تعيش البشرية فترة من أكثر الفترات دموية في التاريخ، مع انتشار القتل بشكل فاحش، ومع بعض العقوبات المتطرفة. ويحق لنا أن نُقِرّ باهتزاز المقاربة الإنسانية، المتمحورة حول مفهوم حقوق الإنسان، طالما لم تنخرط البشرية في العمل على إبطال عقوبة الإعدام. فنحن ماضون في اتجاه الفشل على مستوى التحكيم، و"النجاح" في إشعال فتيل النزاعات الدموية، لتجسيد عدالة مدمرة. فما أحوجنا إلى صوت العقل لندرك "أنه من الأفضل أن يتم تبرئة ألفٍ من المذنبين، على أن يحكم على إنسان بريء بالإعدام"، خاصة في غياب تأكد مطلق، قد يقود إلى إدانة شخص على هوى القاضي. رجعت بي الذاكرة إلى مقولة مأثورة عن "فولتير" عندما أَلَمَّت به وعكة صحية في آخر أيامه: "أنا الآن على شفا الموت، وأنا أعبد الله، وأحب أصدقائي، ولا أكره أعدائي، وأمقت الخرافات"، وامتد التذكر لأسترجع ما نسب إليه من قول مشهور: "قد أختلف معك في الرأي، لكني على استعداد أن أموت دفاعا عن رأيك"، وكأني به يوجه الكلام لأولئك الذين لا تتسع صدورهم لوجودنا معهم في هذا الكون، فقط لأننا ننظر إلى الوجود بشكل مغاير. ولأن الإنسان خلَّد العديد من المواقف الإنسانية في تاريخ البشرية، ولأن صفوة من الناس ما فتئت تُذكِّر بما تراكم في جميع الحضارات من تراث جميل ومفيد، فإني بصدق لا أعلن فقط إدانتي للحكم، بل استعدادي لتأدية عقوبة الإعدام بدلا من "مرسي وإخوانه"، فقط لبعث الروح في النزعة الإنسانية المفتقدة، وإعادة الاعتبار للإخلاص لما نقره باللسان ونصدقه بالعقل والقلب، وفقط لدحر كل أشكال التفكير والتكفير والإفتاء بالقتل. وسواء أكان "مرسي" أو كنت "أنا" محله: هل من العدل إلهيا وإنسانيا أن نلخِّص القصة في نهاية ممهورة بسلب الحق في الحياة لأحد يريد فقط تجسيد فِكْرَة ما على أرض الواقع، خلال تنافس سياسي بين فرقاء، يفترض فيهم إخلاص النية لحب الوطن؟ هنا أستحضر اعتراض "فيكتور هوجو" على هذه العقوبة في روايته "Le Dernier Jour d'un condamné"، وهي الرواية التي مثلت شكلا من أشكال مناهضة الإعدام، وحملت قيمة سياسية تمتح من المقاربة الإنسانية لمعالجة المشاكل التي تتخبط فيها البشرية. أفلم تتفطن هذه البشرية بَعْدُ، لهذا الإجراء القضائي المسمى ب "حكم"؟ وهو يحيلنا على عقوبة معناها إحالة وجود موجود إلى العدم، وإزهاق روحه بوحشية مختلفة باختلاف "الشرائع" و "القوانين" و "الأعراف". ألسنا إزاء استئصال لإنسان من المجتمع على نحو قطعي ونهائي؟ ألهذا الحد تغلغل في دواخلنا الميل نحو عدم قبول الآخر؟ لقد تَمَكّن منا الشعور بالحقد والكراهية تجاه بعضنا البعض، ووصلنا المنتهى كي نرجع إلى الأقفاص الأفغانية المعلقة المخصصة لإهدار الحق في الحياة، وعجلة التكسير، والسلق حتى الموت، وسلخ الجلد، والتشريح البطيء، ونزع الأحشاء، والصلب، والخوزقة، والسحق تحت أقدام الفيل، والرجم، والحرق، وتقطيع الأوصال، وقطع الرأس، والتعفن... الفكرة أساسا ينبغي أن تكون بسيطة، وهي مناهضة أي قانون دموي وكل القوانين الوحشية، والغاية أبسط، وهي تهذيب موقف "العامَّة" السائد والراضخ لعقوبة الإعدام، بفعل أسباب ومسببات التمييز وما خربته الذاتية في الانطلاق والإطلاقية في التفكير وعدم قبول الآخر في حال الاختلاف والكراهية والعنف في حال المقارعة، وما كرسته من نبذ أي ميل إلى العمق الإنساني في أبعاده القيمية. لقد صدق "جورج أورويل" حين قال في إحدى رواياته: "إنه لأمر غريب حقا؛ فحتى هذه اللحظة، لم أتمكن من إدراك الحكمة وراء تدمير حياة رجل كان ينعم بالوعي والصحة. عندما رأيت السجين وهو يخطو ليتجنب قطع الثلج المتساقطة، رأيت اللغز والخطأ الفادح المتمثل في إنهاء حياة شخص وهو في ريعان قوته. هذا الرجل لم يكن قاب قوسين أو أدنى من الموت، بل كان ينبض بالحياة مثلما كنا". فما الإعدام إذن، إن لم يكن قتلا؟ وهل يمكن ل"إجراء قضائي" أن يتمتع بكل هذه السلطة كي يخرج الإعدام من دائرة القتل؟ ومتى كان القتل عقابا أو ردعا أو منعا لحالات العود؟ وكيف لا نخجل من تطبيق هذا "الإجراء" أو الدفاع عنه؟ أي مذهب سياسي هذا أو نطاق ثقافي لا زال يسمح بهذا الظلم الذي يطال الأفراد ولو أنهم مخطئون؟ ألم يكن الأجدر أن نعلن ميثاقا دوليا للحقوق الأساسية يمنع تطبيق هذه العقوبة؟ ألم يكن الأجدر بهيئة الأممالمتحدة أن تكون في صدارة من يدفع في اتجاه إصدار قرار ملزم من أجل إلغاء عقوبة الإعدام؟ ألم تستطع المنظومة الإنسانية لحد الساعة أن ترفع هذا الحيف على الذين لا زالوا يعيشون في دول تطبق هذه العقوبة؟ أشك اليوم في صدق المشاعر المعبر عنها في الحملات "التضامنية" ضد إعدامات "داعش" في سوريا والعراق، وأعيد النظر فيما إذا كان قد بقي للبشرية من حس تجاه كرامة الإنسان ذاته، وأقطع اليقين بالشك حول ما إذا كانت لقيمة التسامح مكانة في العلاقات الإنسانية. ألا يُعَد حكم الإعدام مدخلا للدولة من أجل شرعنة تصفية المخالفين في الفكر والرأي والموقف و...؟ ألا يعتبر الحكم مدخلا لرياح إباحة قتل أبناء الوطن بحجج شتى وباطلة؟ ألا يصب الحكم في شرعنة إرهاب الدول تجاه الجماعات والأفراد؟ أليس الأنفع البحث عن سبل تجاوز الأوضاع المتوترة بالحوار والتفاهم والتفاوض والتشارك...؟ المبدأ أن يكون كل أبناء البشرية أبرياء أمام عقوبة الإعدام، فلا تحيز ضد الأقليات والفقراء، ولا ردع للمجرمين بهذه العقوبة، بل فقط هناك شرعنة وتشجيع لثقافة العنف، وانتهاك سافر لحقوق الإنسان. ولا مصلحة عامة للبشرية وشعوبها ودولها في عقوبة الإعدام، بل هي موقدة للدوافع الشريرة والمخاطر الأخلاقية المزكية لوحشية السلوك العام. والمطلوب اليوم، ليس هو تعليق تطبيق العقوبة، أو حظر استخدامها في بعض الظروف والحالات، بل منعها وإلغاؤها حماية لحقوق الإنسان وحرياته، ومن أجل ذلك ينبغي أن يقوم تحالف عالمي قائم أساسا على فكرة الامتناع عن تدمير الحياة، وعلى مهمة مناهضة عقوبة الإعدام في كل الدول التي لا زالت تقرها في قوانينها المحلية. ليس هناك ما يبرر القتل أو التسبب فيه، وينبغي العمل على تجنب كل أشكال وصيغ العنف تجاه كل البشر، وعقوبة الإعدام لا يفسرها سوى دافع واحد أساسي هو الانتقام، وعلينا واجب الإدانة والمناهضة، دون أي تمييز بيننا.