بعد تصويت مجلسي البرلمان على القانون رقم 115-13 القاضي بحل المجلسين الجهويين لصيادلة الشمال والجنوب وإحداث لجنة خاصة مؤقتة؛ وتفعيلا للفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور التي تخول لأربعين (40) عضوا من أعضاء مجلس المستشارين كحد أدنى، الحق في إحالة القوانين إلى المحكمة الدستورية قبل إصدار الأمر بتنفيذها للبت في مطابقتها للدستور؛ تقدم 41 عضوا من مجلس المستشارين بعريضة طعن، يلتمسون فيها من المجلس الدستوري التصريح بعدم مطابقة القانون رقم 115-13 للدستور. وبتاريخ 29 ماي 2014 صدر القرار رقم 937-14 الذي قضى فيه أعضاء المجلس الدستوري : "بعدم قبول الإحالة الرامية إلى التصريح بعدم مطابقة القانون رقم 115-13 القاضي بحل المجلسين الجهويين لصيادلة الشمال والجنوب وإحداث لجنة خاصة مؤقتة، للدستور". والمتمعن فيما ورد في القرار يتضح له بكل جلاء ووضوح أن المرتكز في عدم قبول عريضة الطعن، يتأسس على دليل وحيد ينبني على قاعدة دستورية جديدة من خلق أعضاء المجلس الدستوري، اهتدوا إليها عن طريق تأويلهم وتفسيرهم لفحوى الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور بالارتباط مع الأحكام المتعلقة بالمرحلة الانتقالية المنصوص عليها في الفصل 176 من الدستور. وللحكم على "التخريجة" التي أوجدها السيد "المقرر" ووافق عليها أعضاء المجلس الدستوري؛ يتوجب التدقيق في أهم الحيثيات الواردة في القرار، والتثبت من مدى اتساقها وتناغمها مع منطوق الحكم القاضي بعدم قبول عريضة الطعن، وكل ذلك في نطاق كل من الفصل 176 من الدستور الخاص بالمرحلة الانتقالية، والفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور، التي تبين على سبيل الحصر من له الحق في إحالة القوانين على المحكمة الدستورية للبت في مطابقتها للدستور، وهو ما كان منظما بمقتضى الفقرة الثالثة من الفصل 81 من دستور 1996. وتحليلنا للموضوع في الجانب الذي يعنينا سيكون عبر محورين، بيانهما سيكون وفق الترتيب التالي : · المحول الأول : فحوى القرار ومرتكزه من وجهة نظر المجلس الدستوري بناء على تأويل للفصل 132 و176 من دستور 2011، يرى أعضاء المجلس الدستوري أنه إذا كان الدستور الجاري العمل بمقتضياته يحدد النصاب القانوني لإحالة القوانين على المحكمة الدستورية في أربعين (40) عضوا فيما يخص الإحالة التي تتم من طرف أعضاء مجلس المستشارين؛ فإن هذا العدد كحد أدنى، لا يمكن أن يكون منتجا لأثره من الناحية الدستورية، إلا إذا كان مجلس المستشارين مكونا من 120 عضوا، ومنتخبا وفق ضوابط دستور 29 يوليو 2011. ويضيف أعضاء المجلس الدستوري بأنه لما كان هذا المجلس لم ينتخب بعد، ونظرا لكون مجلس المستشارين المنبثق عن دستور 1996 والبالغ عدد أعضائه 270 عضوا لا يزال مزاولا لمهامه، ويملك الحق في ممارسة صلاحياته، بما في ذلك الحق في إعمال الرقابة على دستورية القوانين، وذلك إلى حين انتخاب المجلس الذي سيخلفه؛ فإنه يتعين النظر – كما ورد في القرار – إلى عدد 40 عضوا من زاوية أنه يعادل نسبة ثلث الحد الأقصى لعدد أعضاء مجلس المستشارين القائم حاليا، وهي النسبة المطلوبة من هذا المجلس من أجل إحالة القوانين على المجلس الدستوري لتبت في مطابقتها للدستور، وذلك طيلة سريان المقتضيات الانتقالية المنصوص عليها في الفصل 176 من الدستور. وينجر عما سلف، وفي نطاق ما يعتقده أعضاء المجلس الدستوري، أن عدد الأربعين عضوا الذي يشكل ثلث أعضاء مجلس المستشارين الذي لم ينتخب بعد؛ يتحول إلى 90 عضوا (الثلث) من أصل 270 عضوا، الذي هو عدد أعضاء مجلس المستشارين القائم حاليا؛ حيث مرد ذلك حسب توهم أصحاب التوقيع على القرارات، يرجع إلى كون المرحلة الانتقالية المنصوص عليها في الفصل 176 من الدستور لا تزال سارية النفاذ. وأعضاء المجلس الدستوري استنادا إلى الحيثيات التي ساقوها، واعتمادا على تأويل غير سليم لمقتضيات الفصل 176 من الدستور؛ رتبوا على كل ذلك نتيجة مؤداها أن تقديم 41 عضوا من أعضاء مجلس المستشارين لعريضة الطعن أمام المجلس الدستوري، قد تم بشكل معيب، جراء عدم بلوغ عدد الموقعين على عريضة الطعن للنصاب المحدد في 90 عضوا، وهو ما يستوجب عدم قبول الإحالة الرامية إلى التصريح بعدم مطابقة القانون رقم 115-13 للدستور. وفي هذا المضمار يقول أعضاء المجلس الدستوري بالحرف الواحد : "وحيث إن رسالة إحالة القانون رقم 115-13 على المجلس الدستوري للبت في مطابقته للدستور، لم توقع سوى من طرف 41 من أعضاء مجلس المستشارين، وهو عدد يقل عن ثلث أعضاء المجلس الحالي، الأمر الذي تكون معه رسالة الإحالة غير مقبولة". محصلة ما سلف هو أن أعضاء المجلس الدستوري رفضوا عريضة الطعن على أساس عدم تحقق النصاب القانوني المتمثل في وجوب توقيع الثلث من أعضاء مجلس المستشارين القائم حاليا. لأنه لما كان عدد الموقعين على العريضة انحصر في 41 عضوا، والنصاب القانوني في حدوده الدنيا من أجل قبول عريضة الطعن يتحدد في 90 عضوا؛ فإن النتيجة المنطقية والقانونية لعدم استيفاء عريضة الطعن لشروطها من الناحية الشكلية، هو الإقرار : "بعدم قبول الإحالة الرامية إلى التصريح بعدم مطابقة القانون رقم 115-13..... للدستور". · المحور الثاني : مناقشة القرار من ناحية حيثياته ومنطوقه ما ساقه أعضاء المجلس الدستوري بخصوص القرار 937-14 لا يحتاج إلى كبير عناء من أجل دحضه، لكونه ساقط من تلقاء ذاته، وخاصة أن المرتكز اليتيم المعتمد عليه للقول بعدم قبول عريضة الطعن، يحمل في طياته متناقضات نادرا ما تجتمع في قرار واحد؛ بالإضافة إلى أن ذات المرتكز يقع خارج الاجتهاد القضائي الرصين جراء ما ترتب عن التأويل من غثاء فكري لا يمكن قبوله والسكوت عليه، لكونه منقطع الصلة بالأصول الفنية الواجب التقيد بها وقت تفسير المقتضيات الدستورية والقانونية. ومناقشتنا للدليل الذي ساقه أعضاء المجلس الدستوري، سيكون وفق البسط والعرض والبيان الذي اخترنا أن يكون متتابعا ومتسلسلا على النحو التالي : أولا : بداية نقول إن أعضاء المجلس الدستوري لم يجانبوا الصواب حينما قرروا عدم قبول عريضة الطعن المقدمة من 41 عضوا من أعضاء مجلس المستشارين، باعتبار أن الاعتماد على مقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور، يتطلب وجوبا أن يكون مجلس المستشارين مكونا من 120 عضوا. ومادام وضع هذا المجلس ليس كذلك، فإن مقتضيات الفقرة الثالثة من النص الدستوري تكون بالضرورة غير منتجة لأثرها، جراء التلازم القائم بين الحد الأدنى والأقصى لأعضاء مجلس المستشارين على الوجه المنصوص عليه في الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور والمادة الأولى من القانون التنظيمي رقم 28-11 المتعلق بمجلس المستشارين. ولذلك لا يجوز – كما ورد في القرار – الأخذ بشرط دستوري واحد دون الشرط الثاني الملازم له. ففي غياب مجلس المستشارين المكون من 120 عضوا، لا يجوز قبول الطعن من طرف ثلث الأعضاء من مجلس لا وجود له، ولم يُشرع بعد في انتخابه وفق ضوابط دستور 2011. والجدير بلفت النظر إليه، هو أنه إذا كان غير جائز قبول الطعن لعدم استكمال مجلس المستشارين لتركيبته من الناحية الدستورية، فإن ذلك لا يعني أن باقي الأطراف المنصوص عليهم في الفقرة الثالثة يحق لهم الطعن في القانون بدعوى عدم دستوريته. ومرد ذلك أن العلة الموجبة لعدم قبول الطعن المقدم من طرف 41 عضوا، هي ذاتها التي تفرض عدم قبول الطعن من لدن الأطراف الأخرى المذكورين في الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور، بمن فيهم أعضاء مجلس النواب؛ والعلة في ذلك كما هو معلوم، راجعة إلى عدم استكمال البرلمان بمجلسيه لشروط وجوده من الناحية الدستورية على الوجه الذي سنبينه لاحقا. وتأسيسا على كل ما سلف، نخلص إلى القول بأن عدم جواز الطعن بعدم الدستورية لا يقتصر فحسب على أعضاء مجلس المستشارين، كما يُفهم مما ورد في قرار المجلس الدستوري؛ وإنما عدم جواز إثارة الطعن بعدم الدستورية، يشمل جميع الأطراف المذكورين في الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور؛ الأمر الذي يجعل هذه الفقرة الدستورية غير قابلة للتفعيل، بسبب التركيب غير السوي للمؤسسة التشريعية (البرلمان)، منذ انتخاب مجلس النواب بتاريخ 25 نوفمبر 2011. وهذا يبين ويكشف بوضوح أن عدم قبول عريضة الطعن من الناحية الدستورية لا يتأسس على ما توهمه أعضاء المجلس الدستوري، وإنما عدم القبول يرتكز على سبب آخر سنوضحه في إطار ما سيأتي من الشرح والبيان. ثانيا : إذا سايرنا أعضاء المجلس الدستوري وسلمنا جدلا بأن عدد الأربعين (40) عضوا يشكل ثلث أعضاء مجلس المستشارين على الوجه المنصوص عليه في دستور 2011؛ وأن هذا الثلث بسبب سريان المرحلة الانتقالية المنصوص عليها في الفصل 176 من الدستور الحالي، يتحول إلى ثلث من أعضاء مجلس المستشارين القائم حاليا – وهو مجلس جرى انتخابه وفق ضوابط دستور 1996 ويبلغ عدد أعضائه 270 عضوا؛ فإن هذا التسليم والمسايرة لا يفيدان في شيء من ناحية التأصيل الفقهي والتحليل القانوني، جراء بقاء هذا الثلث المزعوم من طرف أعضاء المجلس الدستوري غير مرتكز على أي أساس من الدستور أو القانون. ذلك أن هذا الثلث الذي يجعله أعضاء المجلس الدستوري واجب التحقق لكي تكون عريضة الطعن مقبولة، هو ثلث لا يمكن الأخذ به في نطاق دستور 29 يوليو 2011، وهو ما اعترف به أعضاء المجلس الدستوري، جراء كون مجلس المستشارين المكون من 120 عضوا لم ينتخب بعد؛ ومن ثم يكون تفعيل الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور مستحيلا. كما أن هذا الثلث لا يمكن الأخذ به والاعتماد عليه في إطار دستور 1996، لأن الفصل 81 من هذا الدستور يشترط في فقرته الثالثة من أجل قبول عريضة الطعن أن تكون هذه الأخيرة موقعة من قبل ربع أعضاء مجلس المستشارين، أي من طرف 68 عضوا من أصل 270 عضوا. وصفوة القول هو أن عدد ثلث أعضاء مجلس المستشارين لا مرتكز له من الناحية الدستورية، وهو ما يجعل هذا العدد من نسج الخيال الفقهي لأعضاء المجلس الدستوري، مادام دستور 1996 لا يتحدث عن الثلث، وإنما ينص بجلاء على وجوب توقيع ربع أعضاء مجلس المستشارين كحد أدنى من أجل أن تكون عريضة الطعن بعدم الدستورية مقبولة. ثالثا : قول أعضاء المجلس الدستوري بوجوب وحتمية النظر إلى عدد 40 عضوا المنصوص عليه في الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور، من زاوية أنه يعادل ثلث أعضاء مجلس المستشارين المنتخب وفق أحكام دستور 1996؛ هو قول عار من الصحة لافتقاده وافتقاره إلى الحجة والبرهان، بما يجعله مجرد ادعاء بلا دليل من الوثيقة الدستورية؛ ويتحول التحليل والتأصيل والتقعيد جراء ذلك من دائرة الجدية إلى دائرة التوهم والتخيل والافتراض، وهو ما يتعارض كل التعارض مع منهجية البحث العلمي المبني على أصول وضوابط المنطق القانوني السليم. ذلك أن الاضطرار إلى الاحتماء وراء عملية "الإحلال والتبديل" لإيجاد صلة وصل بين دستور 2011 ودستور 1996، بغية التوصل إلى أن عدد الواحد والأربعين (41) عضوا يقل عن النصاب القانوني المتمثل في 90 عضوا من أصل 270 عضوا، مما يستوجب جراء ذلك الحكم بعدم قبول عريضة الطعن؛ هو في واقع الأمر محاولة لإيجاد تخريجة يترتب عنها خلق قاعدة دستورية جديدة منبتة الصلة بمقتضيات دستور 2011 ودستور 1996، وهو أمر غير جائز باعتراف أعضاء المجلس الدستوري أنفسهم على الوجه الذي سنبينه في إطار هذا البند الذي نحن بصدده. فإذا كان لأعضاء المجلس الدستوري الحق في التأويل (التفسير) وخاصة حينما يحيط الغموض أو الالتباس ببعض المقتضيات الدستورية، فإن ذلك يتم بالالتزام بالأصول الفنية في تفسير النصوص الدستورية، بحيث لا يجوز مطلقا الخروج عن الحدود المألوفة في التفسير؛ كما لا يجوز مطلقا تحت ستار التفسير أو التأويل خلق قاعدة دستورية جديدة لا سند لها في الوثيقة الدستورية. وأعضاء المجلس الدستوري بخصوص الإشكالية التي نحن بصددها خرجوا عن نطاق التفسير، وخاصة أن النص الدستوري الواجب تفعيله سواء في إطار دستور 2011 أو في نطاق دستور 1996 لا يتضمن أدنى غموض أو إبهام، كما لا يتيح أي مجال إلى الاختلاف في مدلوله، مما يكون معه عمل المجلس الدستوري عبارة عن تغول واعتداء وافتئات على ما يقضي به النص الدستوري من مقتضيات وأحكام، وذلك نتيجة خلقهم لقاعدة دستورية تتناقض بشكل واضح مع ما هو منصوص عليه في الوثيقة الدستورية. وللبرهنة على وجوب الالتزام بما ورد في النص الدستوري عندما يكون هذا الأخير واضحا ولا يعتريه غموض أو إبهام، فإننا نسوق في المجال الذي نحن بصدده دليلا من قرار المجلس الدستوري رقم 943-14 الذي ورد فيه ما يلي : "وحيث إنه إذا كان يجوز للمشرع سن قواعد ترمي إلى تطبيق أو تتميم أحكام الدستور، فإن ذلك يجب ألا يترتب عنه إضافة قاعدة جديدة من شأنها تغيير القاعدة الدستورية نفسها". وعلى هذا، فإنه إذا كان المشرع لا يجوز له مخالفة الدستور تحت ذريعة تطبيق أو تتميم أحكام الدستور؛ فإن الحظر يجب أن يتقرر من باب أولى على المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية)، وخاصة أن سلطته في مجال الرقابة على دستورية القوانين تنحصر فقط في تفسير النص الدستوري، حتى يتحقق المجلس من مطابقة القانون أو عدم مطابقته لما هو منصوص عليه في الوثيقة الدستورية. الحصيلة بخصوص ما نحن بصدده، هو أن الأمر وصل بأعضاء المجلس الدستوري إلى درجة التعسف في التأويل الممزوج بالتدليس والتلبيس في مجال التأصيل القانوني، وذلك وقت استدلالهم بحجة مبنية على وجوب تأويل النص الدستوري على نحو معين، من غير دليل أو برهان؛ والقول المرسل من غير دليل، كما هو معلوم ومعروف، لا يترتب عنه أي أثر من الناحية الدستورية وذلك في الجانب المرتبط بالتأصيل والتقعيد. رابعا : ادعاء أعضاء المجلس الدستوري بكون المرحلة الانتقالية المنصوص عليها في الفصل 176 من الدستور، هي التي تضفي الشرعية على عملية تحول الثلث المنصوص عليه في الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور إلى الثلث المحدد في الفقرة الثالثة من الفصل 81 من دستور 1996؛ هو في الواقع مجرد ادعاء مردود عليه، ودحضه ليس بالأمر العسير. فالمرحلة الانتقالية في المجال الدستوري يراد بها تلك المرحلة التي تظهر إلى حيز الوجود بدخول الوثيقة الدستورية إلى مجال النفاذ والتطبيق وذلك إلى حين انقضائها على الوجه المحدد في الدستور. وهذه المرحلة نص عليها الدستور الجاري العمل بمقتضياته في الفصل 176 الذي يقرر التالي : "إلى حين انتخاب مجلسي البرلمان، المنصوص عليهما في هذا الدستور، يستمر المجلسان القائمان حاليا في ممارسة صلاحياتهما، ليقوما على وجه الخصوص، بإقرار القوانين اللازمة لتنصيب مجلسي البرلمان الجديدين، وذلك دون إخلال بالأحكام المنصوص عليها في الفصل 51 من هذا الدستور". والأمر الجلي هو أن هذا النص الدستوري لوضوح فحواه بخصوص المسألة التي نحن بصددها، فإنه لا يحتاج إلا للتفسير اللغوي من أجل تحديد معنى النص وبيان نطاقه؛ وهو الأمر الذي يستوجب مجرد الرجوع إلى معنى ألفاظ القاعدة الدستورية من الناحية اللفظية واللغوية. وحيث إنه لا مجال للاجتهاد، أي للتأويل والتفسير، حينما يكون النص شاملا وواضحا وقطعي الدلالة في المراد منه، فإن عملية التفسير أو التأويل تنحصر في استخلاص معاني النص الدستوري من دلالة ألفاظه من الناحية اللغوية، لأنه مادام النص واضحا فلا مبرر مطلقا للخروج عليه. وبناء على وضوح الفصل 176 من الدستور، فإن الذي يستخلص منه بشأن المرحلة الانتقالية من ناحية بدايتها ونهايتها، هو أن مجلسي البرلمان المنتخبان وفق مقتضيات دستور 1996 يظلان معا مزاولان لمهامهما ليقوما على وجه التحديد بما هو منصوص عليه في الفصل 176 من الدستور. وبمجرد إقرار القوانين اللازمة لتنصيب مجلسي البرلمان الجديدين، تبدأ المرحلة الانتقالية في الأفول، ويكون انتخاب أحد المجلسين وفق ضوابط دستور 2011 مؤشرا جازما على انتهاء المرحلة الانتقالية فيما يتعلق بالمؤسسة التشريعية. ذلك أن الذي ينجر عن انتخاب أحد المجلسين هو وجوب انتخاب المجلس الآخر، حتى يتسنى للمجلسين الجديدين ممارسة جميع الصلاحيات المخولة للبرلمان المنبثق عن دستور 2011. بيد أن الذي حدث بعد دخول الدستور الجديد حيز النفاذ والتطبيق أن مجلس النواب بمفرده هو الذي جرى انتخابه في 25 نوفمبر 2011، بينما مجلس المستشارين المنتخب وفق أحكام دستور 1996 وضوابط القانون التنظيمي رقم 32-97 كما وقع تغييره وتتميمه، بقي مزاولا لمهامه بجوار مجلس يحظى بالوجود الشرعي، مما جعل البرلمان الحالي يتواجد في وضعية شاذة ومخالفة للدستور، وخاصة بعد أن انصرم أمد انتداب ثلث أعضاء مجلس المستشارين الذين فقدوا حقهم في تمثيل الأمة. وتأسيسا على ما سلف، وبناء على بعض ما ذكرناه بشأن المرحلة الانتقالية، كان من المتعين على أعضاء المجلس الدستوري أن ينتبهوا إلى خطورة المسألة، ويقرروا صراحة عدم إمكانية البت فيما يعرض عليهم من منازعات وأقضية، ابتداء من تاريخ اجتماع أعضاء مجلس النواب من أجل انتخاب رئيسهم، باعتبار أن مجلس النواب لا يحق له أن يشرع في مزاولة مهامه إلا بعد أن يترأس الملك لافتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى للبرلمان الجديد (الفقرة الأولى من الفصل 65). وإذا سلمنا جدلا أن أعضاء المجلس الدستوري لم يولوا لأفول وزوال المرحلة الانتقالية أية أهمية، بحجة عدم وضوح المسألة من الناحية الدستورية، أو جراء كون الفصل 176 يحتمل أكثر من تأويل؛ فهل يقبل منهم الاستمرار في التأويل غير السليم للنص الدستوري المتعلق بالمرحلة الانتقالية، وخاصة بعد أن فقد مجلس المستشارين القائم حاليا لثلث أعضائه (90 عضوا)؟ فعلا، يصعب على الموقِعين على القرار رقم 937-14 الاعتراف بكون مجلس المستشارين مخالف للدستور، وفاقد لشرعية وجوده، لجملة أسباب منها : أن جل القرارات اتخذت بناء على تأويل غير قويم للفصل 176 من الدستور. وكخاتمة لهذه المقالة، أُذكِر بأنه إذا كان المتفق عليه، بناء على نص صريح في الدستور، هو أن قرارات المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية) لا تقبل أي طريق من طرق الطعن، وتلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية؛ فإن ذلك لا يضفي العصمة والحصانة والقدسية على القرارات المعيبة، حيث يبقى على الدوام لرجال الفقه والباحثين والمهتمين بالقضاء الدستوري، الحق في تمحيصها والتدقيق في فحواها والحكم على منطوقها، بما يتولد عن ذلك من كشف لعوارها وبيان لمثالبها ونقائصها؛ وكل ذلك في حدود نطاق التحليل الدستوري القويم، والالتزام بما يفرضه المنطق القانوني السليم، من غير تدليس أو تلبيس أو شعوذة وقت اللجوء إلى التأويل أو التفسير !