بعد كل إضراب يكون المضربون العاملون في القطاع العام أمام امتحان حقيقي لدرجة نضاليتهم. فمشاركتهم في الإضراب بصيغة التغيب عن العمل، تفرض عليهم توقع اقتطاع من أجرتهم الشهرية، كضريبة نضالية عن تلك المشاركة، تقول الحكومة إنه قانوني و اعتمدت مند مدة حزما غير مسبوق في تطبيقه. مباشرة بعد الإضراب ينطلق الجدل حول الاقتطاع بين من يراه منطقيا وعادلا، ومن يراه ضربا للحق في الإضراب وتضييقا على الحريات النقابية. وبغض النظر عن ذلك الجدل، فالذي أبانت عنه الممارسة النقابية لحق الإضراب في ظل اعتماد قانون الاقتطاع من الأجور، هو أن تطبيق ذلك القانون ساهم بشكل واضح في تخليق الممارسة النقابية في اللجوء إلى صيغة الإضراب عن العمل، بعد أن انحرف إلى شكل من أشكال "السيبة" أضرت بشكل كبير بمصالح المواطنين بعد أن تحول الإضراب عن العمل إلى "عطلة مقنعة" لدى كثيرين، وليس شكلا نضاليا لانتزاع حقوقهم. و نتيجة لتطبيق ذلك القانون أصبحت اليوم وتيرة اللجوء إلى الإضراب عن العمل معقولة نسبيا، وحجمها متفهم أيضا. و أيضا بغض النظر عن الأسس القانونية والمنطقية التي تؤكد صوابية الاقتطاع من الأجور بسبب الإضراب عن العمل، فإن القول إن هذا الإجراء الحكومي يضرب الحق في الإضراب تكذبه عدة أمور أهمها: الأمر الأول، الأرقام التي يعلن عنها المضربون أنفسهم بعد كل إضراب حول نجاحه، بغض النظر عن مدى صحتها ودقتها ومصداقيتها. و الأرقام التي أعلن عنها المضربون خلال الإضراب العام للتاسع والعشرين من أكتوبر تؤكد أن الإجراء الحكومي لم يمس من الحق في الإضراب أي شيء. فالنقابات أعلنت أن الإضراب العام نجح بنسبة عالية جدا بلغت، حسب قولهم، 83,7 في المائة! الأمر الثاني، شهادات المنظمين والداعين والداعمين للإضراب، فتلك الشهادات تؤكد أن "الشغيلة كسبت الرهان بخوضها للإضراب العام" و أن "الشغيلة المغربية عاشت عرسا نضاليا يوم 29 أكتوبر" وأن الإضراب تسبب في "شلل تام في الموانئ والنقل"، وما إلى ذلك من الشهادات. فالرقم المعلن و الشهادات التقييمية المصرح بها من طرف النقابات المضربة تؤكد أن الممارسة النقابية في ظل قانون الاقتطاع سليمة، وأن تلك الممارسة تحقق أهداف الإضراب بفعالية، وأن المضربين عن العمل مستعدون لدفع ضريبته النضالية من أجورهم الخاصة وليس من جيوب دافعي الضرائب كما كان سابقا. الأمر الثالث، يتعلق بالمفارقة القاتلة التي يسقط فيها المطالبون بالتراجع عن تطبيق قانون الاقتطاع من الأجور بسبب الإضراب عن العمل. وهذه المفارقة هي أن هؤلاء ينظرون فقط إلى الإضراب عن العمل في الوظيفة العمومية، ولا يستحضرون الإضراب عن العمل في القطاعات الأخرى. و ترفع فزاعة "ضرب الحق في الإضراب" حين يتم الاقتطاع من أجور المضربين في القطاع العام، و لا يتحدث أحد عن الخسارة المالية التي يتكبدها المضربون عن العمل في القطاع الخاص والمهن الحرة. فمثلا سائق الطاكسي أو البقال أو الطبيب الخصوصي أو الصيدلاني وغيرهم، حين يتوقفون عن العمل بسبب الإضراب فإنهم يقررن أن يكون مدخولهم لذلك اليوم صفرا، وهو ما يعني عمليا اقتطاعا من مدخولهم عن ذلك اليوم. و إذا كان أي قدر من المنطق في عدم الاقتطاع من أجور المضربين عن العمل في القطاع العمومي، فإن نفس المنطق يقضي بإعطاء المضربين عن العمل في القطاع الخاص والمهن الحرة "تعويضا" عن أيام إضرابهم لتحقيق العدل في التمتع بالحق في الإضراب عن العمل، وفي هذا الإطار سيكون من العدل المساواة بين المواطنين بمطالبة الحكومة بتخصيص صندوق وطني للتعويض عن أيام الإضراب عن العمل في القطاع الخاص ! كيف تناضل أحزاب ونقابات وهيئات حقوقية من أجل تمتيع المضرب عن العمل في القطاع العام بامتياز يحصن أجرته من أي اقتطاع بسبب عدم قيامه بعمله الذي هو أساس أجرته حين إضرابه عن العمل، ولا يناقش نفس الامتياز بالنسبة للمضربين عن العمل في القطاع الخاص؟ ألا يتعلق الإضراب، سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص، بحق دستوري، وبمواطنين متساوين في مواطنتهم؟ هل تستطيع الأحزاب التي ترافع من أجل وقف قانون الاقتطاع من الأجور بسبب الإضراب عن العمل أن تضمن برامجها الانتخابية تمكين المضربين عن العمل في القطاع الخاص بتعويض عن أيام الإضراب؟ هل تستطيع أحزاب المعارضة اليوم أن تتقدم بمقترح قانون يهدف إلى تعزيز الحق في الإضراب يتضمن إحداث "صندوق وطني للتعويض عن أيام الإضراب" يشمل جميع المواطنين المضربين عن العمل؟ إنه إذا كان تعويض المضربين عن العمل في القطاع الخاص أو إحداث صندوق وطني لذلك صادما أو غير منطقي، فإن تطبيق الاقتطاع عن الإضراب، رغم أنه لا يمس الحق في الإضراب أصلا، فإن تطبيقه أظهر نجاعة قوية في تخليق النضال النقابي المطلبي. و بالإضافة إلى كونه قانونيا ومنطقيا، فإنه أيضا مطلب ديمقراطي و دستوري، حيث يضمن تحقيق عدالة تساوي بين المواطنين الذين يقررون خوض الإضراب عن العمل سواء كانوا في القطاع العام أو القطاع الخاص، و يحقق بالتالي العدل والمساواة بين المواطنين، الذي هو مطلب دستوري وديمقراطي.