوم، هو ما يساعد الأمة الإسلامية على تجاوز نقط مفاشلها ومقتلها وتمزقها، إلى وحدتها وانفتاحها على الأمم الأخرى من جديد. الهوامش: 1سنن الترمذي رقم الحديث 2007. 2حديث الشبهات قناة الرأي محمد العوضي بتاريخ 09-12-2013 . 3في ظلال القرآن سيد قطب 5 \2905 سورة سبأ. 4السيرة النبوية لإبن هشام 1\184. 5أخرجه أحمد رقم 16998. 4\103. والحاكم في المستدرك رقم8326. 4\477. وقال هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. 6في أصول الحوار وتجديد علم الكلام د طه عبد الرحمن ص 57. 7حديث الشبهات قناة الرأي محمد العوضي 09\12\2013. 8 الموافقات في أصول الشريعة للإمام الشاطبي 2/53 54 . 9الرسالة لمحمد بن إدريس الشافعي ص 26 28 . 10الرسالة 51 52 . 11الموافقات 2/57 58 . 12في أصول الحوار وتجديد علم الكلام طه عبد الرحمن ص50. 13 الموافقات 2/59 . 14الموافقات 2/60 . 15كيف نتعامل مع القرآن العظيم د يوسف القرضاوي ط الأولى 1422ه/2001م مؤسسة الرسالة ص511. 16 البرهان للزركشي 1/279 . 17حديث الشبهات قناة الرأي محمد العوضي 16\12\2013. 18حديث الشبهات قناة الرأي محمد العوضي 16\12\2013. 19أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين. 20الإسلام وقبول الآخر المقرئ أبو زيد الإدريسي التجديد 19\06\2009. 21في ظلال القرآن سيد قطب م 5\ 3116. سورة فصلت الآية 13. 22لغة الحوار في القرآن الكريم أبو زيد الإدريسي. 23الرحيق المختوم تأليف صفي الرحمن المباركفوري ص 298-299. دار ابن الجوزي القاهرة.