ما فتئ إصلاح القضاء يستأثر باهتمام النقاش العمومي، كما أنه طالما حظي باهتمام خاص في الخطب الملكية عدة مرات، لكن هذا الملف ظل يراوح مكانه دون أي بادرة أمل لإصلاح ملموس. وأمام تعذر هذا الإصلاح أعاد الإعلان عن الإصلاحات الدستورية النقاش حول القضاء إلى الواجهة على اعتبار أن الإصلاح الدستوري مدخل أساسي للإصلاح القضائي، لكون الدستور الحالي لا يضمن بما فيه الكفاية استقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية. وبالفعل، ففضلا عن كون هذا الدستور لا يقر بسلطة قضائية مستقلة فإنه يسند مهمة نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء إلى وزير العدل، وهو ما يؤدي عبر الممارسة إلى المس بفصل السلط من خلال تدخل وزير العدل في تدبير شؤون القضاة (الترقية، الانتدابات، الأمر بمهمات تفتيش القضاة...). ونظرا إلى ما يترتب عن هذه الوضعية من تأثير على استقلالية القضاء فإن الجميع يتطلع إلى تكريس هذه الاستقلالية في الدستور المرتقب بكيفية تؤدي إلى الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة عن باقي السلطات، وهو الهدف الذي تضمنه المرتكز الثالث من المرتكزات السبع للإصلاح الدستوري المعلن عنه في الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011 . ولئن كانت اقتراحات الأحزاب السياسية المقدمة إلى اللجنة المكلفة بتعديل الدستور تجمع على إسناد رئاسة المجلس الأعلى للقضاء إلى الملك فإنها تتباين فيما بينها حول مسألتين: الأولى تتعلق بمن يتولى مهمة نائب رئيس هذا المجلس، فالاتجاه الأول يقترح إسناد هذه المهمة إلى الرئيس الأول للمجلس الأعلى، أما الاتجاه الثاني فيقترح إسنادها إلى شخصية أخرى، إما عن طريق التعيين أو عن طريق الانتخاب. أما المسألة الثانية فتتعلق بكيفية تأليف المجلس الأعلى للقضاء، ذلك أنه في الوقت الذي يقترح فيه البعض اقتصار العضوية في هذا المجلس على القضاة عن طريق الانتخاب، يقترح البعض الآخر انفتاح المجلس على فعاليات أخرى خارج السلك القضائي. ومن الملاحظ أن أغلب القضاة يرفضون هذا الاقتراح الأخير لكونه من جهة يؤدي إلى إقحام أطراف أجنبية عن الجسم القضائي في تدبير الشأن القضائي، وهي آلية لا مثيل لها في السلطة التشريعية ولا في السلطة التنفيذية لكون السلطتين معا تستأثران بتدبير شؤونهما دون تدخل أية أطراف أخرى، ومن جهة أخرى قد يؤدي إلى تسييس المجلس بسبب إسناد العضوية فيه لأطراف قد تكون لها انتماءات سياسية أو قد توظف عضويتها لأغراض سياسية وهو ما يتعارض مع حياد المؤسسة واستقلاليتها. وإذا كان من المؤكد أن هذا الاقتراح قد تم اقتباسه من بعض النماذج الغربية فإنه يبدو من المفيد عرض بعض هذه النماذج للمساهمة في إثراء النقاش حول هذا الموضوع. ففي فرنسا يتكون المجلس الأعلى للقضاء، حسب الفصل 65 من الدستور، من تشكيلتين، الأولى تختص بقضاة الأحكام يرأسها الرئيس الأول لمحكمة النقض وتضم 5 قضاة بالإضافة إلى قاض من النيابة العامة ومستشار من مجلس الدولة ومحام و6 أعضاء لا ينتمون للبرلمان ولا للقضاء أو للإدارة، ويتولى رئيس الجمهورية تعيين اثنين منهم فيما يتولى كل من رئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ تعيين الأعضاء الآخرين بعد رأي اللجنة البرلمانية الدائمة المختصة. وتختص التشكيلة الثانية بقضاة النيابة العامة ويرأسها الوكيل العام بمحكمة النقض وتتألف من 5 قضاة للنيابة العامة وقاض للحكم بالإضافة إلى نفس الأعضاء الآخرين المنتمين للتشكيلة الأولى. أما في إسبانيا فالمجلس العام للسلطة القضائية يترأسه طبقا للفصل 122 من الدستور رئيس المحكمة العليا ويتألف من 20 عضوا يعينهم الملك لمدة 5 سنوات، 12 عضوا منهم يتم اختيارهم من بين القضاة من مختلف الهيئات القضائية، و8 أعضاء باقتراح من الكورتيس (النواب والشيوخ) بعد انتخابهم بأغلبية ثلاثة أخماس من بين المحامين ورجال القانون الذين لهم تجربة تفوق 15 سنة. وفي إيطاليا، فإنه بمقتضى الفصل 104 من الدستور يترأس رئيس الجمهورية المجلس الأعلى للقضاء ويعتبر الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام بها عضوين في هذا المجلس بحكم القانون. أما الأعضاء الآخرون فيتم انتخاب الثلثين منهم لمدة أربع سنوات من طرف مختلف فئات القضاة في حين ينتخب الثلث الآخر من طرف البرلمان من بين أساتذة القانون والمحامين الذين يتوفرون على 15 سنة من التجربة. وينتخب المجلس نائبا للرئيس من بين الأعضاء المنبثقين عن البرلمان. وطبقا للفصل 218 من الدستور البرتغالي يتولى رئيس المحكمة العليا للقضاء رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، ويتكون هذا الأخير من عضوين يعينهما رئيس الجمهورية وسبعة أعضاء ينتخبهم البرلمان وسبعة قضاة منتخبين من طرف مختلف فئات القضاة حسب التمثيل النسبي. ما يمكن استنتاجه من مختلف هذه النماذج المقارنة هو انفتاح المجلس الأعلى للقضاء على عضوية فعاليات خارج النطاق القضائي، وتتجلى فائدة هذا الانفتاح في مظهرين: المظهر الأول يرتبط بدعم القوة التمثيلية للمجلس بكيفية تساهم في تعزيز الثقة في القضاء وتقوية قدرات المجلس وتطوير أدائه بفضل تنوع وتعدد روافده وما يترتب عن ذلك كله من إثراء للآراء والتصورات المؤدية إلى الارتقاء بمعالجة الملفات وتدبير شؤون القضاة بكيفية تكفل المساواة والتحفيز والاستقلالية . أما المظهر الثاني فيتعلق بإضفاء مصداقية أكثر على هذه المؤسسة لكون إشراك الفعاليات الحقوقية أو القانونية في تدبير المجلس يضمن الالتزام بمواصفات الوضوح والشفافية سواء بالنسبة إلى القضاة أو بالنسبة للرأي العام وهو ما يساهم بالفعل في الدول التي تأخذ بهذه الآلية، في تفادي الانتقادات وتناسل الإشاعات التي من شأنها المس بسمعة القضاء ومكانته في المجتمع. فالسلطة القضائية تختلف عن السلطتين التشريعية والتنفيذية في كونها الضامن لإقرار العدالة باعتبارها عماد سلطة الدولة لما تكفله من سمو للقانون وحماية الحقوق والحريات، ومن تم فالقضاء ليس شأنا خاصا بالقضاة بل يهم ليس فقط مؤسسات الدولة ولكنه يهم مختلف فئات المجتمع. ومن المؤكد أن إدراك مختلف هذه الأبعاد هو الذي يبرر تكريس النماذج المقارنة لانفتاح المجلس الأعلى للقضاء. وإذا كان تخوف القضاة من الانفتاح يستند، كما سبقت الإشارة، إلى إمكانية تسييس المجلس فهذا الاحتمال يبقى واردا ما لم يتم وضع ضوابط دقيقة لتفادي الانزلاقات، فالتخوف من التسييس يترجم حالة عدم الارتياح التي تخلفها التعيينات في المناصب في عدد من المؤسسات لكونها تخضع في الغالب لمعايير يختلط فيها السياسي بالعائلي. وأمام عدم التخلص من هذه الظاهرة فإنه يخشى انتقال العدوى إلى التشكيلة المقترحة للمجلس الأعلى للقضاء وهو ما من شأنه أن تكون له عواقب معاكسة. لكن، لا بد من الانتباه إلى أن استقلالية القضاء لا يمكن أن تختزل في إقرار تشكيلة جديدة للمجلس الأعلى للقضاء بل لا بد من اعتماد مقاربة متكاملة ترتكز على الآليات التالية: الآلية الأولى تتعلق بفك الارتباط العضوي والوظيفي مع وزارة العدل بكيفية يصبح معها المجلس الأعلى للقضاء مؤسسة مستقلة إداريا وماليا. ومن المؤكد أن هذه الاستقلالية لن تترسخ أكثر سوى عن طريق إسناد مهمة نائب رئيس هذا المجلس إلى شخصية معينة أو منتخبة عوض رئيس المجلس الأعلى كما يقترح البعض. يضاف إلى ذلك اتساع نطاق اختصاصات المجلس إلى تحديد أخلاقيات المهنة ومراقبتها وتفتيش القضاة وإبداء الرأي حول السياسة القضائية والجنائية وسير العدالة. الآلية الثانية تتعلق بفك ارتباط الشرطة القضائية بوزارة الداخلية والدرك الملكي وإخضاعها إداريا للمجلس الأعلى للقضاء ووظيفيا لسلطة النيابة العامة بالمحاكم. ففي غياب ذلك سيظل القضاء يتحمل وزر الأخطاء والتجاوزات التي يرتكبها ضباط هذه الشرطة أثناء ممارستهم لمهامهم، فلئن كانوا يقومون بذلك من الناحية القانونية تحت إشراف النيابة العامة (وهو نموذج مقتبس من النظام الفرنسي) فإن الممارسة تثبت في كثير من الحالات خروقات جسيمة تنعكس سلبا على سلامة الأحكام ونزاهتها، إذ تبقى سلطة القاضي مقيدة إلى أبعد الحدود بمضامين محاضر أجهزة تخضع لسلطة رئاسية مستقلة. لتفادي هذه الوضعية ينص الدستور الإيطالي في فصله 109 على أن السلطة القضائية تتوفر مباشرة على الشرطة القضائية. كما أن الدستور الإسباني في فصله 126 ينص على أن الشرطة القضائية تتبع للقضاة وللمحاكم وللنيابة العامة في ما يتعلق بالبحث حول الجنح والكشف عن المتهمين وإيقافهم . الآلية الثالثة تتعلق بضمانات القاضي المستقل والنزيه عن طريق دعم آليات حصانته وحمايته أثناء ممارسته لمهامه ومراجعة كيفية تقييم القضاة من أجل ضمان استقلالية القاضي في علاقته مع السلطة الرئاسية. وموازاة مع الضمانات الدستورية بات من الضروري تحديد النظام الأساسي للقضاة بمقتضى قانون تنظيمي كما هو الشأن في عدد من الدول (فرنساوإسبانيا) بالإضافة إلى الاهتمام بتحسين الوضعية المادية للقضاة بكيفية تكفل وقايتهم ضد كافة أشكال الإغراء مع مراعاة النزاهة والاستقامة في ما يتعلق بالمكافأة والتحفيز، وبالمقابل تفعيل أدوات المساءلة والزجر، ولم لا الاعتراف بالانتماء النقابي للقضاة كما هو الشأن في فرنسا (8500 قاض في المجموع يوزعون على نقابتين). هذه مجموعة من المداخل الأساسية لاستقلالية القضاء وتحديثه بكيفية تستجيب لتطلعات الجميع إلى قضاء قوي ونزيه وفوق الشبهات ويساهم بفعالية في حماية الحقوق والحريات وفي إرساء دعائم المجتمع الديمقراطي الحداثي.