رصد أستاذ القضاء الدستوري، الدكتور مصطفى قلوش، ما اعتبره "سقطة كبرى" وقع فها أعضاء المجلس الدستوري بخصوص قانون مالية سنة 2014، معتبرا أن عدم دستورية قانون المالية هذا منحصر بالدرجة الأولى في عدم استكمال الإجراءات التشريعية، التي يحكمها وجوب التداول بين المجلسين دون توقف إلى أن يتم التوصل إلى إقرار نص بصيغة موحدة". وفيما يلي نص مقال الخبير الدستوري، مصطفى قلوش، كما ورد إلى هسبريس، وهو الذي راكم تجربة تدريس القانون الدستوري مدة أربعين سنة في الجامعات المغربية: لما كان قانون المالية يندرج في نطاق القوانين العادية، فإنه يتحتم إثارة الطعن بعدم الدستورية في الفترة الواقعة بعد تمام الموافقة عليه من لدن البرلمان بمجلسيه، وقبل إصداره من طرف الملك؛ بحيث إذا وقع الطعن في غير وقته المحدد في الدستور، فإنه يكون غير مقبول. والطعن في هذا الخصوص متروك لتقدير أصحاب الحق المنصوص عليهم في الفصل 132 من الدستور، فإن شاءوا أثاروا مسألة عدم الدستورية، وإن رأوا خلاف ذلك، فلا إلزام عليهم. وتفعيلا لما هو مرخص به في الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور، تقدم 120 نائبا بطعن ضد قانون المالية لسنة 2014، بحجة أن هذا القانون تم إقراره من طرف مجلس النواب في قراءته الثانية بشكل مخالف لما يقضي به الدستور، وخاصة الفصول 10 و75 و84 و88 من الدستور، وكذا المادة 159 من النظام الداخلي لمجلس النواب. ولكي يدعم أصحاب عريضة الطعن وجهة نظرهم، فقد ساقوا خمس حجج بهدف الحصول من المجلس الدستوري على قرار يقضي بعدم دستورية قانون المالية رقم 110-13 لسنة 2014 المصادق عليه بالجلسة العامة لمجلس النواب في قراءته الثانية يومه الأربعاء 25 دجنبر 2013. وتحليلنا لقرار المجلس الدستوري رقم 931-13 الصادر يوم الإثنين 30 ديسمبر 2013 سينصب فقط على جواب أعضاء المجلس الدستوري على المآخذ الأربعة حسب الترتيب الوارد في القرار وفي مذكرة الطعن. وبسطنا للموضوع سيكون وفق البيان المتسلسل على النحو التالي : - المأخذ الأول : تقديم قانون المالية من طرف حكومة جديدة غير منصبة. الأمر الجلي في إطار دستور 1992 و1996 و2011، هو أن الحكومة لا تكون مستكملة لوجودها من الناحية الدستورية، إلا بعد تعيين من طرف الملك، وتنصيب من لدن البرلمان (مجلس النواب). والجديد في نطاق دستور 2011 هو أن الملك من الناحية الدستورية أضحت سلطته مقيدة في مجال اختيار رئيس الحكومة؛ حيث إن هذا الأخير يعين وجوبا من طرف الملك من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها (الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور)؛ ويكون التنصيب من طرف مجلس النواب بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم لصالح البرنامج الحكومي (الفصل 88 من الدستور). وإذا تحقق الشرطان معا (التعيين الملكي وحصول البرنامج الحكومي على ثقة مجلس النواب)، فإن الحكومة تكون مستكملة لعناصر وجودها، ومؤهلة في ذات الوقت لممارسة جميع صلاحياتها الدستورية. وترتيبا على ما سلف، فإن القول بأن الحكومة المعدلة بتاريخ 10 أكتوبر 2013 تحتاج إلى تنصيب جديد كما ورد في عريضة الطعن؛ لا يعدو أن يكون مجرد خطل في الرأي وسرف في القول. لأنه لا مجال للاجتهاد في المجال الذي نحن بصدده لوجود المقتضيات الدستورية ووضوحها (الفصل 47 و88). وما انتهى إليه أعضاء المجلس الدستوري من كون الحكومة المعدلة لا تحتاج إلى تنصيب جديد، هو قول سديد، يتسق ويتطابق مع أحكام الدستور في المجال المتعلق بتعيين الحكومة وتنصيبها وإعفاء أعضائها ما عدا المتولي لرئاستها. بيد أن الذي يتوجب التوقف عنده والتمعن فيه هو ما ورد في القرار بخصوص الفقرة الأخيرة من المأخذ الأول المتعلق بعدم تنصيب الحكومة. والذي جاء في هذه الفقرة هو ما يلي : "وحيث إنه، تأسيسا على ما سبق بيانه، فليس هناك ما يدعو دستوريا لتنصيب جديد للحكومة القائمة، مادامت هذه الحكومة لم يتم إعفاؤها بكامل أعضائها من لدن الملك نتيجة استقالة رئيسها المنصوص عليها في الفقرة السادسة من الفصل 47 من الدستور، ومادامت لم تقرر تغيير برنامجها الأصلي، مما يكون معه إيداع وتقديم ومناقشة مشروع قانون المالية برسم سنة 2014 والتصويت عليه ليس فيه ما يخالف الدستور". ولتبين حقيقة ما ورد في هذه الفقرة المشتملة على ثلاثة مقاطع أساسية، يتعين تفكيكها حتى يتسنى تلمس مدى ترابطها، ليتيسر فهم مدلولها وكذلك ما ينجر عن الصياغة التي صيغت بها، من نتائج لم يقصدها "المقرر" على وجه اليقين؛ وما كان للموقعين على القرار أن يتبينوا العوار الذي يكتنف هذه الفقرة وما بها من عطن من الناحية الفقهية. • فالمقطع الأول مؤداه أن الحكومة القائمة، لا تحتاج إلى تنصيب جديد، لأنه مادام رئيس الحكومة لم يقدم استقالته، فإن هذه الحكومة تبقى على أصلها، أي حكومة مستجمعة لشروطها من الناحية الدستورية، ولا يؤثر فيها إعفاء بعض الوزراء وتعويضهم بوزراء آخرين. بيد أنه بإعمال مفهوم المخالفة لهذا المقطع الذي صيغ صياغة غير دقيقة، تنكشف مثلبة مؤداها أن رئيس الحكومة لو قدم استقالته لترتب عن ذلك وجوب حصول الحكومة القائمة على تنصيب جديد. ومثل هذا القول السقيم لا يستقيم وضعه من ناحية التحليل القانوني والتأصيل الفقهي والتقعيد الدستوري. ذلك أن الحكومة القائمة، حينما يستقيل رئيسها، فإنها لا تحتاج إلى تنصيب جديد؛ بسبب أنها تغدو مجرد حكومة مكلفة بتصريف الأمور الجارية إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة (الفقرة الأخيرة من الفصل 47 من الدستور). • والمقطع الثاني من ذات الفقرة محل التقييم والتقويم، فيفيد أن الحكومة القائمة بالرغم ما طرأ عليها من تعديل، فإنها لا تحتاج إلى تنصيب جديد، مادامت لم تقرر تغيير برنامجها الأصلي. مما يعني أن الحكومة القائمة لو غيرت برنامجها الأصلي الذي على أساسه نالت ثقة مجلس النواب، لكان من المتوجب عليها الحصول على تنصيب جديد. وهذا القول بدوره مجانب للصواب ولا يتسق مع الفهم الصحيح للدستور. ذلك أن الحكومة القائمة، حينما تحدث تغييرا في برنامجها الأصلي، فالمتوجب اتباعه من الناحية الدستورية هو أحد أمرين : إما أن يحرك رئيس الحكومة مقتضيات الفصل 103 من الدستور المتعلق بمسألة الثقة، أو أن يتقدم مجلس النواب بملتمس الرقابة وفق الضوابط المنصوص عليها في الفصل 105 من الدستور. • وبخصوص المقطع الثالث الذي يقرر فيه أعضاء المجلس الدستوري، أن إيداع وتقديم ومناقشة مشروع قانون المالية برسم سنة 2014 والتصويت عليه ليس فيه ما يخالف الدستور؛ فإننا نقول على وجه التحديد بأن التصويت على قانون المالية لسنة 2014 فيه ما يخالف الدستور، مما يجعله موسوما وموشوما بعدم الدستورية، شأنه في ذلك شأن قانون المالية لسنة 2013. لأن ما ارتكب من فلتة وزلة بخصوص القرار 912-13 المتعلق بقانون المالية لسنة 2013، هو عينه الذي اقترف بخصوص القرار 931-13 المتعلق بقانون المالية لسنة 2014. فالجهل بالمسطرة التشريعية كما سنبين لاحقا هو الذي جعل القانون المالي موسوما بعدم الدستورية، ويجعل الموقعين على القرار متحملين للمسؤولية من الناحية الفقهية. وخلاصة القول بخصوص المأخذ الأول، هو أن القرار معيب من ناحية محاولة الموقعين عليه التقعيد للإشكالية التي أثارها أصحاب عريضة الطعن. أما كون الحكومة القائمة لا تحتاج إلى تنصيب جديد، فهو قول لا تثريب عليه ولا مطعن فيه. - المأخذ الثاني : رئاسة اللجنة المكلفة بالتشريع بمجلس النواب من لدن نائب لا ينتمي للمعارضة. يقول أعضاء المجلس الدستوري بأن تأخر مجلس النواب في انتخاب رئيس جديد للجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان يكون منتميا للمعارضة، فهو وإن كان يشكل إخلالا بأحكام الفصل العاشر من الدستور، فإن قانون المالية الخاضع لضوابط محددة بقانون تنظيمي، استلزم مواصلة لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان تدارس ما هو داخل في اختصاصها إلى التاريخ الذي تم فيه انتخاب رئيس جديد لها ينتمي للمعارضة، والذي تحت رئاسته تم التصويت على هذه الميزانية. ويضيف الاثنا عشر الأعضاء بالمجلس الدستوري، بأن أشغال اللجان البرلمانية ذات طبيعة تحضيرية وهو ما يستفاد من أحكام الفصل 80 من الدستور؛ كما أن التأخر في انتخاب رئيس جديد للجنة العدل والتشريع يعتبر شأنا نيابيا، لا ينجر عنه عدم دستورية المسطرة التشريعية الخاصة بمشروع قانون المالية لسنة 2014. ورغم ما قد يبدو من سلاسة وسلامة وصحة ما ورد في القرار، فإن محاولة تغطية ما أثير في عريضة الطعن لم يكن مقنعا، من ناحية دحض الاعتراض وإبعاد الشبهة المثارة. ذلك أن رد أعضاء المجلس لم يرق إلى المستوى المطلوب في مجال التحليل القانوني والتأصيل الفقهي. فبداية أين هذا القانون التنظيمي الذي يخضع له القانون المالي؟ ثم ما هي العلاقة ووجه الاستدلال من كون مشاريع ومقترحات القوانين تحال على اللجان الدائمة المعنية بالأمر (الفصل 80) وبين وجوب إسناد رئاسة اللجنة المكلفة بالتشريع بمجلس النواب إلى المعارضة. وإذا قيل بأن المعضلة التي واجهت لجنة العدل والتشريع سببها خروج حزب من الائتلاف الحكومي (حزب الاستقلال) ودخول آخر محله (التجمع الوطني للأحرار)، مما يعتبر شأنا داخليا، لا يخضع لصلاحية المجلس الدستوري؛ فإن مثل هذا الدفع لا يستقيم مع الدور المنوط بالمجلس الدستوري القيام به، ويتعارض مع ما كان يتغياه جلالة الملك المرحوم الحسن الثاني من الارتقاء بالغرفة الدستورية إلى مؤسسة "المجلس الدستوري"، وذلك بهدف خلق مدرسة قانونية مغربية في القانون العام وفي القانون الدستوري (يراجع خطاب 21 مارس 1994). لأنه إذا كان ما حدث فعلا في مجلس النواب يعتبر شأنا نيابيا، فإن ذلك لا يعني مطلقا أن المعارضة لا تملك وسيلة دستورية للذب والذود عن حقوقها، فهي مالكة لآلية دستورية تتمثل في اللجوء إلى التحكيم الملكي؛ باعتبار الملك من الناحية الدستورية ومن الناحية الواقعية والفعلية يعتبر الحكم الأسمى بين المؤسسات، والساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية (الفقرة الأولى من الفصل 42 من الدستور). والغريب في الأمر أن المعارضة احتجت بخصوص قانون المالية بالخرق المتمثل في عدم احترام ما يقرره الفصل العاشر من الدستور، والحال أن المعارضة والأغلبية وأعضاء المجلس الدستوري جميعهم انتهكوا حرمة الفقرة الأولى من الفصل 84 من الدستور، وتغولوا على الفقرة الثانية من ذات النص الدستوري التي لا علاقة لها بقانون المالية لا من قريب ولا من بعيد، وهو ما سنتولى بيانه في نطاق تحليلنا للإشكالية الواردة في المأخذ الرابع الذي يعتبر أساس عدم دستورية قانون المالية لسنة 2014. - المأخذ الثالث : خرق مقتضيات الفصل 75 و84 وكذا المادة 159 من النظام الداخلي لمجلس النواب خلال القراءة الثانية. جواب أعضاء المجلس الدستوري على المأخذ الثالث كما ورد في عريضة الطعن، يستدعي إبداء ملاحظات وفق التوضيح التالي : 1 – إن مشروع قانون المالية كما يقول الموقعون على القرار، قد أودع بداية لدى مجلس النواب وفق ما تقضي به الفقرة الأولى من الفصل 75 من الدستور. وهذا الإجراء يعتبر سليما ويتطابق تمام التطابق مع أحكام الدستور ومقتضياته. كما أن التداول بشأنه من طرف مجلس النواب، ثم إحالته بعد ذلك على مجلس المستشارين، هو إجراء يتناغم بدوره مع مقتضيات الفصل 84 من الدستور؛ ومن ثم لا مأخذ على ما قرره أعضاء المجلس الدستوري بهذا الخصوص. 2 – القول بأن القانون التنظيمي رقم 7-98 لقانون المالية تظل مقتضياته غير المتعارضة مع الدستور الجديد سارية المفعول إلى حين تعويضها بمقتضيات جديدة، فهو في الحقيقة قول غير صحيح، ويتضمن الكثير من التدليس والتلبيس، وفيه تمحل على الفهم السليم لمنطوق الدستور وروحه. ذلك أن القانون التنظيمي رقم 7-98 لقانون المالية كما وقع تغييره وتتميمه، صدر في ظل دستور 1996؛ حيث كان للحكومة حق إيداع مشروع قانون المالية إما لدى مجلس المستشارين أو لدى مجلس النواب؛ أما الآن في ظل الدستور الحالي لسنة 2011، فإن الوضع قد اختلف. كما أن اللجنة الثنائية المختلطة غير جائز إحداثها؛ كما يحظر على الحكومة إعطاء الكلمة النهائية لمجلس النواب لإقرار القانون بصفة نهائية؛ جراء وجوب التداول بين المجلسين وفق ما هو منصوص عليه في الفقرة الأولى من الفصل 84 من دستور 2011. مما يعني أن القانون التنظيمي للمالية رقم 7-98 أصبح متجاوزا؛ بما يتولد عن ذلك من وجوب إحلال قانون تنظيمي جديد يحل محل الأول بما يتواءم ويتطابق مع ما هو مقرر في الفصل 75 و78 و84 من الدستور الحالي لسنة 2011. وإذا قيل بأن القانون التنظيمي للمالية رقم 7-98 يجوز إعمال مقتضياته على الوجه الذي يدعيه الموقعون على القرار، بحجة أنه إذا كان جائزا إعمال أحكام القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الدستوري، وهو خاضع لمقتضيات دستور 1996؛ فإنه يجوز أيضا إعمال القانون التنظيمي الخاص بقانون المالية، وخاصة أن كليهما خاضعان لدستور أصبح منسوخا كأصل عام وذلك بمقتضى دستور 29 يوليو 2011. إن مثل هذا القول الرد عليه في منتهى السهولة والبساطة واليسر، لأن بقاء القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الدستوري، مرجعه الفصل 180 من الدستور الحالي، حيث الاستثناء يتأسس على الفصل 177 الذي يقرر صراحة التالي : "يستمر المجلس الدستوري القائم حاليا في ممارسة صلاحياته، إلى أن يتم تنصيب المحكمة الدستورية المنصوص عليها في هذا الدستور"؛ في حين إن القانون التنظيمي رقم 7-98 لقانون المالية لم يعد صالحا للتطبيق، لعدم انضوائه في مشمولات الأحكام الانتقالية والختامية، التي خصص لها دستور 2011 الباب الرابع عشر منه. ومن هنا تظهر العلة في عدم جواز الاستناد إلى القانون التنظيمي رقم 7-98 كما عدل بالقانون التنظيمي رقم 14-00. 3 – أصحاب عريضة الطعن – وهم على صواب- يحتجون بكون مجلس المستشارين صوت ضد مشروع قانون المالية بكل ما يتضمنه من مقتضيات وأحكام، بما في ذلك التعديلات التي وافق عليها، الأمر الذي يتعين على مجلس النواب وهو في قراءته الثانية لمشروع قانون المالية، أن يتقيد بالمشروع على الوجه الذي أحيل عليه من طرف مجلس المستشارين وفي نطاق المادة 159 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تنص على التالي : "في حالة قراءة ثانية لمشروع القانون المالي من لدن لجنة المالية والتنمية الاقتصادية تجرى المناقشة والتصويت داخل اللجنة في جلسة واحدة وفق الأحكام التالية : - تنحصر المناقشة في المواد التي لم يتوصل بشأنها مجلسا البرلمان إلى الاتفاق على نص واحد، ولا تقدم التعديلات إلا بشأن هذه المواد. – إن المواد التي تم التصويت عليها من لدن كلا المجلسين بخصوص نص واحد لا يمكنها أن تكون محل تعديلات يترتب عنها تغيير المقتضيات التي سبقت المصادقة عليها". وإذا كان بسط أصحاب العريضة لوجهة نظرهم في المجال الذي نحن بصدده، يتسم بالوضوح مع بيان للمرتكز القانوني بخصوص القراءة الثانية وما يتعين التقيد به؛ فإن جواب أعضاء المجلس الدستوري يكتنفه الإبهام والغموض، ويحيط به الكثير من الشك والريبة جراء الغبش في الرؤية التحليلية. فقولهم : "إن تصويت مجلس المستشارين ضد مشروع قانون المالية ككل لا يلغي تصويته بقبول التعديلات المقدمة بشأن بعض مواد هذا القانون"؛ هو في الواقع مجرد قول يفتقد ويفتقر إلى الحجة والبرهان؛ ولا دليل لأعضاء المجلس الدستوري في هذا الصدد، بما يجعل الفتوى في واقع الأمر لا تختلف عن الكلام الصادر عمن يهرف بما لا يعرف. وإذا كان التصويت من طرف مجلس المستشارين بقبول بعض التعديلات ثم الرفض لمحتويات المشروع بأكمله، يشكل سابقة تحتاج إلى مقتضى قانوني يعالج مثل هذا الطارئ الذي اعترض سير المسطرة التشريعية، فإنه إلى حين ردم الهوة من الناحية التشريعية، يتوجب على أعضاء المجلس الدستوري أن يمتثلوا لحكم القانون والدستور، وأن يرضخوا لاختيار المجلس المعني، مادام الاختيار لا يتضمن ما يتعارض مع المقتضيات القانونية والدستورية. 4 – في إطار المأخذ الثالث يوضح الطاعنون بأن لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب، صوتت على التعديلات دون مناقشة وذلك وقت النظر في المشروع في قراءة ثانية، بما يشكل ذلك التصرف من خرق للمادة 159 من النظام الداخلي لمجلس النواب؛ بالإضافة إلى أن التصويت في حد ذاته، انصب على فراغ وعدم، مادام مجلس المستشارين قد تراجع عن التعديلات التي قبلها، وكل ذلك يجعل قانون المالية لسنة 2014 غير متسق ومخالف للفصل 75 و84 من الدستور، ومتعارض مع المادة 159 من النظام الداخلي لمجلس النواب. وفي الجواب على ما أثير أعلاه، نلاحظ أن الموقعين على القرار رقم 931-13 يسبحون في اتجاه مغاير، جراء قولهم بأن لجنة المالية والتنمية الاقتصادية صوتت على المواد المعدلة وفق أحكام الفصل 80 من الدستور. والقارئ لمحتوى هذا الفصل الدستوري يتبين له بكل جلاء ووضوح – حتى من غير تدقيق وتمعن في فحواه – أنه فصل لا علاقة له بعملية التصويت، لكونه يعالج أمرا آخر يتعلق بوجوب إحالة مشاريع ومقترحات القوانين، لأجل النظر فيها من طرف اللجان التي يستمر عملها خلال الفترات الفاصلة بين الدورات؛ وشتان بين الأمرين المتغايرين. لأن إشكالية التصويت على التعديلات دون مناقشة مسألة، ووجوب الإحالة على اللجنة المعنية مسألة أخرى. والجدير بالإشارة إليه بخصوص ما أثير في نطاق المأخذ الثالث المتعلق بالقراءة الثانية لمشروع قانون المالية من طرف مجلس النواب، هو أن البرلمان بمجلسيه (أغلبية ومعارضة) والاثنى عشر الأعضاء في المجلس الدستوري، والأمانة العامة للحكومة (البند الأخير من الفقرة الثالثة من المادة الرابعة من المرسوم المتعلق بتنظيم الأمانة العامة للحكومة) وكذلك رئيس الحكومة (الفقرة الرابعة من الفصل 42 من الدستور)، يجهلون ما يتعين التقيد به في نطاق المسطرة التشريعية المنصوص عليها في الفصل 84 من الدستور. - المأخذ الرابع : إيداع الحكومة لتعديل أمام مجلس المستشارين بدل تقديمه ابتداء لدى مجلس النواب إن جواب أعضاء المجلس الدستوري على ما ورد في المأخذ الرابع من عريضة الطعن المتعلق بصفة خاصة بقيام الحكومة بإضافة المادة 4 المكررة مرتين أمام مجلس المستشارين بدل إيداعها لدى مجلس النواب عند قراءته الأولى لمشروع قانون المالية؛ قد صادفه الصواب. ذلك أن مشروع قانون المالية أودعته الحكومة فعلا بالأسبقية لدى مجلس النواب، بالتطابق مع ما هو منصوص عليه في الفقرة الأولى من الفصل 75 من الدستور. كما أن تقديم الحكومة لمادة إضافية تحت عنوان "المساهمة الإبرائية برسم الممتلكات بالخارج" أمام مجلس المستشارين ولأول مرة؛ لا يمس بحق مجلس النواب الذي يبقى له دائما الحق في التداول بشأنه نظرا لكون الفصل 83 من الدستور يسمح للحكومة ولأعضاء البرلمان بحق التعديل إما بداية لدى مجلس النواب أو لدى مجلس المستشارين. فإذا قدم لأول مرة لدى هذا الأخير، فإن مجلس النواب يبت فيه في سياق قراءته الثانية لمشروع قانون المالية على الوجه المنصوص عليه في الفصل 84 من الدستور. وإذا كان ما سبق يتفق وصحيح الفهم السليم لمقتضيات الدستور، فإن الخطأ كل الخطأ هو ما اقترفه أعضاء المجلس الدستوري من زلة كبرى غير مغتفرة في مجال التحليل القانوني والتأصيل الفقهي والدستوري؛ والأمر هنا يتعلق بما ورد في الفقرة التالية : "وحيث إن تقديم الحكومة لمادة إضافية في مرحلة مناقشة مشروع قانون المالية أمام مجلس المستشارين لأول مرة، ليس من شأنه المساس بحقوق مجلس النواب الذي تعود إليه مناقشة هذا التعديل، المقدم في شكل مادة إضافية، والبت فيه بصفة نهائية، إعمالا للحق المخول له بموجب الفقرة الأخيرة من الفصل 84 من الدستور". والأمر الذي لا مرية فيه هو أن القول بكون مجلس النواب يملك البت النهائي بخصوص قانون المالية، حسب ما هو مقرر في الفقرة الثانية من المادة 84 من الدستور؛ هو قول فظيع ورهيب بسبب أنه لا يمت بصلة إلى الفهم الصحيح للدستور، بل هو رأي لا يقول به إلا من كان فدما في المجال الدستوري. فعلا، الفقرة الثانية من الفصل 84 من الدستور، تنص على التالي : "ويعود لمجلس النواب التصويت النهائي على النص الذي تم البت فيه، ولا يقع هذا التصويت إلا بالأغلبية المطلقة لأعضائه الحاضرين، إذا تعلق الأمر بنص يخص الجماعات الترابية، والمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية"؛ ولكن، هل لهذا التصويت علاقة بقانون المالية؟ الجواب بطبيعة الحال هو النفي الكلي والمطلق؛ لأن ذلك التصويت ينصب على الأمور الثلاثة الحصرية المرتبطة بالآتي : 1 – القوانين المتعلقة بالجماعات الترابية. 2 – القوانين المرتبطة بالمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية. 3 – القوانين المتصلة بالشؤون الاجتماعية. وهذه الأمور الحصرية الخاضعة لسلطان الفقرة الثانية، لا ينضوي في إطارها قانون المالية كما هو جلي وواضح. وحينما يكون الأمر متعلقا بإحدى المسائل المحصورة في الأمور الثلاثة، فإن التصويت في القراءة الأولى يكون بأغلبية الأصوات المعبر عنها؛ وعندما تنعقد لمجلس النواب القراءة الثانية، فإنه يقر القانون بمفرده، باعتباره صاحب الكلمة النهائية، شريطة أن يتم التصويت بالأغلبية المطلقة لأعضائه الحاضرين على الوجه المنصوص عليه في الفقرة الثانية من الفصل 84 من الدستور. والأكيد بخصوص هذه الفقرة من النص الدستوري، أن لجنة صياغة الدستور لم تكن موفقة، كما هو الحال بالنسبة لعدد غير قليل من المقتضيات الدستورية، بما في ذلك الفصل 85 من الدستور المتعلق بالمسطرة الخاصة بالقوانين التنظيمية. ولما كان قانون المالية يخضع لمقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 84 من الدستور، فإن المتعين هو اتباع مسطرة الذهاب والإياب بين المجلسين بخصوص مشروع هذا القانون، ولا تنقطع الجولات المكوكية إلا بعد التوصل إلى المصادقة على نص بصيغة موحدة. والأغلبية المطلوبة في هذه الحالة هي أغلبية الأصوات المعبر عنها في كل مجلس؛ نظرا لتساوي المجلسين في الاختصاص، وانعدام رجحان مجلس على آخر، وذلك على خلاف ما ورد في الفقرة الثانية من الفصل 84 من الدستور. وفي نطاق هذه الفقرة الأولى منه الفصل 84 من الدستور، نشير أيضا إلى أن جماعة الأستاذ عبد اللطيف المنوني لم تكن موفقة، بالنظر لما تحمله هذه الفقرة من تناقض وغموض يجعلان من المتعذر فهم محتوى المقتضى الدستوري؛ بل ويستعصي الفهم حتى على المجموعة التي ينسب إليها أنها ساهمت في صياغة الوثيقة الدستورية. وصفوة القول بخصوص القرار رقم 931-13 الموقع عليه من طرف السادة خبراء المجلس الدستوري، هو أن منطوقه مجانب للصواب، لافتقاده وافتقاره إلى الحجة والدليل والبرهان، بما يجعل قانون المالية لا يرتكز على أساس دستوري سليم. ويكفينا في هذا المضمار للاستدلال على الافتئات الذي وقع على القانون الدستوري، التذكير بالتأويل القبيح الذي أعطي للفصل 84 من الدستور. أما عن شرعية مجلس المستشارين الذي شارك في التداول والبت في قانون المالية، فهذا شأن آخر له علاقة بالتفسير غير القويم الذي أعطاه علماء المجلس الدستوري للفصل 176 من الدستور ! وفي الختام، إن عدم دستورية قانون المالية لسنة 2014 منحصر بالدرجة الأولى في عدم استكمال الإجراءات التشريعية، التي يحكمها وجوب التداول بين المجلسين دون توقف إلى أن يتم التوصل إلى إقرار نص بصيغة موحدة؛ إعمالا لما هو منصوص عليه بشكل واضح في الفقرة الأولى من الفصل 84 من الدستور. أما الفقرة الثانية من ذات النص الدستوري فمن العيب التغول عليها، لأن الاستدلال بها في غير مجالها يعتبر شيئا فرياّ وأمرا إدّا، وهو ما يبرر العنوان الذي أعطيناه لهذه المقالة.