طنجة تعتمد الأمازيغية في إداراتها ولوحات التشوير تعزيزاً للهوية الوطنية    وهبي يعرض تقريره حول مناهضة التعذيب .. خطوات نحو تعزيز حقوق الإنسان    رياضة الغولف.. الدورة ال49 لجائزة الحسن الثاني وال28 لكأس صاحبة السمو الملكي الأميرة لالة مريم من 3 إلى 8 فبراير المقبل بالرباط    من كلميم إلى الدار البيضاء.. هكذا احتفلت أقاليم المملكة برأس السنة الأمازيغية الجديدة    الدار البيضاء .. أمسية موسيقية احتفاء برأس السنة الأمازيغية الجديدة    مدير عام سابق بمؤسسة العمران بالجهة الشرقية و4 آخرون في السجن بتهمة الاختلاس    أخنوش يقوم بزيارة لمعرض الصناعة التقليدية لأكادير إداوتنان    الإصلاح الضريبي يرفع الموارد الجبائية إلى 299 مليار درهم في 2024    النفط قرب أعلى مستوياته في 4 أشهر مع تقييم تأثير العقوبات على روسيا    ترامب: اتفاق بشأن غزة قد يكتمل بحلول نهاية الأسبوع    ترامب: التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة وتبادل الأسرى أصبح قريبا    "الجولة الأخيرة" من مباحثات وقف إطلاق النار في غزة تبدأ الثلاثاء في قطر    أنفوغرافيك | حقائق لا تريد إسرائيل أن نسمعها    وزير العدل يكشف آخر مستجدات تطبيق قانون العقوبات البديلة في المغرب    ريال مدريد يُواجه اتهاماً خطيراً في واقعة إهانة البرازيلي فينيسيوس    توقعات أحوال الطقس لليوم الثلاثاء    مؤشر تأثير مدارس الريادة على جودة التعليم يضع المغرب في مراتب متقدمة عالميا    الناظور.. AMDH تفضح تلاعبات في مواعيد الفيزا الإسبانية وتطالب بتدخل عاجل    ندوة بكلميم تبرز الأبعاد التاريخية والروحية لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال    موظفو الجماعات الترابية يطالبون بإنهاء التمييز وإقرار نظام أساسي عادل    المديرية العامة للضرائب تحدد سعر صرف العملات الأجنبية    من هو نواف سلام رئيس محكمة العدل الدولية المكلف بتشكيل الحكومة في لبنان؟    الحكم على أيت مهدي رئيس تنسيقية ضحايا الزلزال بثلاثة أشهر نافذة    كيوسك القناة | تأجيل مناقشة مقترحات تعديل مدونة الأسرة بالبرلمان    غوارديولا: قائد مانشستر سيتي يقترب من الرحيل    الصين: التجارة الخارجية تسجل رقما قياسيا في 2024    بايدن: إعادة إعمار لوس أنجلوس ستكلف عشرات مليارات الدولارات    المنتخب الوطني لأقل من 14 سنة يخوض تجمعا إعداديا بسلا    ملاكمة.. اعتزال بطل العالم السابق في الوزن الثقيل تايسون فيوري    شراكة استراتيجية لتعزيز خدمات الوقاية المدنية بعمالة طنجة أصيلة    محاكمة محمد أبركان: غيابات مثيرة للجدل وشهادات طبية تحت المجهر    تدريس اللغة الأمازيغية.. تكوين أزيد من 3000 أستاذ للتعليم الابتدائي بالتخصص المزدوج    هيئة المحامين بالرباط تثمن الثقافة الأمازيغية في احتفالية "إيض يناير"    صور أكراد "قسد" مع البوليساريو.. النظام الجزائري في مرمى الاتهام وتناقضاته تكشف نواياه الحقيقية تجاه أنقرة    التوتر السياسي بين فرنسا والجزائر : اتهامات و تصعيد دبلوماسي    قافلة الأكاديمية الدولية للتراث الثقافي اللامادي تحل بالحسيمة    الوداد يؤكد التعاقد مع فهد موفي    لقجع: الزيادة في ثمن غاز البوتان غير مطروحة على طاولة الحكومة    نمو الاقتصاد الوطني محفوف بمخاطر الجفاف وتراجع معدلات الأمطار التي انخفضت بنسبة 60.6 %    الكتاب الأمازيغي: زخم في الإنتاج ومحدودية في الانتشار نسبة النشر بالأمازيغية لا تتعدى 1 %    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    شادي رياض يتألق في أول ظهور بعد الإصابة    وزارة الصحة تبدأ في عملية تلقيح البالغين ضد داء بوحمرون    "الأخضر" ينهي تداولات البورصة    مسؤول يكشف أسباب استهداف وزارة الصحة للبالغين في حملة التلقيح ضد بوحمرون    وزارة ‬الصحة ‬تتدخل ‬بعد ‬تواصل ‬انتشار ‬‮«‬بوحمرون‮»‬.. ‬    المنتخب المغربي لكرة القدم لأقل من 16 سنة يخوض تجمعا إعداديا بسلا    فن اللغا والسجية.. الظاهرة الغيوانية بنات الغيوان/ احميدة الباهري رحلة نغم/ حلم المنتخب الغيواني (فيديو)    راديو الناس.. هل هناك قانون يؤطر أصحاب القنوات على مواقع التواصل الاجتماعي (ج1)؟    أخنوش: ملتزمون بترسيم الأمازيغية    فيتامين K2 يساهم في تقليل تقلصات الساق الليلية لدى كبار السن    دراسة: ثلث سواحل العالم الرملية أصبحت "صلبة"    بولعوالي يستعرض علاقة مستشرقين بالعوالم المظلمة للقرصنة والجاسوسية    تحرك وزارة الصحة للحد من انتشار "بوحمرون" يصطدم بإضراب الأطباء    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    الجمعية النسائية تنتقد كيفية تقديم اقتراحات المشروع الإصلاحي لمدونة الأسرة    فتح فترة التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1447 ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميلود ودوليم
نشر في هسبريس يوم 20 - 10 - 2014

هي منطقة جعلت من أحزمتها جبالا شاهقة تمتد من كل حدب وصوب ، تكسوها أشجار العرعار الضاربة الى الصفرة بفعل خيوط أشعة الشمس التي كانت تتسلل خلسة عبر أوراق شجرتين متعانقتين ظلتا ؛ لردح من الزمن ؛ شبحا أسطوريا في ذاكرة كل أهالي القرية ..
في السفح كانت ستارة السحاب تتمطى وتتبدد لتكشف عن دور طينية حجرية متناثرة هناك ... تتصاعد من ثناياها أدخنة المواقد ...لا يخترق سكونها سوى ثغاء الماعز والشياه وهي تتسلق السفح في طريقها الى المرعى في ذلك الصباح .
وعلى حين غرة سمع لصوت باب ينحل على مصراعيه محدثا قرقرة مدوية .. ليطل منه شاب أسمر بنظرات قلقة حادة تشي بسر ما يملأ صدره ... تابع خطاه مسرعا وهو يلهث في اتجاه دار الفقيه العربي المحاذية للعين ...
طرق الشاب الباب وهو يلتقط أنفاسه ...عاود الطرق ليسمع من الداخل :
آشْكون ... آشْكون ..؟ ( قالها بصوت أجش )
آلفقيه العرْبي ... حلْ أنا... ميلودْ ولدْ الضاويا..
تسمع لعارضة خشبية تقع على الأرض لينفتح الباب ويطل منه رجل بدين في عقده الخامس بلحية كثة وعينين جاحظتين ... بادره الى القول :
آولدي ميلود ! ياكْ لاباسْ... ياكْ ما الواليدا...
قاطعه ميلود بصوت يكاد يختنق ؛
لا آسي العربي ...هدى مْناما ... مناما هدي سبعيام اوهيّ كاتْجيني فْكلْ لّّيلة...!!
أخذ الفقيه العربي بساعد ميلود الى الداخل .
اقتعد الفقيه العربي حصيرا خشنا الى جوار ميلود .. وقال وهو يضغط على فكيه من الحيرة :
سبْعيام .. كلْ ليلة .. آشْنو حلمْتي ...؟
تردد كثيرا قبل أن ينطق :
واحدْ لْحاجا كاينا فلبْحر..واحد الصوت كيطنطن فوذني كيقولْ سير آميلود جيبْ داك الحك ..!!
استوقفه الفقيه العربي ، وهو يصيخ إليه بكل جوارحه :
باللاتي .! باللاتي الله يرْضي عليك .. كيداير هدا الحك ..؟
رْبيعا صغيرا منقوش عْليها بْحال شي حْروف ...ولكن ..
الفقيه العربي مقاطعا :
كيفاشْ لحْروف دلعربيا ...؟
لا...لا مانقدرْش..
الفقيه العربي مستدركا ؛ تقدر تصورهم ..؟ ما زال عاقلْ عليهم ..؟
أخرج ميلود من سترته سكينا وأخذ يخط به على الأرض ... خطوطا معقوفة ، تأملها الفقيه العربي وشفتاه تتمتم تارة بالتعوذ وأخرى بالبسملة ؛ بعد حين لملم تلابيبه ونهض واقفا فوقف في أثره ميلود .
شوف آسي ميلود ؛ هادْ لخطوطْ ما هي عربية ما هي فرنسوية ..خصنا نمشيوْ لْعند المعلم ديال السكْويلا ... غدا السوقْ نتلاقاو فالقيطون ديال بلكبير الشفاجْ ..او عنْداك تجبد هدا السر معا شي حد .
غادر ميلود دار الفقيه العربي متخذا لنفسه طريقا آخر متربة .. حتى إذا أعياه السير توقف عند صخرة ومنها أخذ يجيل بصره في الأفق بين تلك الأعالي حتى حط على الشجرتين ، فأخذ يحس بهاتف خافق يصدر من أعماقه :
جيبْ الحك ... جيبْ الحكّ..جيب
أقلع نظراته من على الشجرتين فإذا بصوت الهاتف يخبو...!!
* * *
في صباح اليوم التالي ؛ استيقظت القرية كعادتها كل يوم سوق ؛ على أصوات لغط أبناء القرية يمتطون خيولهم ومراكبهم في شكل بيكوبات صغيرة تحشر من بين سلعها أحيانا السوقة الى جوار رؤوس الماعز... وانطلقت تجري في ذلك السفح ، لمسافة بضع كلمترات بين تلال رملية ، يخالها المرء أنها آثارجيولوجية لبحار قديمة جفت ...
دراجة نارية ضارب لونها الى الرماد ، يظهر من سحنتها أن قطاع غيارها كل يوم في شأن..باستثناء المقعد المغشى ببطانة صوف الخروف... كان يستقلها ميلود ورأسه ملفعة بقطعة قماش شبيهة بالفوقية الفلسطينية ، أرسل طرفا منها ليحجب سطيحة وجهه إلا من نظارة سوداء كان يشد رباطها خلف رأسه .
كان يحث طريقه نحو السوق وذاكرته لا تنفك عن استعادة طلسم الحلم الرهيب !
شق طريقه وسط خيام منصوبة هناك تذرعها أبناء الناحية بسحنات مغبرة .. تتعالى منهم أحيانا صيحات ونداءات وأحيانا أخرى قهقهات ملء أفواههم وهم يغشون الخيام .. إما لاستكمال إجراءات البيع والشراء أو الاستمتاع بكؤوس الشاي المنعنعة الى جانب قضبان الشواء أو هما معا ... تسترق السمع ؛ في هذا الفضاء ؛ فينتهي الى مسامعك دوي الطاحونة يخترقه أحيانا صهيل الخيل وهي تعثر على ضالتها !!
في خطوات ثابتة ؛ كان يمشيها ميمما نحو الجهة الخلفية كيث كانت خيمة بلكبير وقد غصت بالسوقة تناثروا داخلها جماعات جماعات ، منهم من يمضغ ومنهم من ينتظر... وقف ميلود بباب الخيمة يتفرس الوجوه حتى وقع نظره على الفقيه العربي ، فناداه هذا الأخير وهو يهم باستلام زلاك الشفنج وبراد أتاي من بلكبير ..
آسي ميلود...آزيدْ جيتي فوقتكْ ..
جلس الرجلان معا ... بعد حين وبشكل مفاجئ ، سارع الفقيه العربي الى القول وبصوت خافت :
دابا نمشيوْ عند المعلم دالسكويلا ماشي بْعيدْ بزاف على السوقْ..
زهد ميلود في الشفنج والكؤوس المنعنعة التي كانت تؤثث الطاولة ... فنهض واقفا ومشى نحو بلكبير
قبل أن يدركه صوت الفقيه العربي :
والله ماتخلصْ... إيوا صافي آسي ميلود.. واشْ عادْ غانشرْكو الطّعامْ..!
توجها معا خارج السوق ومن ثم سلكا سبيلهما في اتجاه مدرسة القرية التي كانت تتراءى لهما من خلال راية حمراء... هناك الى جوار مقبرة مهجورة ...
* * *
بعد حين وصل الفقيه العربي صحبة ميلود الى المدرسة... اتجها صوب الباب فدلف الفقيه العربي الى الداخل ليلفي نفسه وسط مجموعة من الغلمان تتفاوت أعمارهم بين سني 6 و13 سنة ، بعضهم يستظهر آيات قرآنية .. بينما آخرون عاكفون على تلاوة صيغ صرفية لأفعال في اللغة الفرنسية ...!
سألهم الفقيه العربي : فينْ هو المعلم دْيالكمْ ؟ أجابوه جماعة : مْشا غيرْ هْنا ...
وهو يهم بالخروج ؛ إذا برجل أشعث الشعروبعينين ضامرتين يقف بالباب .. وبدخوله يقف التلاميذ . سأل هذا الأخير الزائر بالداخل :
آشريف ياكْ لاباسْ ...؟ ماعرافْشْ بيللي ممنوع الدخول بلا اذْن ..؟
آسمحْ لِنا آسي لأستادْ ..حنا ماشي منهْنا ..جيناكْ أنا وصاحْبي على واحد الغرض كْبير بزافْ ..وَ
قاطعه المعلم والغضب باد في عينيه : عنداك شي ولد هنا ؟!
لا ...وَ
المعلم مقاطعا : منينْ ماعندكْشْ ...
الفقيه العربي مقاطعا بنبرة فيها توسل : اسمح لي نهدرو على برّا...أنا اوهدا السيد جينا قاصدينكْ تحلْ
واحد اللغزْ مدوخْنا ...!
المعلم مقاطعا : آشْكون لقالكم أنا كنحلْ الألغاز... هاكلكْ .. أنا دابا معلم دلألغازْ ياكْ..؟!
آسيدي ماشي هكدا ... هدا السيد ليكتْشوفو قدامكْ.. سبعيام اوهو كايْشوف فلمْنامْ شي خْطوطا..
ديالاشْ لخْطوطْ ...؟
الفقيه العربي ؛ مستديرا نحو ميلود : آسي ميلود .. ! يالله وَري لو..
ميلود ؛ الى المعلم مستعطفا : ورْقا وسْتيلو الله يجازيك بخير . فلما ناوله الورقة ، خط فيها خطوطا شبه معقوفة... ! .أمسك المعلم الورقة وأخذ يتأمل ذلك الرسم بنظرة ثاقبة يغشاهم شيء من الدهشة والحيرة .
هدي لغة ماشي ديالنا... ولا ديال الفرنسيس ... واستطرد يقول وهو يفرك شعر رأسه : ماتْكونْ غير لغة الشينوا ولاّ لهْنودْ .. كانعْرفْ واحدْ السيد عاش فآسيا بزّافْ... غادي إكونْ عارف هدا ..
استوقفه الفقيه العربي بنبرة فيها إلحاح :
أوفينْ كايان هدا السيد ؟
عادْ لباراحْ جا ياخودْ الشمع ... قالي عندهم اليوما لموسم ديال سيدي علي الحمدوشي فزرهون .
سميتو ؟ قالها الفقيه العربي وهو يربت بيديه على ظهر ميلود ...
سميتو لمسيّحْ بوقنادل ... سوْلو عليه فالزاوية .. الى جبرْتوه .. قولولو.. بلّي المعلم موحا صافطنا عندك...
اعتدل الفقيه العربي واقفا.. وسوى جلبابه ونفظ بلغته ، وهم عائدا من حيث أتى وقد نثر خلفه هذه الكلمات : واخّا آسي الأستادْ... الله يرحمْ بها الوالدين والله يرحم من قراكْ . فرد عليه المعلم وهو يشيع خطواتهم : ماتنْساوناش ... عنْداكو..
عندنا ساعّا دلماكانا باشْ نوصلو لزرهون.. عنْداك الزهارْ آولْدي ميلود .. لْيوما السوق موجودْ الرّكوبْ... قالها وهو يحث الخطى تجاه موقف البيكوبات والطاكسيات قريبا من السوق .
* * *
كانت السماء ملبدة بالسحب الداكنة وهي تجري متقطعة الأوصال ناحية الشرق .. بفعل الرياح التي أخذت تمشط المكان منذرة بدنو عاصفة... الأهالي والسوقة اشتد لغطهم وهم يسارعون الى حجز جلساتهم داخل البيكوبات والسيارات ... فيما كانت صيحات تتعالى في الأفق : باقيا بلاصا... ياللاهو ...
فينْ غاديينْ انتما...؟ قالها أحد الصائحين وهو يتوجه الى الفقيه العربي وميلود :
زرهون ... احنا ..جوج بنا..
آسي مو...! خدْ ... جوجْ ..هانْتا ناضي ..
انحشر الفقيه العربي وميلود داخل المدرعة مرسديس 240 التي كانت تعبق بروائح الوقود والقصبر والنعناع ...
تحركت راحلتهم وسارت خلف تلك الوهاد يضج محركها فيرتد صداه عبر تلك الأصقاع ؛ بينما نظرات ميلود كانت مشدودة الى شيء مجهول ، فباغته الفقيه العربي بوخزة في كتفه :
قولي آميلود... فاينْ خلّتي الموتور..؟
ايه.. رباطو عند الشليحْ .. مولْ الطاحونا...
وفجأة استفاق الركاب على إثر فرملة مزعجة... صدرت من السائق ؛ وهو يهم بلقاء الجدارميا .. والعبور الى الطريق الرئيسي ...
ماعنداكْ .. والو..؟ قالها أحد الدركيين وهو يشد على يد السائق..!
والو.. آشّافْ... غير القصبر والنعناع ...!
أدار محرك السيارة... وصفق الباب وهو ينفث ويبصق ... إخْ .. تفو.. الله انعلْها قاعدا..,
* * *
كانت الرياح عاصفة والسائق يشد بكلتي يديه على المقود .. معانقا اياه لتحافظ السيارة على توازنها أمام عويل الرياح ...
راني ماداخالشْ للفيلاجْ... راكو عارفين لموسم... مانْعين علينا ندخْلو..
قالها السائق ..؛ ملتفتا الى الركاب ، وعند مدخل زرهون استطرد قائلا قبل أن يتوقف المحرك :
راه.. السيدْ.. قريب منّهْنا اللي بغا يْزورْ .
* * *
ترجل الفقيه العربي وإلى جواره ميلود ، وأخذا يشقان طريقهما وسط جموع غفيرة أتت من كل حدب
وصوب ؛ قوافل من الرجال والنساء والأطفال ... تتقدمهم فرق بسحنة خاصة ، يقرعون الطبول ويصيحون بتراتيل وأهازيج وإنشادات مبهمة ، ومنهم من يقتاد عجلا ربطوا على قرنيه عمامة بيضاء تلوح في أيديهم شواقير وسيوف تصعد وتنزل متناغمة مع صدى الأناشيد والتراتيل التي كانت تصدح هنا وهناك عبر مضارب متناثرة منصوبة على رقعة شاسعة ؛ لا يتراءى من داخلها سوى اللونين الأحمر والأسود ...!.أناس في مقتبل العمر يشكلون أبطالا لحلقات بشرية تستعر أعينهم غضبا .. وألسنتهم تداعب لهيب أعمدة النيران ، يلوحون بها ؛ بين الفينة والأخرى ؛ على رؤوس لأجسام آدمية ملقاة على الأرض ...!! إنها أشبه ما تكون بموائد البكاء والعويل والصياح ... وسط رياح عاصفة أبت ؛ هي الأخرى ؛ إلا أن تشارك الزوار هذه السيمفونية الجنائزية .
وسط زحمة هذه السيول البشرية ؛ كان الفقيه العربي وميلود مازالا يجدان في المشي تجاه مقر الزاوية والتي يبدو أنها محاصرة من كل الأنحاء لا يلجها أحد إلا بتراخيص مكتوبة إما من ولي أو فقيه أو جماعة أو بوسْطْ ... !!
تقع الزاوية عند سفح جبل زرهون الذي يضم أطلالا وخرائب مهجورة أشبه ما تكون بالقلاع التي كان يتحصن فيها العسكر ، ويرصد تحركات فيالق العدو .
توقف ميلود ... يتأمل تلك الخرائب ويتحول بنظراته يمنة ويسرة ... وفجأة لفت نظره شبح أسود لامرأة تلوح له بمنديل أحمر فاقع اللون !... انتابته قشعريرة من أم رأسه إلى أخمص قدميه .. وهو يعاود النظر إليها وفي كل حين يحس برغبة جامحة تدفعه في اتجاهها ... وما هي إلا لحظات حتى أخذ يهرول صوب تلك الخربة الشاهقة ... ونداءات الفقيه العربي تلاحقه :
آميلود... آميلود.! آولدي عنداك !!.. راه كاينْ... موسم اجْنونْ... ردْ بالكْ..
تسلق ميلود ذلك الجرف ؛ وبخطوات متئدة ؛ أخذ يبتعد عن صخب وضجيج المكان... سار بين صواري كانت قائمة هناك .. وعلى حين غرة أحس بيد تقع على كتفه ، فاستدار فإذا به أمام فتاة في غاية الحسن والجمال برداء شفاف يكشف عن أنوثة صارخة ... ذات أعين هدباء ومبسم في شكل خاتم تفوح منها شذى رائحة ذكية وعبقة ... بادرته قائلة بصوت متنهد فيه بحة واضحة :
شْحالْ وانا نتسناكْ..!
غمغم ميلود ؛ ولم يكد يستفيق من هول المفاجأة :
اشكونْ نْتي...؟! منين جيتي ...
أنا جيت من بلاد بعيدا ... صافطوني عنداك.
سميتكْ..؟
سميتي ... دوليم... دوليم ... حتى أنا بحالكْ ديما كاتْجيني ديك لمناما...
قاطعها ميلود : لمناما... أهديك لكتابا لفوق الحكْ ؟؟
هديك لكتابا .. هي سْميا ديال ديك لبلاد...؛ قالتها وهي تقترب منه وتوشك أن تحتك به ..!
ميلود يرفع يده اليمنى إلى ذقنه وهو مسحور بجمال المرأة : أسميا .. كيفاش ..
هي سْميا كتعني ... راجامالا .. جاتْ فالهندْ.. ما يمكنا نرتاحو أنا وياكْ حتى نوصلو لديك لبلاصا
ونجيبو الحكْ...
فالهندْ .. وانا .. قاطعته وهي تضع يدها في يده : كلشي كايانْ أوما تخمم حتى فحاجا ..
أوصاحبي لفقيه ... أوالدوار .. وامّي الضاويا..؟
غانمشيو كاملين .. حتى صاحبكْ .. امكن لنا نسافرو من غدا... كلشي موجودْ.. زيدْ..!
أخذت بيده نحو سيارة فارهة كانت قابعة هناك... أخذ مقعده الأمامي إلى جوارها ؛ وهي تضيئ لوحة المفاتيح التي أخذت تتلألأ بالرموز والإشارات .. فكاد أن يصيب بالدوار ... وهو لم يألف إلا المصفحة مرسديس 240 التي تحوي ثقوبا لا حصر لها أينما لامس إحداها صعقته تيارات ريحية أو سلك حاد صنع في ألمانيا منذ أكثر من أربعين سنة..!!
ضغطت على زر... فتحولت الواجهة الزجاجية الأمامية إلى خرائط جد معقدة... تتخللها مفاتيح للتحكم في وظائف لا حصر لها...!!
صاحبي لفقيه العربي...!
بادرته : عيطلو دابا يجي واخا يكون فيمّا كان..!!
أنا ماعنديش التلفون ...
لا غير ناديه... بسميتو غادي اسمعك فيمّا كان..!! أوغايجي دابا.
آسي العربي... آسي العربي..
لم يكد يكمل الثالثة حتى مثل أمامهم..!
اركب آسي العربي.. . ؛ متوجها بالأمر إلى هذا الأخير الذي كاد عقله أن يجن وهو يحملق في السيارة وسائقتها...بسم الله ؛ قالها وهو يستوي في مقعد وثير ناعم تحيط بجنباته لوحات وإشارات ضوئية لم يفقه لها معنى ...
سبحان الله ... آسي ميلود... أنا آولدي معاك ديما... آش هدا الكنز ..؟ كيف طحت عليه..!؟
رد عليه صوت ناعم .. صدر من جنبات السيارة بأكملها :
" استعدو.. راكو غاتنعسو.. 45 دقيقا.. قبل ماتوصلو لأوطيل آنفا فالدار البيضا "
عادت دوليم بسبابة رقيقة ناعمة إلى الواجهة الأمامية... وما هي إلا لحظات حتى انطلقت بهم السيارة ... بينما هم غطوا في نوم عميق...!!!
* * *


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.