مقدمة: حظيت قضية حقوق الإنسان بأهمية بالغة من خلال منظمة الأممالمتحدة وخاصة الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والذي أنشأ عام 1946 لجنة حقوق الإنسان التي عُهد إليها بإعداد أهم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وفي 10 ديسمبر عام 1948 صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليمثل الأرضية التي حددت حقوق الإنسان الأساسية.. ثم تم بلورة العهدين الدوليين لحقوق الإنسان عام 1966 وهما العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية. ويهمنا في هذا العرض الجانب المتعلق بالحقوق الثقافية سنتناوله بتفصيل فيما يلي : أولا : مفهوم الحقوق الثقافية على ضوء العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية صدر العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية سنة 1966 ودخل حيز التنفيذ سنة 1976 . وتنص المادة 15 منه على أنه: " تقر الدول الأطراف بهذا العهد بأن من حق كل فرد: أ- أن يشارك في الحياة الثقافية ، ب- أن يتمتع بفوائد التقدم العلمي وبتطبيقاته، ج- أن يفيد في حماية المصالح المعنوية والمادية الناجمة عن أي أثر علمي أو فني أو أدبي من صنعه..، تراعي الدول الأطراف في هذا العقد التدابير التي ستتخذها بغية ضمان الممارسة الكاملة لهذا الحق، أن تشمل تلك التدابير التي تطلبها صيانة العلم والثقافة وإنمائهما وإشاعتهما. وعلى أن تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد باحترام الحرية التي لا غني عنها للبحث العلمي والنشاط الإبداعي.. وتقر الدول الأطراف في هذا العهد بالفوائد التي تجني من تشجيع وإنماء الاتصال والتعاون الدوليين في ميداني العلم والثقافة". هذا وإن من أهم خصائص حقوق الإنسان أنها وحدة واحدة وغير قابلة للتجزئة،فحقوق الإنسان سواء المدنية أو الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية هي وحدة واحدة.. فالحقوق المدنية والسياسية تحرر الإنسان من الخوف والحقوق الثقافية و الاقتصادية والاجتماعية تحرره من الحاجة. ورغم ذلك ، لم تحظ الحقوق الثقافية بنفس الاهتمام والمكانة التي حظيت بها الحقوق المدنية والسياسية، والتي أخذت قدراً كبيراً من الوعي العام ، مما جعل موقعا لحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يأتي في المرتبة الثانية من الناحية الفعلية. وهناك بعض العوامل التي ساعدت على عدم وضوح الحقوق الثقافية و منها : عدم سيادة ثقافة معينة أو تقاليد لمنطقة ما في العالم علي أخرى . وحقوق الإنسان لا تتمثل أو تتوجه باتجاه ثقافة واحدة وتستثني الآخرين. وذلك يعني أن الثقافة تحمل أبعاداً مختلفة : كالإنسانية والعالمية والقانونية و القيمية والخصوصية. وإذا كان العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية يعد الإطار المرجعي للحقوق الثقافية على المستوى الدولي ، فإن إعلان الحقوق الثقافية للإنسان من منظمة "اليونسكو" يشكل رصيدا وإضافة نوعية لحقوق الإنسان بصفة عامة وللحقوق الثقافية بصفة خاصة. ثانيا : إعلان الحقوق الثقافية للإنسان إن " إعلان الحقوق الثقافية للإنسان" مصطلح جديد أضيف إلى معاجم الحقوق الإنسانية وقوائمها الطويلة في مطلع الألفية الثالثة ، حيث إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقر من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948 لم يتضمن بنودا تبرز ما أطلق عليه حديثا "الحقوق الثقافية" التي لم تظهر بجلاء في ذلك الإعلان العام برغم احتوائه حزمة كبيرة من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية ... وما يثير الاستغراب ، أن تحديد الحقوق الثقافية استغرق أكثر من ثلاثين عاما ! فقد بدأت المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) العمل على دراسة هذه الحقوق وتعريفها منذ عام 1968، ولم تتوصل إلى وضع صيغتها شبه النهائية إلا سنة 1998 حين أصدرت "مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الثقافية " الذي تبين لاحقا ، أنه بحاجة إلى نصوص إضافية مكملة ، تغطي مسألة التنوع التي ظهرت على شكل ملحق أصدرته اليونسكو في عام 2001 تحت عنوان " الإعلان العالمي حول التنوع الثقافي". لقد تضمنت وثيقة الحقوق الثقافية للإنسان تأكيدا على حقه في اختيار هويته الثقافية ، ومعرفة ثقافته و تراثه وثقافات الآخرين وفنونهم ، وحرية الانتساب إلى أي جماعة أو مؤسسة ثقافية أو فكرية دون أي اعتبار للحدود الجغرافية ، كذلك المشاركة في النشاطات العالمية أيا كان نوعها أوموقعها ، وحرية الإنتاج المعرفي والتعبير المكتوب والمرئي والمسموع دون أية قيود، والحق في الحماية المعنوية والمادية ذات الصلة بنشاطه الثقافي , وحرية تشكيل المؤسسات ودراسة وتدريس الثقافات والحصول على المعلومات ونشرها وتصويبها والمشاركة في السياسات الثقافية . كما حددت الوثيقة ، وهنا المهم ، ما يترتب على الدول والحكومات من مسؤوليات إزاء الحقوق الثقافية ، كإدراج مضمونها في صلب تشريعاتها وممارساتها ، والعمل على تنفيذها ، مع توفير الأجواء والإجراءات المناسبة لكل فرد من أجل الدفاع عن حقوقه وممتلكاته الثقافية ، بما في ذلك اللجوء إلى القضاء والمنظمات الدولية المعنية. ثالثا : مبادئ ماستريخت التوجيهية المتعلقة بانتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اعتمدت من قبل مجموعة خبراء في القانون الدولي في ورشة عمل حول مضمون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمقصود بانتهاكها والمسؤولية عن ذلك وسبل الانتصاف، عقدت في (ماستريخت، هولندا) خلال الفترة من 22 إلى 26 يناير1997 . فقد اجتمع في ذكرى مرور عشر سنوات على اعتماد مبادئ "ليمبورغ" بشأن تنفيذ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ما يزيد على ثلاثين خبير في ماستريخت خلال الفترة المشار إليها أعلاه بدعوة اللجنة الدولية للحقوقيين (جنيف، سويسرا)، ومعهد مورغان الحضري لحقوق الإنسان التابع لجامعة سينسيناتي (أوهايو، الولاياتالمتحدةالأمريكية) ومركز حقوق الإنسان بكلية القانون بجامعة ماستريخت (نيوزيلندا). وهدف الاجتماع إلى التقدم استنادا على مبادئ ليمبورغ في توضيح طبيعة ومضمون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمقصود بانتهاكها وسبل التعامل مع تلك الانتهاكات وتعويض الضحايا. وقد كانت هناك أيضا تطورات قانونية كبيرة عززت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية منذ عام 1986، بما في ذلك تنامي اجتهادات اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واعتماد صكوك مثل: الميثاق الاجتماعي الأوروبي المنقح في عام 1996، والبروتوكول الإضافي الملحق بالميثاق الأوروبي الذي ينص على نظام للشكاوى الجماعية، وبروتوكول سان سلفادور الملحق بالاتفاقية الأمريكية لحقوق وواجبات الإنسان في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1988. وكانت الحكومات قد قطعت على نفسها التزامات صارمة بتناول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بفعالية أكبر في إطار مؤتمرات القمة العالمية للأمم المتحدة السبعة (1992–1996). وعلاوة على ذلك توجد إمكانات لتعزيز المساءلة على انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية توفرها البروتوكولات الاختيارية المقترح إلحاقها بالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. وقد حدثت تطورات كبيرة داخل حركات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية الإقليمية والدولية في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فلا ينازع أحد اليوم في أن جميع حقوق الإنسان غير قابلة للتجزئة ومتداخلة ومترابطة ومتساوية في الأهمية بالنسبة إلى الكرامة الإنسانية. وبالتالي، فإن الدول مسؤولة عن انتهاك الحقوق المدنية والسياسية بقدر ما هي مسؤولة عن انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكما هو الحال بالنسبة إلى الحقوق المدنية والسياسية، فإن إخلال دولة طرف عن الوفاء بالتزام تعاهدي في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يعتبر بموجب القانون الدولي انتهاكا للمعاهدة ذات الصلة. وتأسيسا على مبادئ ليمبورغ، فإن الاعتبارات الواردة أدناه تتعلق في المقام الأول بالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (مشار إليه فيما بعد ب "العهد"). ومع ذلك فهي وثيقة الصلة بنفس القدر بتفسير وتطبيق معايير أخرى من معايير القانون الدولي والمحلي في ميدان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. رابعا: التنوّع الثقافي والشرعية الدولية لا شك أن الحق في الهوية الثقافية للشعوب، يعطي الحق للأشخاص والجماعات في التمتع بثقافاتهم الخاصة، وبالثقافات الأخرى المحلية والعالمية، والحق في الثقافة يعني حق كل ثقافة لأمة أو لشعب أو لجماعة في الوجود والتطور والتقدم في إطار ديناميتها الداخلية، وبعوامل التأثر الخارجية، مع حفاظها على خصوصيتها واستقلالها. والسؤال المطروح هو: هل أن التنوّع الثقافي قيمة مضافة إلى إثراء وتطوير الثقافة أم أنه مصدر أزمات يؤثر في تماسك الدول والمجتمعات، خصوصاً من خلال التعامل السلبي الإقصائي الإنكاري التسلطي؟! قد يكون مناسباً عند الحديث عن التنوّع الثقافي، التطرّق إلى دور الثقافة وارتباطها بقضايا الحقوق والحريات لما لها من علاقة وطيدة بالدينامية والإبداع، خصوصاً كونها متحركة تعددية وليست جامدة أو سكونية. ترتكز منظومة حقوق الإنسان الثقافية على عدد من القواعد الأساسية، منها الحقوق الجماعية، ومنها الحقوق الفردية، أما الحقوق الجماعية فأهمها: المساواة في الحقوق بين الأمم ؛ والحق في التمتع بالثقافة الخاصة؛ والإعلان عن اتباع ديانة خاصة، وممارسة طقوسها واستخدام لغة خاصة؛ واعتبار جميع الثقافات جزءًا من التراث الإنساني المشترك للبشرية، بما فيها من تنوّع واختلاف؛ وواجب الحفاظ على الثقافة ورعايتها بكل الوسائل، باعتبارها التعبير التاريخي والاجتماعي عن التطور الروحي للإنسان؛ وضمان حق كل شعب في تطوير ثقافته، وتعزيز روح التسامح والصداقة بين الشعوب والجماعات. أما على الصعيد الفردي، فإن الحقوق الثقافية ترتكز على ما يلي: حق كل فرد في المشاركة الحرة في حياة المجتمع، والتمتع بالفنون والآداب، والمساهمة في التقدم العلمي؛ والحق في حرية البحث العلمي، فالحرية الفكرية لها موقع مهم في منظومة الحقوق الأساسية للإنسان، سواء الحقوق المدنية والسياسية، أو الحقوق الثقافية؛ والحق في حماية المصالح المعنوية والمادية للنتاجات الفكرية والعلمية والأدبية. وبناء على ذلك ، فإننا نلاحظ أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1966 قد عالجا الحقوق الثقافية، التي حاولت منظمة اليونسكو العمل على تعميقها وتعزيزها. إن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان حين أقرّت التنوع الثقافي والحقوق والتعددية الثقافية، فإنها استندت إلى المبادئ التالية : 1 - المساواة بين الثقافات ، 2 - رفض التمييز بين الأمم والشعوب ، 3 - عدم الاعتراف بفكرة التفوق أو الهيمنة الثقافية، وما تستند إليه من مفاهيم عنصرية أو شوفينية. وقد أكدت منظمة اليونسكو حق كل شعب في الحفاظ على هويته الثقافية، وتبنّى إعلان مكسيكو عام 1982 هذا الحق مؤكداً احترام الهوية الثقافية، وعدم السعي إلى فرض هوية ثقافية بالإكراه على أي شعب. ولا شك أن الحق في الهوية الثقافية للشعوب، يعطي الحق للأشخاص والجماعات في التمتع بثقافاتهم الخاصة، وبالثقافات الأخرى المحلية والعالمية، والحق في الثقافة يعني حق كل ثقافة لأمة أو لشعب أو لجماعة في الوجود والتطور والتقدم في إطار ديناميتها الداخلية، وبعوامل التأثر الخارجية، مع حفاظها على خصوصيتها واستقلالها، ولكن من دون إهمال للعوامل المشتركة ذات البعد الإنساني، ولقيم التعايش والتفاعل بين الأمم والشعوب والجماعات. خامسا : التنوّع الثقافي والاختلاف يمكن القول بأن التنوع هو تعدد الرؤى والأشكال والأنماط التعبيرية، وهذا بحد ذاته إغناء للمعرفة وإخصاب لها وتعديد لروافدها. وعلى هذا الأساس ينبغي أن تكون الثقافة متنوعة من جهة اللغة ومتنوعة بالأشكال والألوان والأصوات والتشكيلات، وإنه لتنوّعٌ خصب في إطار الوحدة، إذ أن لكل بلد أنماطه الثقافية، وأسلوبه وتراثه الخصوصي. كما لا يمكن تصور تنوع ثقافي على معنى العداوة، وعلى معنى المواجهة والكراهية والصراع، إنما الحقيقة أن التنوع الثقافي هو إغناء للثقافات، وتعزيز لقدراتها، وإكسابها أبعادا إنسانية، وإطلاق العنان لآفاقها الإبداعية. فالثقافة في معانيها المختلفة تعني القدرة على التأقلم والتهذيب وتربية الإنسان وتأنيسه، والتأثير في سلوكه وفكره ونمط عيشه وتغذيته بالقيم الروحية والوجدانية ومنحه القدرة على التفكير والالتزام بالمبادئ والارتقاء به إلى مستوى الكمال، فإذا ما كان هذا ديدن الثقافة وفعلها ووجهتها، فلا نظن أن توجد ثقافة ما، تخالف ثقافة غيرها، أو تتصدى لمواجهتها، أو تجعل من الاختلاف ميدانا للصراع والصدام. إن الشرط الأساسي للثقافة هو أن تكون مؤثّرة إيجابيا، وليس سلبيا، وبهذا المعنى فإن الاختلاف بين الثقافات، والدعوة لهيمنة ثقافة على أخرى، والإقرار بثقافة عالية وأخرى متدنية، وثقافة كونية وأخرى محلية هو من صنع السياسات التي تحاول إقامة الحواجز والحدود بين الأمم والشعوب والحيلولة بين التقارب بينها، وقطع حبال التواصل الذي تعد الثقافة أداته المثلى ووسيلته الأكثر نجاعة وجدوى. ليست النظرية الثقافية إلا نظرية في الإنسان. ولا حرج على علماء الانطروبولوجيا، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس، في أن يؤكدوا ما بيننا من فوارق تبيّن تنوع الظواهر الإنسانية وثراء التجربة التاريخية. كما فعل ذلك كلود ليفي ستروس - أن الهمجي ليس إلا "من قال بالهمجية"، ذلك أن الإنسان يعرف كيف يتعرّف على الإنسان شبيهه وصنوه، بصرف النظر عن فوارقنا المشروعة واختلاف عاداتنا وتباين أزيائنا. وليست الإنسانية مجموعة أفراد، ولا هي أيضا ضرب من التجريد المنطقي، بل هي المثل الأعلى والقيمة الأسمى، التي تجمع الشبيه الى الشبيه، بصرف النظر عن الحدود المكانية والزمانية، وعن العرق والدين ولون البشرة. وما الثقافة في نهاية الأمر إلا ما يجلّ الإنسان، لذلك حق فيها أن تكون عناية بالسلم والتقدم والتسامح إذ هي في حقيقتها الأعمق، احترام الكرامة البشرية. فلا يمكن للثقافة أن تتحصن بالتقوقع داخل خصوصية ضيقة تحول دون انطلاقها إلى رحاب الكونية الفسيح ، ذلك أن أبسط الظواهر الثقافية إنما قوامها بالروحانية الإنسانية من حيث هي روحانية كونية ليس إقصاء الذات منها إلا شكلا من أشكال احتقار الذات. كما أن الهوية الثقافية لشعب ما أو لفرد ما، إنما هي نتاج التجارب المعيشة أي نتاج تاريخه كله، وهي أشد بعدا عن أن تكون شيئا محنطا، وإنما هي ديناميكية حية تحاذي حركة التاريخ، بل قل إنها تصنع التاريخ بذات العملية التي تنحت بها كيانها. وعليه ، فان الحق في الاختلاف الثقافي والفكري مهمة تتطلب الإنجاز في عالم يستوجب إعادة التنظيم. فليست "العولمة" واقعة قائمة الذات نهائيا، وإنما هي ديناميكية شُرع فيها، وما لنا من سبيل إلى المساهمة فيها ما لم نستوف مقتضيات تلك المساهمة، وأولها التأهيل الشامل الذاتي الذي يمكّن من مغالبة الظلامية والخشية من الآخر، ومن تغليب ثقافة الأنوار على ثقافة الحقد، حتى نتجاوز أنفسنا ونبلغ ما هو أبعد من المتاح. وما من سبيل إلى استئصال ما هو سلبي إلا بتربية أسلم، ترتقي بأخلاقيات الاعتراف بالآخر وتنمية روح التسامح واحترام كرامة الذات البشرية وترعى حقوقها الأساسية، وتنشر ثقافة السلم والتعاون بين البشر. ذلك ما يضفي على إشكالية الاعتراف بالآخر . فعندما يتظاهر الجهل والتزمّت والخوف من الآخر على السلام في العالم، فليس ثمة من مواجهة إلا بالعلم والفكر النقدي، وتنمية الموارد البشرية، وفضيلة الأريحية الكريمة، وتطوير حقوق الإنسان في أبعادها الشاملة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية. فالمقاربة الإرادية تُعنى بكل الإنسان وتتجه الى جميع الناس. إن فرض حق الاختلاف الثقافي والفكري يعد شرطا ضروريا باعتباره حقا لا تنازل عنه من حقوق الأفراد والشعوب والحضارات في التعبير عن وجودها بحريّة وعن رؤاها للعالم وعن هوياتها النابضة بالحياة. ومما يعطي هذا الجهد المشترك دفعة قوية، أن الإنسانية اليوم أوجدت الآليات العالمية الملائمة للغرض من ذلك تفاهم مدينة فلورنسا لسنة 1950 وبروتوكول نيروبي الملحق به لسنة 1976 والإعلان حول العرق والأحكام المسبقة العنصرية الصادر سنة 1978 وإعلان عاصمة المكسيك حول السياسات الثقافية لسنة 1982، والنصوص المتعلقة بحماية الثقافة التقليدية والشعبية لسنة 1989، وأخص بالذكر إعلان اليونسكو حول التنوّع الثقافي الصادر سنة 2002. إن الإشكال المتعلق بالتنوع الثقافي والاختلاف الفكري إنما هو في أساسه إشكال الحريات وإشكال حق الشعوب في تقرير مصيرها، وفي أن تنشئ فيما بينها - في إطار من الاحترام المتبادل - ضروبا من التضامن العضوي على مستوى المعمورة بأسرها. فما من ثقافة - مهما أوتيت من أسباب القوة وتقنيات الانتشار - يمكن لها أن تستأثر بالحق في الكونية، بل إن كل ثقافة يمكنها - ما تحررت من المحنطات الوهمية - أن تكون ينبوع إبداع ومصدر ثراء لغيرها من الثقافات. تلك هي سبيل المستقبل، إنها سبيل التعاون والتفاهم، وهي سبيل التنوع الثقافي الخلاّق والاعتراف بالآخر. - مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية