لا تَعْنِيني اللُّغَة، باعتبارها أداةً للِتَّوَاصُل، أو «الكلام»، بالأحرى. اللُّغَةُ التي تَهُمُّنِي، هي اللغة التي يمكن أن تُتِيحَ لي حُرِّيَة ابْتِكار المعاني والدَّلالاتِ، وابْتِكار الأفكار والخَيالات. يمكن أن يكون هذا في العامِّيَةِ، بتنوُّعات أساليبها، وبنيات تَخاطُبِها، كما يمكنهُ أن يكون في الأمازيغية، يتَنوُّعات أساليبها، وبنياتِ تخاطُبها، أيضاً. فكُلّ وسائلِ التَّعبير، يمكنها أن تَكون فُرْصَةً لاختلاق هذه الحُرِّيَة في لكلام، وفي التَّخيُّل، وابْتِداع الجُمَل والصُّوَر والتَّعابير. لا لُغَةَ تَعْلُو على لُغَةٍ، ولا لُغَةَ أفْضَل من لغةٍ. فقط، هُناك لُغات تكون فيها مِسَاحَة الحُرِّيَة في التَّعبير والابْتِكار، أكبر وأوْسَع من غيرها، ليس لأنَّ هذه اللّغات فيها طاقات تعبيرية هائلة، وهذا قد يكون موجوداً، وهو موجود، فعلاً، في عدد من اللُّغات، بل إنَّ الأمْرَ يعود، بالدَّرَجَة الأولى، إلى الإنسان، إلى طاقَةِ التَّخٌييل عند هذا الإنسان، وما يمكن ن يُحْدِثَه من اخْتِراقاتٍ في قلب هذه اللُّغَة، التي لا تكون، في طبيعتِها، ولا في رُؤْيةِ الإنسان لها، مَسْكونةً بالثَّوابِت، وبالمُقَدَّساتِ، بالمحضورات التي هي بين أخطر ما يَشُلُّ اللُّغَةً، ويُعْطِبُها، وتُصْبِح لُغَةً عَرْجاءَ، مَشْيُها غير مُتوازِنٍ، أو لا تَسيرُ وفق إيقاع الطريق، بما في الطريق مِنْ لِوًى ومُنْعَرَجاتٍ، وبما فيها من مُرتفعاتٍ ومُنْحدَراتٍ، أو من مَطَبَّاتٍ ومُنْزَلَقاتٍ. العربية التي نُريدُ اليوم، أن نُحوِّلَها إلى مِشْجَبٍ نُعَلِّق عليه فَشَلَنا، وما يَعْتَرِينا من ضُعْفٍ وَوَهَنٍ، هي لُغَةٌ: أوَّلاً: تَحَدَّرَتْ من تاريخ جَمالِيٍّ بعيد، وعميق في دَمِ الإنسان، وفي لَحْمِه وجِسْمِه. ومَنْ يَخْتَبِرْ صيرورةَ هذه اللُّغَةِ، في نُصوصِها الأولى، أو النَّصوص التي وَصَلَتْنا، باعتبارها أولى، ويقيس وتيرةَ التَّحوُّلاتِ التي وَقَعَتْ فيها، سيجد أنَّ هذه اللُّغَة، لَمْ تَتوَقَّف وتَتَجمَّد، في لحظة من لَحظاتِ هذا الماضي، بل إنَّ تعبيراتِها عَرَفَتْ تَنوُّعاتٍ كبيرةً، في نحوها، وصرفها، وفي أوزانها، وصِيَغِها الصّرفية، وكانت لغة تتوسَّع بنفس تَوَسُّع القبائل، وما أضْفاه عليها الشُّعراء، والخُطباء، وحتَّى الكُهَّان، في أسْجاعهم من تنوُّعاتٍ ذاتِ أهمية خاصَّة، وهو ما سُيُتَوِّجُه القرآن، بابْتداع طريقة في الكلام، وهو نص شفاهي، بالدرجة الأولى، لم تَكُن مَطْرُوقَةً عند العرب، أو في الجزيرة العربية، شمالها وجنوبها. رُبَّما، اليهود والمسيحيين، أو «النَّصارى»، بالتَّعبير المعروف آنذاك، كانوا يعرفون مثل هذا الأسلوب، أو ما يقترب منه في كتبهم الدينية المُقَدَّسَة، مثل التوارت والإنجيل، لكن عند العرب، أن يكون الكلام، لا هُو شعر ولا هو نثر، فهذا كان جديداً، وغريباً، خصوصاً في بيئة ثقافية، كان فيها الشَّاعِر، معروفاً، ومُحدَّد الصِّفات والمعالم، وله وضْعٌ اعتباري، لم يكن يَحْضَى به غيره. من هنا حَدَثَ الخَلْط، في مواجهة غير المُؤْمِنين لِلْمُؤْمنِين، للرَّسول خاصَّةً بالشِّعر، الذي بَلَغَ الأمر فيه إلى التَّحْريض على قَتْلِ، صاحب «نهج البُرْدَة»، قبل أن يتراجع عن هجائه للرسول، ويُنْشِد قصيدته هذه، التي جَبَّتْ ما سبقها، وخَرَجَتْ به إلى الحياة، بعد أن كان مهدداً بالقَتْل. ثانياً: النَّظَر إلى العربية، باعتبارها لغةَ القرآن، دون التَّمْييز بين أسلوب القرآن، وأسلوب غيره ممن يتناوبُون على الكتابة بنفس اللغة، كان بين العوامل التي أدَّتْ إلى وضع المعايير الكُبرى، التي هي أُطُر، ونوع من المُصادَرَة على التَّنوُّعات والاقتراحات التي كانتْ مُتاحةً قبل هذا التاريخ. فالنحو، والبلاغة، والعَروض، وما ظهر من «قواعد» و «معايير»، إبَّان ما عُرِفَ بزمن التَّدوين، بما في ذلك المُعْجَم، و«لسان العرب» لابن منظور، خير دليل على ذلك، كانت، في جوهرها، نوعاً من تَقْيِيد العربية، و «حمايت»ها! من «الدَّخِيل»، الذي اعْتَبَرَهُ التأْصِلِيُون، من أسباب تحريف اللغةِ، وانْحِرافِها، ما دَفَعَ البعض، من هؤلاء، إلى ابتكار فكرة «لغة القرآن»، حتَّى لا يبقى هناك أي قَدْر من الاختراقات، أو ابْتِداع المعاني والدَّلالاتِ. ثالثاً: دور الأتراك العثمانيين السِّلبِي، في خَنْق العربية، وفي تَهْجِينِها، والاسْتِهانَة بها، أو اسْتِعْمالِها بطريقة غير مفيدة في تطويرها، ولا في الحفاظ على جمالياتها، وأيضاً، خَنْقِهِم للثقافة والحضارة العربِيَيْن، كان أحد أسباب، انْحِسار العربية، في فترةٍ ما، أو ما أصبَحْنا نعتبره إجمالاً، دون تمحيصٍ، ولا بحث وتَقَصٍّ، انحطاطاً. فما اعْتُبِرَ بَعْثاً وإحياءاً، أو «نَهضَةً»، هو حاصِل هذا التَّرَدِّي، الذي كان سقوط بغداد، على يَدِ جنكيز خان، وجيشه من المغوليين، هو العلامة الفارِقَة، في انتقال الحضارة والثقافة العربِيَيْن، من لحظة الأوْج والسُّمُوّ، إلى لَحْظَةِ الانْحِدار والذُّبُول. لا يمكن إخْفاء تاريخ العربية وراء ماضٍ دون ماضٍ. فثمَّة من هذا الماضي ما كان ماضِياً بالمعنى العلمي. وهذا المعنى لم يتحقَّق بالذَّوبَان في التقنية، وفي الاستهلاك، ولا في تبرير الرِّبْح والخَسارة بالبقاء في الدِّين أو في تَرْكِه. هذه كلها أشياء لا تَمُتّ للمعرفة بصلة، وهي تبريرات، وتحليلات فارغة من تاريخها، ومن المعطيات والحقائق. فبقدر ما تكون الحقيقة نسبيةً، بقدر ما ينبغي أن تكون مشفوعةً، في أقل تقدير، بالوثيقة، وبمعرفة التاريخ، أو السعي لمعرفته، على الأقل، وهذا ما لم يحدث، في نظرنا للعربية، التي اعتبرناها لغةً للكلام، دون أن نكون باحثين في تاريخها الجمالي والإبداعي، وفي ما رَاكَمَتْه من نصوص، وعلوم، ومعارف. القرآن، مثلاً، حين نقرأه ككتاب، لا كمُعتقدات، ولا كرُقًى نَسْتَعِين بها من «السِّحْر»، أو من «النار» طمعاً في الجنة. سنعرف قيمة فكره، وقيمة المعاني والصُّوَر، وما ابْتَكره من مجازاتٍ، هي تعبير عن دور اللغة في التأثير في الإنسان، وفي عقل وفكر ووجدان هذا الإنسان. الرسول لم يُحْيِ العظام وهي رَمِيم، بل أحْيَى الكلام، وأضْفَى عليه ما لم يكن فيه من قبل، وهذه هي معجزته، التي ما يزال النص يَشْهَد على قيمتها التعبيرية الخارقة والعظيمة. نفس الشيء يمكن أن نقوله على «الفصول والغايات» لأبي العلاء المعري، و «الإشارات الإلهية» لأبي حيان التوحيدي، وكتابات النِّفَّرِيّ، وشعر المتنبي، وأبي تمام، والمعري نفسه، ناهيك عن الجَسَارة التي يُقْدِم عليها اليوم، عدد من الشُّعراء والرِّوائيِّين والكُتَّاب، في مختلف حقول لمعرفة والإبداع. إذا كانت النصوص التي نقرأها في المقررات المدرسية لا ترقى إلى هذا المستوى العميق والبعيد للغة العربية، فهذا من سُوء اختيار الذين أشْرَفُوا على هذه المقررات، فلا يمكن نَقْل أعطابهم إلى اللغة، ما دام المشكل موجود في منهجية الاختيار، والنظر إلى اللغة بمعايير جاهزة، لا تسمح بالحرية والابتكار، أو تكتفي بالاستعادة والتِّكرار. وإذا كانت طُرُق التدريس، وإقْراء النصوص وتحليلها، غير مفيدة، أو لا تسمح بنتائج ملموسة، فهذا أيضاً يعود إلى من في يدهم مصائر التلاميذ والطلبة، ولا يهمهم، في النهاية، سوى شَحْن التلاميذ، دون التركيز على العقل والخيال، باعتبرهما أهم ما نحتاجُه في الانتقال من الحَشْوِ والاسْتِظهار، إلى اقتراح البرامج والتَّصَوُّرات، في الأدب وفي العلوم، مهما تكن اللغة. فاللغة تَحعيا، أو تموتُ، بحياة أصحابها، أو بموتهم، ونحن اليوم، في الإجمال، شبه مَيِّتِين، أو ما نزال في غيبوبَةٍ طويلة، لم نخرج منها بعد. أذكر، وأنا طالب ببغداد، أنَّ كليات العلوم، بما فيها كلية الطب، كانت مُعَرَّبَةً، وكانت الإنجليزية لغة ضرورية، للترجمة، ومُواءَمَة المفاهيم والمصطلحات، وقد بلغ العراق، في سنوات الثمانينيات، ما بلغه في التعليم من تقدُّم، لا يمكن إنكاره. لكن استثمار هذه الطاقات، من مهندسين وأطباء، درسوا العلوم باللغة العربية، كان في غير التطور والتقدم، وفي غير خدمة الإنسان، ما جَنَى على البلاد كاملةً، وهاهي، إلى اليوم، تحصد نتائج هذا الاستعمال السَّيِّء للعقول. لا تُزايِدوا علينا بالعربية التي لا تَمْلِكُون تاريخها، ماضيها ولا حاضرها، ولا تملكون تراثَها، ولا عظمة الفكر الذي أَنْتَجَتْه. لنعمل جميعاً على توسيع فَهْمِنا للأعطاب، وهي أعطاب بشرية، لا أعطاب كامنة في العربية أو في الأمازيغية. هذه كلها مُغالطات وسخافات، يبدو أننا في غِنًى عنها، خصوصاً حين يكون الدافع إليها هو التَّفْرِقَة، وتجزيء المُجَزَّأ، أو الدعوة إلى التَّخَنْدُقات المذهبية والطائفية، التي تُفْضِي في النِّهاية إلى اللاَّدَوْلَةَ، التي نرى نتائجها، بشكل جَلِيّ، في ما يجري في العراق وفي لبنان، وفي اليمن، وفي سوريا. فهذا أمر علينا الانتباه إليه، والوعي به، والحَذَر من نتائجه، فإخفاق غيرنا، أو خساراته، تفرض علينا أن نستوعبَ الدرس جيِّداً، وأن نعمل، دون أحقاد، للبحث عن مَواطِن الخلل، والتفكير، جِدِّياً، في الحلول، أو ابتكار الحلول النَّاجِعَة، للخروج من هذه الشَّرْنَقَة التي دَخَلْنا فيها، دون أن نُدْرِك حَجْم ما نُضَيِّعُه من وَقْتٍ، وما نُضَيِّعُه من طاقاتٍ وإمْكاناتٍ.