يعد خيار الإنتخاب أحد أهم أركان الديموقراطية في تعاريفها الفقهية الدستورية. لهذا برزت أهمية طريقة إختيار القضاة الثلاثة الكبار و الذين هم الرئيس المنتدب و الوكيل العام للملك و رئيس الغرفة الاولى لدى محكمة النقض. حيث تثير الطريقة المتوقعة لاختيارهم تساؤلات كبرى في الوسط القضائي لحساسية تلك الطريقة و تبعاتها القضائية و أيضا السياسية. حيث إنهم يعتبرون أعضاء فوق العادة في المجلس الأعلى للسلطة القضائية المرتقب. هذا علما أنه في التاريخ القريب، عرفت الكثير من الانظمة القضائية كفرنسا على سبيل المثال لا الحصر، نظام القاضي المنتخب في المدة الممتدة من سنة 1790 الى 1802. وقد كان نظام الانتخاب ذلك في الأغلب مرتبطا بولايات قصيرة لا تتعدى مدة أربع سنوات لتعزيز مفهوم تجديد النخب و التداول على المناصب. و لعل هذا السبب بالذات هو سر إقتراح جمعية نادي قضاة المغرب الرامي إلى إنتخاب الثلاثة و تحديد ولايتهم في أربع سنوات غير قابلة للتجديد. إن ألية الانتخاب كوسيلة لإختيار القضاة الثلاثة الكبار لا تخلو من مخاطر كأي ألية اختيار أخرى. لكن إذا كان بعضها يجسد الخشية من تغول الجسم القضائي و السيطرة عليه من قبل لوبيات المال و الاعمال، فإنني أعتقد جازما أن تلك الفزاعات هي في أغلبها أعذار واهية و إن تضمنت حقا مخاطر فتبقى قابلة للمحاصرة. أذكر أنه في ظل سياسة التعيينات منذ الاستقلال و قبله، سقطت العديد من المواقع تحت سلطة التحكم و الافساد و الفساد . و لعل نهضة القضاة الشباب خلال العقد الأخير و تحديهم للتغول و الافساد لخير ضمانة لحسن انتخاب ممثلي كل الجسم القضائي في المجلس المرتقب. فبمقابل تسفيه ألية الانتخاب و الارهاب منها، تعد تلك الألية أفضل وسيلة لربط المسؤولية بالمحاسبة و تفادي التشكيك في حياد القضاة الكبار و السيطرة عليهم عن بعد من طرف من رشحهم للتعيين من قبل رئيس الدولة في تلك المناصب. فليس من المنطق في شيء ترك حزب سياسي معين أو عدة أحزاب أو حتى حكومة أو مجرد بضعة أشخاص نافذين بقبعة سياسية أن يختاروا من بين سير نساء مرشحات و مرشحين عوض 4000 قاضية و قاض غير مسيسين يبتون في مصائر البلاد و العباد، إختيروا وفق معايير الكفاءة و بعد البحث الدقيق في سيرهم الذاتية و خضعوا طيلة مشوارهم للمراقبة اللصيقة و التفتيش الدقيق إلا ما ندر علما أن النادر لا حكم له و لا يقاس عليه و لا يخاف منه. أقول أيضا بهذا الخصوص، أن إنتخاب القضاة الكبار من قبل نساء و رجال القضاء هي أفضل ضمانة حمائية من التلون الحزبي لأولئك المنتخبين المحتملين، الذين قد يرغبون في الحصول على مقاعدهم في المؤسسة المرتقبة؛ مع ما قد يوازي ذلك من خطاب سياسوي و خروج عن واجب الحياد تجاه جميع الفرقاء السياسيين في الوطن. فالعديد من الدارسين يرون أن التعيين المباشر هو مدخل للزبونية و الانتهازية و سبب واضح للمزايدت الخفية و المعلنة في تقديم فروض الوفاء لمن سيقترحهم للتعيين. من هنا تتجلى أهمية الانتخاب في ضمان مفهوم إستقلال القضاء كسلطة. علما أن مفهوم هذه الأخيرة مرتبط بالانتخاب الذي يضفي الشرعية. و لعل ذلك هو سبب أن رئيسي السلطتين التشريعية و التنفيذية يختاران بالاقتراع. أشير كذلك، أن أهم مزايا حرية الاختيار من قبل القضاة، هي تعزيز مساهمة الكتلة الناخبة في الاقتراح و المشاركة في تسيير شؤونها القضائية و تشجيع ثقافة التشاركية و الاستشارة التي اتى بها الدستور. إنها ألية أساسية لتقريب المجلس المرتقب من القضاة. هذا التقارب في نظري سيكون في منحاه الايجابي و لن يحول مطلقا في اقتناعي الصميم قرارات المجلس الى رهينة للكتلة الناخبة، لكنه سيحد بشكل أكيد أيضا من مخاطر السيطرة على ذلك المجلس من قبل شخصيات من خارج السلك القضائي ذات خلفيات سياسية بامتياز. إن تبعية الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض و الوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية لوزير العدل و تعيينهم حقيقة من قبله ، أدت في الماضي والحاضر الى إتهام الجسم القضائي بعدم الحياد في كل مرة تعلق الأمر بمتابعة أو عدم متابعة أحد المنتسبين لعالم السياسة. إذن فإعتماد إنتخاب أعلى منصب في هرم النيابة العامة سيمنح الجسم القضائي المزيد من الشرعية و الاستقلالية و التقدير لدى المواطنين و الفرقاء السياسيين أنفسهم. هذه الزوايا الجديدة في مقاربة الاختيار في المناصب العليا القضائية يجب أن لا ترعب الكثير، فهي الية عادية و طبيعية انتهجت و تنتهج في الولاياتالمتحدةالأمريكية و العديد من الاقطار في العالم وهي تجربة لها تطبيقاتها في المغرب، مع اختلاف تكوين المنتخبين و الظروف و إكراهات الازمنة الماضية من قبيل تجربة حكام الجماعات و مستشاري نزاعات الشغل سابقا و هي أيضا التجربة المعتمدة في العديد من الهيئات الجنائية في العالم . إن مشروع القانون التنظيمي للمجلس الاعلى للسلطة القضائية هو الان بيدي البرلمان، و إن كان هذا المقال يهدف الى تسليط الضوء على هذا الجانب الاستراتيجي و المصيري بالنسبة للقضاء و الوطن و الذي يعد مدخلا من مداخل انجاح تجربة المؤسسات الناظمة، فإنه ليس الغاية منه لي ذراع البرلمانيين أو إجبارهم على تبني أفكاره فلكل مرجعياته و صلاحياته. أرجو فقط من المشرع التطرق الى الجزئيات التي تناولها بالتفصيل و عدم تركها للمجهول و إن كنت مؤمنا أن للقضاة أيضا كلمتهم و هامش مناورتهم الواسعة و إيماني عميق بأن في جعبتهم الكثير من الخيارات في مواجهة أي استبداد محتمل قادم. عضو منخرط بجمعية نادي قضاة المغرب