أعاد الإعلان عن الإصلاح الدستوري النقاش حول الفصل 19 من الدستور الى الواجهة. وإذا كانت دائرة هذا النقاش في السابق تنحصر في النخبة السياسية ورجال الفقه والقانون، فإن ما يميز هذا النقاش في الوقت الحاضر أنه أصبح يستأثر باهتمام فئات جديدة من المجتمع وانتقل الجدل إلى الشارع، وأصبحت الآراء متباينة بين مؤيد ومنتقد لهذا الفصل . ويمكن رصد هذه الآراء حسب ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول: يؤيد الحفاظ على مقتضيات الفصل 19 في الدستور ويعتبرها ضمانة أساسية لتوازن المؤسسات ودعامة لاستقرار واستمرار الدولة. الاتجاه الثاني: يتردد في إعلان موقف واضح حول الموضوع، وينحصر هذا الاتجاه في بعض التيارات المترددة في الكشف عن مواقفها والدفاع عنها بجرأة ووضوح. الاتجاه الثالث: يطالب بإلغاء الفصل 19، لكونه يشكل دستورا داخل الدستور، لما ينص عليه من صلاحيات واسعة للملك تجعل من النظام المغربي ملكية رئاسية. وأمام تباين هذه الاتجاهات، يجد المتتبع للنقاش العمومي حول الموضوع صعوبة في بناء استنتاج مدعم بأدلة مقنعة وفهم تضارب المواقف، كما أن الباحث يتيه في طرح الأسئلة حول تباين الآراء ما بين المؤيدين والمعارضين للفصل 19 . فهناك من الأحزاب المدافعة عن هذا الفصل ترى أنه لو لم يكن الدستور المغربي يتضمن هذا الفصل لطالبت بالنص عليه، أما المعارضون فيرون أنه لا يمكن القيام بإصلاح دستوري جوهري وحقيقي في ظل الحفاظ على الفصل 19. وأمام هذا التباين في المواقف، يبدو من المفيد البحث عن مبررات الفصل 19 في الدستور المغربي من أجل تقييم موضوعي لهذه المواقف. فالملك يمارس مهمة رئيس الدولة في النظام المغربي، وهي مهمة يمارسها في دول أخرى الملوك في الأنظمة الملكية كإسبانيا، والرؤساء في الأنظمة الجمهورية كإيطاليا وألمانيا، ومن ثمة، يطرح التساؤل حول مدى إسناد الفصل 19 للملك سلطات خاصة ومتميزة عما تكرسه دساتير الدول الأخرى. ومن المؤكد أن المنطلق البديهي لهذا التحليل ينبغي أن يتمحور حول مقارنة النظام السياسي المغربي مع الأنظمة الدولية الديمقراطية ذات الدساتير الحديثة، باعتبار أن أي تصور لإقامة نظام سياسي ديمقراطي، لكي يكون سليما وواقعيا، لا بد أن يستمد ركائزه من الأنظمة الناجحة في العالم. ومن شأن هذا المنطق أن يؤدي الى تفادي الافتراضات والأحكام المسبقة. وللتأمل فقط، يمكن الاقتصار على دساتير بعض الدول الأوربية التي لا يشكك أي أحد في الطابع الديمقراطي للأنظمة المنبثقة عنها. فطبقا للدستور الإسباني (الفصل 56) الملك هو رئيس الدولة، وهو رمز وحدتها واستمراريتها، وهو الحكم والضامن للسير العادي للمؤسسات، ويتولى التمثيل الأسمى للدولة الإسبانية في علاقاتها الخارجية... ويمارس المهام المسندة إليه صراحة بمقتضى الدستور والقوانين. أما الدستور الايطالي (الفصل 87)، فينص على أن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، وهو الذي يمثل الوحدة الوطنية ... وهو قائد القوات المسلحة... ويترأس المجلس الأعلى للقضاء. وفيما يتعلق بالدستور الفرنسي (الفصل 5)، فإن رئيس الجمهورية يسهر على احترام الدستور. ويضمن بواسطة تحكيمه السير العادي للسلطات العمومية، وكذا استمرارية الدولة. وهو ضامن الاستقلال الوطني والوحدة الترابية واحترام المعاهدات. وفي البرتغال، يمثل الرئيس الجمهورية البرتغالية ويضمن الاستقلال الوطني ووحدة الدولة والسير العادي للمؤسسات الديمقراطية، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة (الفصل 120 من الدستور). وفي النرويج تسند السلطة التنفيذية إلى الملك (الفصل 3 من الدستور)، أما في الدنمارك، فيمارس الملك السلطة العليا على كل شؤون المملكة، ويمارس هذه السلطة عن طريق الوزراء، وأنه غير مسؤول وشخصه مقدس (الفصل 12 و13 من الدستور). أمام مختلف هذه الصلاحيات التي تسندها الدساتير في الديمقراطيات الغربية الى الملوك والرؤساء، دون أن يحتج أو يطالب أي أحد بالحد منها أو تقييدها، لابد من عرض مقتضيات الفصل 19 لمقارنتها مع المضامين المماثلة في الدساتير سالفة الذكر. فالفصل 19 ينص على أن الملك هو أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة. ويمكن من خلال المقارنة استنتاج أربع ملاحظات: الملاحظة الأولى: تتجلى في إسناد الفصل 19 للملك إمارة المؤمنين وحماية حمى الدين، وهي سلطة دينية لا توجد في الأنظمة المقارنة السالفة. ويرجع السبب في ذلك إلى كون الأنظمة المقارنة علمانية، في حين الدستور المغربي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة. ومن هذا المنطلق، لا بد من سلطة تتولى حماية الدين، ولا يمكن تصور سلطة أخرى للقيام بهذه الوظيفة غير الملك، لكون العلاقة بين المواطنين والملك تستند إلى رابطة البيعة، وهي تستمد جذورها ومرتكزاتها من النظام الإسلامي، ولا يعني ذلك المس بحرية من هو غير مسلم في ممارسة شعائره الدينية، لكون هذه الحرية يضمنها نفس الدستور بنصه على أن الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية (الفصل 6). ولذلك، فالمطالبة بإلغاء إمارة المؤمنين لا تستند إلى أساس سليم، وتنطوي على مخاطر وخيمة. فالمطلوب، على خلاف ذلك، تكريس السلطة الدينية للملك بكيفية أكثر وضوحا لإعطائها بعدا حقيقيا ومدلولا متميزا يضمن استئثار الملك بالسلطة الدينية، بما يكفل سلطة التشريع في الحقل الديني، وهو طرح منطقي وسليم في دولة إسلامية. وللمقارنة تذهب دساتير بعض الدول الغربية ذات الأنظمة الديمقراطية العريقة الى أكثر من ذلك، منها الدستور الدنماركي الذي يشترط في فصله السادس ضرورة انتماء الملك للكنيسة الإنجيلية اللوثرية، والدستور النرويجي الذي يفرض في فصله الرابع على الملك ضرورة ممارسة الديانة الإنجيلية اللوثرية بكيفية دائمة، والالتزام بصيانتها وحمايتها. الملاحظة الثانية: تتمثل في كون المقتضيات الأخرى التي يتضمنها الفصل 19 هي مقتضيات مماثلة لما تنص عليه الدساتير المقارنة. ويمكن تدقيق هذا التماثل كما يلي: رمز وحدة الأمة وضامن دوام الدولة واستمرارها: نفس هذه المقتضيات ينص عليها الفصل 56 من الدستور الإسباني. وينص الدستور الفرنسي على أن الرئيس هو الضامن لاستمرارية الدولة. الساهر على احترام الدستور: نفس هذه الصلاحية ينص عليها الفصل 5 من الدستور الفرنسي. الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة: الدستور الفرنسي (الفصل 5) والدستور البرتغالي (الفصل 120). ويستنتج من هذه المقارنة أن الفصل 19 لا يتضمن ما يفيد أنه استثنائي أو فريد من نوعه، بل يقتصر على تكريس ما هو متعارف عليه في الدساتير الديمقراطية. أما الملاحظة الثالثة، فتتعلق بالمقتضيات التي تختلف صياغتها مقارنة مع مقتضيات مماثلة تنصرف للدلالة على نفس المعنى في النماذج المقارنة وتنحصر أساسا في عبارة «الممثل الأسمى للأمة «، ذلك أن الدستور الإسباني يستعمل عبارة الممثل الأسمى للدولة الإسبانية، والدستور الإيطالي يستعمل عبارة رئيس الدولة هو الذي يمثل الوحدة الوطنية. ولتفادي هذا الاختلاف وحرصا على الملاءمة ومواكبة التطور الذي عرفه بناء الدولة المغربية وانتقالها إلى دولة الحق والمؤسسات، فإنه لإزالة الالتباس يبدو من المفيد تغيير «الأمة» ب«الدولة». وتتركز الملاحظة الرابعة حول الصلاحيات التي تتضمنها الدساتير المقارنة ولا يتضمنها الفصل 19، ويتعلق الأمر بما ينص عليه الدستور الإسباني فيما يخص اعتبار الملك رئيسا للدولة، وهي نفس الصلاحية التي تسندها الدساتير الأخرى صراحة لرؤساء الجمهوريات. كما أن الفصل 19 لا يتضمن النص على مسألة التحكيم وضمان السير العادي للمؤسسات. ما يمكن استنتاجه مما سبق، أنه باستثناء إمارة المؤمنين، فإن الفصل 19 يقتصر على تكريس نفس الصلاحيات التي تسندها الدساتير الديمقراطية لرؤساء الدول، سواء كانوا ملوكا أو رؤساء جمهوريات، بل إن هناك دساتير تضيف لهؤلاء صلاحيات لا يتضمنها هذا الفصل، ومع ذلك لا تثير هذه الدساتير جذلا بالحجم الذي يثيره الفصل 19، وهو ما يصعب فهمه. فربما يرجع الأمر الى التشريع بناء على هذا الفصل، وما يترتب عن ذلك من تحجيم للسلطات الأخرى، وفي حالة ما إذا كان هذا الافتراض صائبا، فإنه يمكن معالجته بجرأة في نطاق الإصلاحات الدستورية المرتقبة. وبالفعل، فإنه أمام اتساع سلطات الوزير الأول، باعتباره سيصبح رئيسا لسلطة تنفيذية فعلية، وبالمقابل العمل على اتساع مجال القانون، فإنه لا يمكن وضع حد لهذا النقاش إلا عن طريق تحديد مسطرة خاصة للتشريع في المجالات غير الدينية، بالاستناد إلى هذا الفصل ترتكز، كما هو الشأن في مختلف الدساتير المقارنة الديمقراطية، على التوقيع بالعطف من قبل الوزير الأول لتحديد المسؤولية، مادام الملك غير مسؤول وشخصه مقدس، وهما صفتان تكرسهما دساتير عدد من الدول ذات الأنظمة الديمقراطية العريقة (النرويج الفصل 5 والدنمارك الفصل 13 وإسبانيا الفصل 56). محمد حنين