﴿لَا أُقسم بهذا البلد! وأنتَ حِلٌّ بهذا البَلَد! ووالِدٍ وما وَلَد! لقد خلقنا الإنسان في كَبَد! أَيَحْسَبُ أنْ لَنْ يَقْدِرَ عليه أحد؟! يقول: «أَهْلكتُ مالًا لُبَدًا!»، أَيَحْسبُ أنْ لَمْ يَرَهُ أَحد؟! أَلَمْ نجعلْ له عَيْنَيْن؟! ولسانًا وشَفَتَيْن! وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْن! فَلَا ﭐقْتَحَمَ العَقَبَة! وما أَدْراكَ ما العَقَبَة؟! فَكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ في يومٍ ذِي مَسْغَبة، يَتيمًا ذَا مَقْربَة أوْ مِسكينًا ذَا مَتْرَبة! ثُمّ كان من الذين آمنوا وتواصَوْا بالصَّبْر وتواصَوْا بالمَرْحَمة![...]﴾ (البلد: 1-17) «لا يُمكن أن تَتحدَّد الحُرِّيَّةُ فقط بغياب العَقَبات الخارجيّة، لِأَنه يُمكنُ أيضًا أن تكون [ثَمّةَ] عَقَباتٌ داخليّة. وأكثر من هذا، فإنّ هذه العَقَبات الدّاخليّة لا يُمكن ببساطةٍ أن تُختزَل في تلك التي يَتعرَّفُها المرءُ بأَنّها كذلك، على النّحو الذي يَكُون به صاحبَ القرار الأخير في الموضوع، وقد يكون مُخطِئًا تمامًا بشأن غاياته الخاصّة وما يَأْمُلُ أن يَنْبِذَهُ. وحينما يكون هذا حالَه، فإنّه يُعَدّ أقلَّ قُدْرةً على الحُرِّيّة بمعناها التامّ. لَا نَستطيعُ، إذًا، أن نَستمرَّ في ﭐدِّعاء أنّ أحكامَ المرء عن حُرِّيّته الخاصّة لا تقبل التَّصْحيح أَبدًا، لأنّه لا يُستبعدُ أن يكون شخصٌ آخر أَعْرَفَ منه بها [...]. ومن هُنا، فنحن مُجْبَرُون على التّخلِّي عن الحُرِّيّة مُتصوَّرة كإِمْكانٍ خالصٍ.» (تشالز تيلور، «ما الذي لَا يَستقيمُ في الحُرِّيّة السَّلْبيّة؟» [1979: 228؛ 1997 و1999: 282]) «"من زاد من علمه، زاد من أَلَمه"، [كما] كان يقول ديكارت. والتّفاؤُل العَفَوِيَّانِيّ لِﭑجتماعيّاتِيِّيِ ﭐلحُرِّيّة ليس في الغالب سوى أَثرٍ للجهل. إِنّ العلم الاجتماعيّ يُدمِّرُ كثيرًا من التَّضْليلَات، ولكنّه [يُدمِّر] أيضا كثيرًا من الأوهام. وإنّي أَشُكُّ، رغم ذلك، في أن تكون [هناك] أيُّ حُرِّيّة أُخرى حقيقيّة غير تلك التي تَجعلُها مُمكنةً معرفةُ الضّرُورة.» (ﭙيير بُورديو، مسائل في علم الاجتماع، الأصل الفرنسي، 1984، ص. 77) على الرّغم من أنّ «بادئَ الرَّأْي» يُدْرِكُ بما يكفي أنه في أيِّ فعلٍ من أفعاله يَخْضعُ عادةً لجُملةٍ من «القُيود» و«الحُدود» المُرتبطة بجسده (في تَبَعيّته، كعُضْوِيّةٍ حَيّةٍ، لشُروطٍ بِيئيّة ضروريّة) ونفسه (بشهواتها وأَهوائها) ومُجتمعه (بأعرافه وقوانينه) وعصره (بإمكاناته ووسائله وإخْفاقاته)، فإنّه لا يكاد يَتصوّر «الحُرِّيّةَ» إِلَّا باعتبارها «ﭐنعدامَ كُلِّ القُيود والحُدود المُمكِنة على وُجود الإنسان وفعله». وإنّ تَصوُّر «الحُرِّيّة» على هذا «النّحْو السَّلْبيّ» (أيْ بنفي وُجود أيِّ قَيْدٍ أو حَدٍّ) لَيُمثِّل «الوهم الأكبر» في حياة مُعظم النّاس، من حيث يبدو أَنّهم يَغْفُلون عن كونهم موجودين في هذا «العالَم» بشُروطه الضروريّة التي هي - في الحقيقة- مجموعةٌ من «القُيود» و«الحُدود» المُحيطة بوُجودهم وفعلهم ضمنه. وإنّ هذا الوهم ليزدادُ خُطورةً في المدى الذي صار مُسيطرًا الخطاب الحالِم المُرتبط، فِكْرَوِيًّا وطُوبَوِيًّا، بِما عُرِفَ حديثًا ب«حقوق الإنسان»؛ وهو الخطاب الذي يُعزِّز ذاك الوهمَ فيَمنعُ من رُؤية «النّحو الإيجابيّ» الذي لا تكون «الحُرِّيّة» مُمكنةً من دونه. إذْ حتّى لو ﭐنْعدمت كل «القُيود» و«الحُدود»، فإنّ الفعلَ لا يَصيرُ قابلًا للتّحقُّق إِلّا على أساس توفُّر «الأسباب» و«الوسائل» الموضوعيّة التي تُؤسِّس ذاتيًّا «القُدرة» وتُفعِّل «الإرادة». وقد يكفي إدراكُ ذَيْنِكَ الأَمرَيْن (شُيوع التّصوُّر السَّلْبيّ وغياب التصوُّر الإيجابيّ) لِتَبيُّن أنّ ما يَلُوكه كثيرُون عن «الحُرِّيّة» لا يُعبِّر إِلَّا عن كونهم، في آنٍ واحدٍ، أَسْرَى ل«وَهْم الحُرِّيّة الأكبر» («الحُرِّيّة» مُتصوَّرة ك«ﭐنْعدام لكُلِّ القُيود والحُدود») وضحايا لتَضْليلٍ خِطابيٍّ يُغيِّب الشُّرُوط الواقعيّة المُحدِّدة لسَيْرورة «التَّحْرير/التّحرُّر»! حقًّا، إنّه لمن الشّائع أن يُنظَر إلى «الحُرِّية» كما لو كانت الشّرْط المُؤسِّس لوُجود «الإنسان» ككائن مُتميِّز («الذّات» كجوهر واعٍ وحُرٍّ). والحال أنّه إذَا كان لا بُدّ من حفظ معنى «الحُرِّيّة» كشَرْط، فإنّ ما يَفْرض نفسَه في الواقع الإنسانيّ إنّما هو كون «الحُرِّيّة» لا تتحقّق موضوعيًّا إِلَّا باعتبار أنّها «حُرِّيّة مشروطة» بالشّكل الذي يقتضي تحديدَها بصفتها – كما يُؤكِّد "بُورديو"- «حُرِّيّة تحت الإِكْراه»؛ ذلك بأنّ ما يبدو من «التِّلْقائيّة» في الفعل الإنسانيّ يُعَدّ الوجهَ الذي تُخفي به «الضّرُورة» نفسَها لكونها قد صارت مُتقمَّصةً ومُسْتدخَلةً من قِبَل «الفاعل» الذي بقدر ما يَخْضَعُ (ويُخْضَعُ) لمجموع الشُّروط الاجتماعيّة والثقافيّة المُحدِّدة موضوعيًّا لتّكوُّنه وتَنْشئته يكون مدفوعًا إلى أن يَعيش وَضْعَه كأنّه طبيعيٌّ وبديهيٌّ بما يُنْسِيه واقعَ (وتاريخَ) «الضّرُورة» خارج نفسه وداخلها. ولعلّ مِمّا يدعو إلى الانفكاك عن «وَهْم الحُرِّيّة الأكبر» أنّ مفهوم «الذّات» كما أُقيمَ في العصر الحديث («الذّات» بصفتها ذلك «الجوهر» القائم بنفسه والمُستقلّ عن غيره) قد أُشْبِعَ نَقْضًا منذ نحو قرنين؛ وهو النّقْض الذي أُنْجزَ، بالخُصوص، مع ثُلاثيّ الارتياب ("ماركس"، "نيتشه" و"فرويد"). وإلَّا، فإنّ الفكر المُعاصر لم يَفعل أكثر من تأكيد «موت الإنسان» بالتّخلِّي عن مفهوم «الذّات» لصالحِ مَفاهيم «البِنْيات» و«العَلاقات» و«الأَنْساق». لكنْ، لا يبدو أنّ أَسْرَى «وَهْم الحُرِّيّة» سيَنْفكُّون بسُهولةٍ عن تصوُّرهم ذاك لأنّ الوَهْم يُمثِّل – من النّاحية الاجتماعيّة والتاريخيّة- إِحْدى أَقوى العِلَل المُبرِّرة للوُجود والمُيسِّرة للعيش. وقد يكون من المُفيد، بهذا الصدد، أن يُدْرَك أنّ كونَ «الإنسان» لا يَتحقّق في وُجوده إِلَّا بالنِّسبة إلى مجموع «الشُّروط» المُحدِّدة للعالَم يُوجب لَفْتَ النّظر إلى أنّ «الحُرِّيّة» تَفترض، بالأساس، «الضّرُورة». ويُمثِّل "إِسﭘينوزا" أحدَ أهمّ الفلاسفة الذين انتبهوا إلى هذا الأمر حيث يُؤكِّد أنّ «الحُرِّيّة ليست الفعل بأَمْرٍ حُرٍّ، وإنّما هي الضّرُورة الحُرّة». وبالتالي، فإنّ «الحُرِّيّة الإنسانيّة» التي يَتبجّحُ بها النّاسُ عادةً لا تَعني سوى كونهم «يَعُون شهواتهم ويَجْهلُون الأسباب التي تَحْكُمهم [من ورائها]» ("إسﭘينوزا"، الرِّسالة 58 إلى "شُولَر"). ومن هُنا، فإنّ ما يَجْدُر الانتباه إليه هو أنّ تَصوُّر «الحُرِّيّة» وﭐدِّعاءَها يُمثِّلان الجمعَ النَّقِيضيَّ بين «الوعي» و«الجهل»، أَيْ أنّ الوعي الظّاهر بالقُوى المُحرِّكة للنّفْس يُمثِّل – في الآن نفسه- جهلًا عميقًا بالأسباب الحقيقيّة الكامنة خلف قُوى النّفْس تلك. وإذَا كان لا مَفرَّ من التّسْليم بأنّ «الإنسان» يَتحدّد - في وُجوده وفِعْلِه- بالنِّسبة إلى «العالَم» (بما هو مجموعةٌ من «الحُدود» و«الشُّروط» الضروريّة)، فإنّه يَصيرُ لازمًا اعتبار أنّ «الحُرِّيّة» تعني - بالأساس- «التّعامُل مع الضّرورة»؛ مِمّا يَقتضي أنّ الحديث عن «الإنسان» - في تحدُّده الضروريّ بالنِّسبة إلى «حُدود هذا العالَم وشُروطه»- لا يَصحّ من دون إدراك «مَحْدُوديّة الإنسان» و، أيضا، «مَشْرُوطيّة الإنسان». فلا مجال، إذًا، لتّصوُّر إمكان الفعل البشري إِلّا على أساس التّعامُل العَيْنيّ مع تلك «المَحْدوديّة» و«المَشْرُوطيّة». لكنّ المُفارَقة تتمثّل في أنّ النّظر إلى «الحُرِّيّة» فقط في حُدود «الوَضْع البَشريّ» كشُروط ضروريّة يَجعلُها مُمْتنعةً (من حيث إنّ هذه «الشُّروط» تَسْبِقُ وُجودَ الإنسان ولا يُمكن تجاوُزها إِلَّا من خلال ما يُمكِّنُ منه عملُ «التَّوْضيع» من «التَّعْقيل» و«التَّرْشيد» اللَّذين يَبْقيان، من ثَمّ، مشروطَيْن موضوعيًّا وتاريخيًّا) هو الذي يَقُود إلى تبيُّن أنّ ثَمّةَ شيئًا في الإنسان يَتعالى، في أَصله ومآله، على «الضَّرُورة» الطبيعيّة والاجتماعيّة (مهما يُسْحَق الإنسان تحت وَطْأة أَثْقال الواقع المُظْلِم، يَبْقَ مُتشبِّثًا ببصيصِ أَملٍ لا يَلُوح من أثناء العَتَمة!). وليس هذا الشيءُ إِلَّا تلك «الطّبيعة البَشريّة» التي أُريد حديثًا ﭐطِّراحُها وﭐستبدالُ «الوَضْع البَشريّ» مكانَها. غير أنّ «الطّبيعة البَشريّة» نفسَها ستَكُون مُمْتنعةً ما لم يُنْظَرْ إليها بصفتها تلك «الفِطْرة» الدَّالّة على «الفعل الإلاهيّ» خَلْقًا وأَمْرًا والتي تَظَلُّ مَوْصولةً ب«ربّ العالَمين» بصفته «الفاطر المُنْعم» و«الإلاه المعبود». ذلك بأنّ «تَأْليه الطّبيعة» يَؤُول حتمًا إلى «تَأْليه الإنسان» الذي يَؤُول بدوره إلى «تَأْنيس ﭐستعباد الإنسان» من حيث إنّ إرادة تَمْكين «الإنسان» سيِّدًا ومالكًا تَجعلُه لا يَمْلِكُ إِلَّا أن يَفِرّ من قَدَر «الإنسان/الذِّئب» إلى قَدَر «الإنسان/الإله» الذي سرعان ما يَنْقلب إلى وضع «الإنسان/العبد» واجِدًا نفسَه قد صار يَعبُد رغباته تسيُّبًا و/أو يُسْترَقُّ لمُنْتجَاتِ عمله تسيُّدًا فلا يستطيع، بالتالي، أن يُقيم من «التَّحْييد» إِلَّا ما يَسمَحُ به «التَّوْضيعُ» ترشيدًا عَلْمانيًّا وتَدْهيرًا دُنْيانيًّا. ومن ثَمّ، فإنّ سَيْرورةَ «إبطال/بُطْلان سِحْر العالَم» هي عينُها التي تُنْتج «إعادةَ السِّحْر إلى العالَم» حينما لا يَعُود أمام «الإنسان المُتألِّه» من خيارٍ إِلَّا «العَدَميّة» على الرّغم من كل مُحاوَلات إقامة تلك السَّيْرورة طبيعانيًّا أو إنْسيَّانِيًّا. فخيار «النَّقْض» يَنْقلب، لَا مَحالة، على نفسه بما يَفْرِض عدمَ إمكان تَأْسيس «الحقيقة» و«الفضيلة» من النّاحية الطبيعيّة والإنسانيّة إِلَّا على النّحو الذي يفسح المجال لتلك «ﭐلنِّسْبيّانيّة» المُدمِّرة. والوُقوف على إحراجاتِ «مشروع الحداثة» بصفته مُعايَنةَ «قَتْل الإلاه» التي تَؤُول إلى مُعاناةِ «قَتْل الإنسان» يَجعلُ «إبطالَ/بُطْلانَ سِحْر العالَم» غير مُمكن إِلَّا كتنويرٍ وتحريرٍ يَتمَّان من خلال «العمل الدينيّ» (أيْ، بالتَّحْديد، «التّديُّن») في ﭐقتضائه ل«ﭐلتَرْشيد» تعبُّدًا يُميتُ «التَّأْليه الباطل» وتزكِّيًا يُحْيي «التَّخْليق الحقّ». وكونُ «الإسلام» لا يَقْبَل من «التَّأْليه» إِلَّا ما كان توحيدًا مُوجِبًا للدُّخول في «التَّديُّن» كمُمارَسة عَمَليّة مُثْمِرة ل«التّعبُّد» تنزيهًا ول«التّخلُّق» تَزَكِّيًا هو الذي يَجعلُه «الدِّينَ» القادر على التّمْكين لِأَسباب «التَّحْرير/التَّحرُّر». ومن أجل ذلك، فإنّ «ﭐلإسلام/الدِّين» يُمثِّلُ «التّبدُّل» اللَّازم لتحويل «الرَّغْبة في الأُلوهيّة» من كَدْحٍ ومُكابَدة (مآلُهما النِّهائيُّ لِقاءُ اللّه) إلى جُهْدٍ تعبُّديٍّ ومُجاهَدةٍ تخلُّقيّة مُثْمرانِ للتَّنْزيه والتَّزْكية الضروريَّيْن في التّحقُّق بالحُرِّيّة. ووحده من كان مُطْبِقًا على تَهْويمات «التَّضْليل المُتعاقل» تجده يَعْمى عن كون «الإسلام/الدِّين» في ﭐقتضائه للإحسان يَكْفُلُ من «التَّنْوير» و«التَّحْرير» ما يُمكِّن لتحقُّق الإنسان في هذا العالَم بصفته «العامل المُكلَّف» و«العَبْد المُحَرَّر». وإلَّا، فإنّ «ربَّ العالَمين» بصفته القدير ﭐبتداء على إكْراه كُلِّ النّاس على الإذْعان له ما كان عليه أن يَتعبَّدهم، أَصلًا، بالاختيار فيَسأَلَهم في عالَم الغيْب «أَلستُ بربِّكم؟!» (الأعراف: 172)؛ كما أنّه – سبحانه- ما كان عليه أن يَخلُقهم في كَبَد وبَلاء! وعليه، فإنّ من يَظُنّ أنّ «إبطالَ/بُطْلانَ سِحْر العالَم» لا يُمْكنُ إِلَّا أنْ يَقتضيَ «الخُروج من الدِّين» إنّما يَعترف، في الحقيقة، بﭑستحالة «الخُروج من العالَم» على أَساس «التَّوْضيع» و«التَّدْهير». والحال أنّ هذه الاستحالة لا سبيل للتّغلُّب عليها من دون «الدِّين» بﭑعتبار أنه يَقُوم على الوَصْل بين «العالَم» و«ربّ العالَمين» في التَّمْكين للانفكاك عن «النِّسْبة النّفْسية» المُترتِّبة على الوجود والفعل ضمن هذا «العالَم» («الدِّين» هو العامل الأنجع ل« التَّزْكية/ﭐلتّزَكِّي» وليس فقط «ﭐلتَّوْضيع» الاجتماعيّ والتاريخيّ في ﭐقتضائه ل«التَّرْشيد» مُتصوَّرا فقط ك«تَدْهير/تَدْنية» يُرسِّخ «النِّسْبة النّفسيّة» من خلال إدْراك ﭐستحالة «التّعالِي» كﭑنْفكاكٍ كُلِّيٍّ عن حُدود «العالَم» وشُروطه بما يَعني، في النِّهاية، قَبُول «التَّنَزُّل» بالنِّسبة إليها!). ولهذا، فإنّ الانفكاك عن «العالَم» لا يَتأتّى إِلَّا بإسلام الوَجْه لِلّه «ربّ العالَمين» قصدًا وعملًا، وهو مُقتضى «التّديُّن» كعمل تَنْويريّ وتَحْريريّ يُؤكِّد أنّ «الحُرِّيّة» ليست بقضيةٍ فرديّةٍ، ليس فقط لأنّ «الإنسان» لا يَنْفكّ عن «الاجتماعيّة» إِلّا أنْ يَنْفكّ عن «البَشريّة» (وهذا مُحالٌ أَوّلٌ)، وإنّما أيضًا لأنّ «التّحرُّر» مُتصوَّرًا كسَعْيٍ مُتَوحِّدٍ غير مُمْكنٍ إِلَّا بشرط «التّألُّه» المُخْرِج من حيِّزِ «الإنْسانيّة» (وهذا مُحالٌ آخَر)؛ مِمّا يقتضي أنّ ضرورةَ «التّأْنيس/التّأنُّس» في إطار «العالَم» تُوجب تصوُّرَه ك«تَحْرير» يُمكَّنُ له موضوعيًّا ومُؤَسَّسيًّا في إطارِ مشروعٍ يُستكمَلُ بﭑستمرار، مشروع لتحقُّق «الإنسان» بصفته «العامل المُكَلَّف» و«العبْد المُحَرَّر» كما هو الأمرُ في «الإسلام/الدِّين». وإذَا ثَبَت أنّ الابتهاج الشّائع والمُتجدِّد ب«وَهْم الحُرِّيّة الأكبر» يُعَدّ العَقَبة الأُولى التي يجب ﭐقتحامُها في سبيل التّمْكين لسَيْرورة «التَّحْرير/التّحرُّر»، فإنّ كونَ المُنْتشِين بذلك الوهم لا يُركِّزون ﭐهتمامَهم إِلَّا على ما يَظُنّونه «الوهم الأكبر» مُمثَّلًا في «ﭐلدِّين» يَجعلُهم يَعُدّون الخطوة الأساسيّة في التّحقُّق ب«الحُرِّيّة» أَنْ يَطَّرِحَ المرءُ دينَه دون تردُّد. غير أنّ أَسْرَى «وَهْم الحُرِّيّة الأكبر» هؤلاء يَنْسَوْن أنّ تَصوُّر «التَّنْوير» كتخَلٍّ عن كُلِّ وَهْمٍ أو دَجلٍ يُعَدّ من الأوهام التي ينبغي الإسراع إلى الانفكاك عنها، بﭑعتبار أنّ الأصل في كُلِّ عَمَلٍ أو سَعْيٍ إنّما هو ضَرْبٌ من «الاعتقاد» أو «الإيمان» الذي من دونه لا تَثْبُت جدوى أيِّ فعل؛ وهو ما لا يُعلَّل إِلَّا بالنِّسبة إلى ﭐنْخراطٍ مُعيَّن في شُروط هذا «العالَم» التي ليس أَهْوَنَها كونُ الإنسان يَنْسى، في الغالب، أنّه مُنْفَكٌّ عن الوُجود ضمن «العالَم» (الطبيعيّ والاجتماعيّ كليهما)! وبِوُسْعِ المرء، رغم كل ذلك، أن يَستمرّ مُتبجِّحًا بأَنه حُرٌّ تمامًا؛ ليس لأنّه يَمْلك بين يديه كُلَّ الأسباب التي تُمكِّنه من أن يَفعل أو يَترُك «بأَمره الحُرِّ من نفسه»، بل لأنّه قد أُقْنِع بالوهم الذي يَجعلُه غيرَ قادرٍ على تحمُّل وُجوده في هذا «العالَم» إِلَّا مع الظّنِّ بأنه مُنْفكٌّ عن كُلِّ ما يرتبط بشُروط «الضّرُورة» الطبيعيّة والاجتماعيّة المُحيطة به من كُلِّ جانبٍ. ومن كان على هذه الحال، فهو يُدْرك أنّ من مصلحته أن يُعبِّر عمّا يُحرِّكُه داخليّا كما لو كان «عينَ الحُرِّيّة» لأنّه لا يستطيع أنْ يُواجهَ واقعَ الجهل في نفسه الذي يَفرض عليه العَماية عن الكيْفيّة التي تشتغل بها حتمًا وضرورةً «أَسبابُ العالَم» من خلاله! وفي المدى الذي يَتجلّى ذلك النُّزُوع كرَفْض لمُكتسبَاتٍ معرفيّة صارتْ مُوطَّأةً منذ عُقود خَلَتْ وما فَتِئَتْ تَتعزّزُ (أصدر "أَكْسيل هُونيث" كتابَه «حقُّ الحُرِّيّة: توطئةٌ للأخلاقيّة الدِّمُقراطيّة» عام 2013، ثُمّ يُصدر – في هذا الأسبوع- مُواطنُه "أُتفريد هُوفه" كتابَه «نقد الحُرِّيّة: المُشكلة الأساسيّة للحداثة»!)، فإنّه يُفْصح عن نوعٍ من «الرَّجْعيّة» التي لا تشتغل عادةً من دُون سندٍ من قَرينتها «الظّلَاميّة». إذْ أنّ من لا يزال يعتقد أنّ «الحُرِّيّة» خاصِّيّةٌ جوهريّةٌ للذّات لا يُصِرُّ فقط على الرُّجوع القَهْقَرَى ثلاثة قُرون، بل تراه أيضًا مُتشبِّثًا بنُسخةٍ مُتقادمةٍ جدًّا من «فلسفة العُلوم» هي تلك التي نشأت مع «الوَضْعانيّة» في النِّصف الثاني من القرن 19 والتي أُعيدَ بناؤُها مع «الوَضْعانيّة المنطقيّة» في صورةِ تلك «العِلْمَ-انيّة» التي تُؤْمن بأنّ «العِلْم الوَضْعيّ» يُمثِّل الشّكْل المُمكن والوحيد من «المعرفة الحقيقيّة». والحال أنّ من لا يزال واقعًا تحت تأثير مثل هذه البقايا البالية لا يَستطيع إِلَّا أن يكون أَسيرًا ل«ﭐلظّلاميّة» المُتنكِّرة بيننا في صورة تعالُمٍ وتعاقُلٍ لم يُسلَّطْ عليهما بعدُ من أنوار العُقود الماضية ما يَكفي لتبديدهما حتّى يتراءى للنّاس أنّ «التّحْرير/التّحرُّر» يَصيرُ أيضًا أجدر بالنِّسبة إلى ذلك الشكل من «العقلانيّة» الذي يَنْسى أنّ «العِلْم» المُعاصر لم يَخرُجْ من «أَزْمة الأُسس» إِلَّا ليَدْخُل في «أَزْمة المَعايير والقيم» (ﭐمْتناع ﭐشْتقاق «الوُجوب» من «الوُجود» لِﭑمتناع ﭐسْتِنْفاد إمْكانات «التَّوْصيف» و«التَّفْسير» المُنْصبَّة على «الواقع» بما هو «ظواهر» لا تُعْطَى إِلَّا بقَدْر ما تُبْنَى بواسطة «التَّأْويل» المَشرُوط سياقيًّا وتداوُليًّا!). ووحده من ﭐسْتَمْرَأَ الحياةَ في ظِلِّ «طُغْيان العِلْم» ("ﭙول فيرابند" [2011، 2014]) سيَعِزُّ عليه أن يَقْبَلَ «عودة السِّحْر إلى العِلْم» ("رُوبرت شِلْدريك" [2012، 2013]) بالقدر نفسه الذي كانتْ «عودةُ السِّحْر إلى العالَم» ("بُوريس سِيريلْنيك" [1997، 2001]، "ﭙيتر بِرْغر" [1999، 2001] و"مِشِّيل مافيزولي" [2007، 2009])!