تناولت في المقالة السابقة سببا من أسباب التطرف، والذي يتمثل في الرغبة الشديدية في خدمة الإسلام، والرغبة نفسها ليست شيئا مذموما كما بينت، بل هي مطلوبة بالعكس. إلا أن العمل الذي نريد أن نقدمه للإسلام يجب أن يكون مشروعا كذلك، والذي يحدد شرعية أو عدو شرعية العمل هم العلماء. لكن المتطرفين مع الأسف، يأتون بالطوام، ويقومون بأعمال يظنونها في خدمة الإسلام وهي ليست كذلك، لأنهم لم يسألوا أهل العلم عن حكم الشرع فيها، ولم يولوا اعتبارا لأقوالهم وآرائهم، وذلك لأمر يعتبر أيضا من أهم أسباب التطرف والإرهاب، ألا وهو: 2- سوء الظن بالمخالف (وخاصة العلماء) يبرر المتشددون عدم رجوعهم إلى العلماء المعتبرين عند عموم الأمة بأن أولئك العلماء ليسوا أهلا للسؤال والإفتاء، فهم إما علماء سلطان باعوا آخرتهم بعرض من الحياة الدنيا وأصبحوا يحلون ويحرمون حسب طلب ورغبة الحاكم، أو مبتدعون متبعون لللأهواء مخالفون لمنهج السلف الصالح، وليسوا علماء أهل السنة والجماعة الذين يوثق ويعمل بعلمهم! وفي كلتي الحالتين -حسب المتطرفين- فهؤلاء العلماء فاقدون للأهلية والثقة، ولا يصلحون بالتالي لقيادة الأمة وتوجيهها. وبدل أن يأخذوا عنهم ويستفتوهم، إذا بهم يحذرون منهم، وربما كفروهم وقتلوهم. فاختلافهم معهم أسقط هؤلاء العلماء حقوقهم وأحل أعراضهم وربما دماءهم! موقف المتطرفين هذا، يكاد يطال كل علماء الأمة من خريجي أشهر الجامعات والكليات الإسلامية، وحاملي أعلى الشهادات في التخصصات الفقهية، حتى وإن ألفوا عشرات الكتب، وشهدت لهم الأمة بعمومها بالعلم والدين، فهم في رأي المتطرفين ليسوا كذلك، ولم يبق عالم معتبر إلا ولهم عليه مأخذ، أسقطوا بسببه أهليته وحجيته . إن النتيجة التي ترتبت وتترتب على إساءة الظن بالعلماء كارثية بكل المقاييس. إن سوء الظن بالعلماء وإقصاءهم من الساحة يحدث فراغا وفوضى على مستوى المرجعية الشرعية للأمة، وسيحاول الجهال والانتهازيون ملء ذلك الفراغ، فيتصدرون أمور الفتوى فيحلون ويحرمون وينهون ويأمرون وهم ليسوا أهلا لذلك، فيضلون ويضلون. وهذا ما حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". إن هذا الوضع الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم لينطبق الآن على الكثير من الجماعات المتطرفة، حيث قبض العلم الشرعي "الفقه" في ساحتهم بسبب إساءتهم الظن بالعلماء المخالفين لهم وإقصائهم والإعراض عن أقوالهم واستبدالهم برؤوس جهال من أبناء الحركة أو التنظيم، الذين يقلون علما وفهما عن غيرهم من المخالفين لإيديولوجية التنظيم، والنتيجة أنك تجد تنظيما يعد أتباعه بعشرات الآلاف وليس فيهم فقيه شرعي معروف مشهود له بالعلم والفقه في الدين! فتنتشر بين أتباع التنظيم أفعال وأحوال غريبة، وتحدث من قبلهم باسم الدين مخالفات شنيعة، تتعارض مع ما اعتاده المسلمون، وكل هذا بسبب سوء الظن بالعلماء. وأنا أناقش أحدهم مرة، ورد على لساني ذكر عالم من علماء الأمة- ألف الكثير من الكتب وترأس العديد من المجامع الفقهية، وحاصل على أعلى الشهادات العلمية- فلم يستسغ صاحبي ورود اسم ذلك العالم على لساني، فقال: أتقرأ لهذا الشخص؟ إنه ضال مبتدع متبع للهوى، يحكم العقل ويترك النصوص، وقد أحل الربا التي حرم الله! قلت له: إن الذي يحل ما حرم الله قد أنكر معلوما من الدين بالضرورة، ومن فعل ذلك، فليس ضالا أو مبتدعا فحسب، بل لقد كفر، فهل تعي ما تقول؟ بدأ صاحبي يتلعثم، فقلت له: لدي اقتراح: بحوزتي عشرات الكتب التي ألفها هذا "الإسم" الذي نتناقش حوله، سآتيك ببعضها، وخذ ما يكفيك من الوقت على أن تأتيني بعد ذلك من هذه الكتب وبالتدقيق بالفتاوى والآراء التي وجدت أنه فعلا خالف فيها النصوص واتبع الهوى، -اقترحت هذا وانا أعلم أن صاحبي لن يستطيع قراءة سطر واحد مما كتبه العالم دون أخطاء نحوية، وحتى إن قرأ فلن يفهم جل ما سيقرأه لأن بضاعته في العلم مزجاة - قال سأفعل، فلما هممت بالانصراف لآتيه ببعض الكتب، ناداني أخونا فقال: أظن أن الأمر لا يحتاج كل هذا-لعله تذكر للتو ضعف مستواه-. قلت له: بل يحتاج الأمر أكثر من هذا، إنكك تتهم الشخص بتهم غليظة، إنه اتباع الهوى والإبتداع في الدين وتحليل الحرام! وسيحاسبك الله على ذلك يوم القيامة، فلا بد أن تكون على بينة مما تقول فقال لي حينها: "لا يمكن أن يتكلم فيه أهل العلم وأهل الجرح والتعديل إلا إذا كان فعلا كذلك". كم من العلماء استبيحت أعراضهم، وشوهت سمعتهم وبخست بضاعتهم وظلموا ظلما شديدا بسبب هذه الجملة "فلان قال فيه أهل الجرح والتعديل، وفلان حذر منه أهل العلم...". إن المعروف أن يحكم أهل العلم على الأفعال والقضايا والمسائل،أي: هذا الفعل حكمه كذا، أو قال الله فيه كذا وكذا. أما الحكم على الأشخاص بل وعلى العلماء منهم بالذات بناء على ظنون وأوهام ووشايات، أو ربما بدافع الغيرة والحسد، فإذا لم تكن تلك هي الغيبة التي حرمها الله، فما هي الغيبة إذا؟ إن الذي له الحق في الحكم على الأشخاص هم القضاة وليس العلماء. والقاضي لا يحكم إلا إذا استدعى المتهم وسمع منه وناقشه وأعطاه فرصة الدفاع عن نفسه. فأين هؤلاء الذين امتهنوا سوء الظن بالعلماء والطعن فيهم من هذا كله؟ إن سوء الظن معناه أن يعتقد المسلم السوء في أخيه، وينسب إليه الشر والمعاصي دون تثبت ودون دليل قطعي، والدليل القطعي هو الدليل المعتبر شرعا، وهو الذي يستطيع الإنسان أن يدين به المتهم أمام القضاء، أو يستطيع أن يحاج به عن نفسه حينما يخاصمه ذلك الشخص الذي أساء به الظن بين يدي رب العزة، فينادي المظلوم ربه قائلا: يا رب اسأله لم اتهمني؟ يا رب أنت تعلم كم لحقني من الأذى بسبب سوء ظنه؟ لقد شوه سمعتي، وأساء إلى علاقاتي....اسأله يا رب هل رآني؟ هل سمعني؟ هل شق عن قلبي؟. أريد يا رب أن تقتص لي منه بما ظلمني! فانظر حينها يا من تبرر سوء ظنك بإخوانك (وخاصة العلماء منهم) الآن في الدنيا بمبررات أوهى من بيت العنكبوت، هل تصمد تلك المبررات في ذلك الموقف؟ خاصة إذا اتبعت سوء الظن بإطالة اللسان في عرض المتهم، أو ترتب على سوء الظن حرمان الشخص من حقوقه الشرعية، كحرمان الأمة من علمه. إن الكثير منا يطلق العنان لمخيلته الشيطانية، فيحاكم الناس بناء على أحقاد و وشايات، أو إشاعات وشبهات، ثم يصير يتجسس على من أساء بهم الظن ويتتبع عوراتهم ويبحث عن أخطائهم بل ويتصيدها ويفرح بها متى وجدها ليؤكد أن ظنه السيء كان في محله، ناسيا أنه سيسأل أمام الله عن الصغيرة والكبيرة، قال تعالى:(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء:36. في ثنايا حديثي مع أحدهم حول موضوع التشدد والعنف، ورد ذكر اسم أحد الشيوخ المشهورين على الساحة، الشيخ هذا كان معروفا بمواقفه الحادة تجاه الحكام والمخالفين، ومباركته لبعض الأعمال الأرهابية، مما أدى إلى محاكمته وإصدار عقوبة حبسية طويلة في حقه، إلا أنه أفرج عنه قبل انقضاء مدة حكمه، وبعد خروجه من السجن تغيرت مواقفه كثيرا، وأصبح مواليا للحاكم راضيا عنه، وتغيرت لغته تجاه المخالفين أيضا، فأصبح أقرب إلى الاعتدال والتوسط منه إلى التطرف والتشدد. فسر الشخص الذي كنت أتحادث معه هذا التغير في موقف الشيخ بأنه جريمة في حق الدين، وأنه ارتداد عن الحق وارتماء في أحضان الباطل، سببه الإغراء بالمال والمناصب من قبل السلطة، أو صفقات سرية جرت بين الطرفين أفضت إلى هذا التحول الكبير في مواقف الشيخ! قلت له: لا أحد ينكر أن الشيخ قد تغير فعلا، والكثير من العلماء والدعاة غيروا ويغيرون مواقفهم، لكن ما سبب هذا التغير؟ لماذا لا نحسن الظن به ونقول: ربما بدا له ما لم يكن باديا من قبل من أدلة وحيثيات وأحوال جعلته يقلب الأمور وينظر فيها من جديد فاقتنع فعلا بأنه كان على خطإ وبأن الصواب هو ما عليه الآن؟ ما الذي يمنع أن تكون هذه الفرضية هي الحقيقة فعلا؟ خاصة وأن هذا هو ما يصرح به الشيخ نفسه، والإسلام أمرنا أن ناخذ الناس بظواهرهم ولا نفتش في نياتهم؟ لماذا نفترض السوء في النية دائما، ما دام لنا في الخير محمل، بل محامل كثيرة تغنينا عن سوء الظن؟ إن العلماء ليسوا معصومين بالطبع، ولا يشترط في أي عالم أن لا يخطئ أبدا حتى يكون أهلا للثقة، وقد علمنا أسلافنا أن الكل يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن واجب العلماء أن ينصحوا بعضهم مراعين واجبات الأخوة وآداب النصيحة، وتاريخنا الإسلامي حافل بالكثير من المواقف التي اختلف فيها العلماء فناقش بعضهم بعضا بأدب واحترام و دون اتهام للنوايا. ومن حق المسلم العادي الذي لم يبلغ درجة من العلم تمكنه من مناقشة العلماء والترجيح بين أقوالهم أن يقتدي ببعضهم دون بعض إذا اختلفوا، حسب ما ارتاحت إليه نفسه واطمأن له قلبه، لكن ليس من حقه أبدا أن يربط المسألة بالقرب والبعد من الله فيقول إن هذا العالم أقرب إلى الله من ذك، ما دام الخلاف وقع في أمور تدخل في نطاق الإجتهاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». فبنص هذا الحديث الصحيح فإن العالم المتمكن من علمه المخلص لربه إذا بذل جهده في والوصول إلى الحق، لكن لم يوفق في ذلك وأتى حكمه مخالفا للصواب، فإنه لا يأثم أبدا، بل سيجزيه الله أجرا على جهده الذي بذله في الوصول إلى الحق وعلى رغبته الصادقة في ذلك، وسيتجاوز الله عن خطإه الذي وقع فيه. لماذا لا يسع علماءنا منا ما وسعهم من هذا الحديث؟ أجران للمصيب وأجر للمخطئ؟؟ إن أمة لا تحترم علماءها لن يبارك الله فيها أبدا. وإن للعلماء عموما، ولفقهاء الشريعة خصوصا مكانة عظيمة في الإسلام لا تضاهيها أية مكانة، لذلك أوجب الإسلام احترامهم وتقديرهم، وحرم إذايتهم واحتقارهم، قال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" روى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله أنهما قالا: "إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي". وقال الشافعي: "الفقهاء العاملون". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (من آذى فقيها فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله عز وجل). وقال ابن عساكر:" إن لحوم العلماء مسومة، وسنة الله في منتقصهم معلومة". إن المقصود من كلامي ليس في الحقيقة الدعوة إلى احتكار مجموعة من الناس للدين كما سيتوهم البعض، كلا، إن الذي أدعو إليه هو احترام التخصص في المجال الفقهي، فكما نحترم أهل الإختصاص في مجال السياسة والإقتصاد والطب، يجب أن نحترو تخصص الفقه في الدين كذلك، ولا يتطفل على هذا المجال من ليس له أهلا، فيضل ويضل. إن الإنسان ليستغرب من هؤلاء الذين يقومون بأعمال تستهدف أمن الناس وأعراضهم ودماءهم، أو يدعون إلى ذلك أو يباركونه، بينما كل أو جل علماء الأمة يحرمون ذلك ويجرمونه: هل كل الأمة بعلمائها جهال إلا أنتم؟ هل كلهم ضالون إلا أنتم؟ هل أنتم وحدكم من تحملون هم الأمة ونصرة الإسلام؟ هل هؤلاء الملايين من عمار المساجد وطلبة العلم وحملة القرآن وحجاج بيت الله الحرام... هل كل هؤلاء لا يفهمون ولا يعرفون؟ أذكركم وأذكر نفسي بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم "من قال هلك الناس فهو أهلكهم"، فلا تسيئوا الظن بمن خالفكم من المسلمين، فعموم المسلمين وعلماءهم يحبون دينهم ويريدون خدمته، وهم مستعدون للتضحية من أجله، ولكنهم يفهمون الأمور ويقدرونها حسب قناعاتهم و بطريقة تختلف عن طريقتكم، والله إنما يحاسب الناس على قناعاتهم هم وليس على قناعات غيرهم، فلا تبخسوا من خالفكم رأيه، وقد يكون الحق معه! [email protected]