توقفت السيارة عند مدخل الباب الرئيس للفندق ، فأسرعت المضيفات للتكفل بالزبناء.. وعلى وجوههن أمارات الدهشة والذهول وهن يرمقن النزيلين بجوار هذه الغادة الحسناء . * * * استقل كل بغرفته... غرفة دوليم كانت في الطابق الخامس . قرع الفقيه العربي غرفة ميلود جاره ، فأذن له بالدخول بعد أن ضغط على جهاز يدوي للتحكم في الطلبات وفتح الشرفات ، وإسدال الستائر وتكييف الهواء... دخل الفقيه العربي ... وسارع إلى احتضان ميلود ؛ وهو يلجلج بلسانه : واشْ انا كانحْلمْ ... آش هدا النعيمْ آولْدي ميلود... هدا الدنْيا شْنو فيها .. سبحان الله الدنيا شحالْ زْوينا ... يا سبحان الله ... الدنيا عجيبا وغريبا .. فين كنّا .. أوفين ولّينا ... دابا قولي آولْدي ميلود... فينْ احنا ... واشْ هدا الكنزْ...؟!! اسمعْ آسي العربي..! غدّا انشاالله ... غاديين نمشيو .. للهندْ ..( قالها ميلود ، وهو يتأمل السماء من خلال ستائر الغرفة ) الهندْ.... الهندْ ..هدا الشي لقلتْ مْعا راسي ... الكنز آولْدي ميلود .. مرصودْ عليك .. انتا هو مولاهْ... دابا أنا بْغيتْ ناكولْ شويّا..! هانْتا .. بركْ على الرقم 1 ... اطلبْ ليِّ بغيتي .. اطلبْ ليِّ بغيتي..!! ليِّ بغيتْ ...زعْما ... عجبا. قلْتلكْ ليِّ بغيتي .. يامنْ ماكلا .. يامنْ كسوا... حتى الكسْوا ...؟! سبحان الله ... تْكاياسْ عليّ آولْدي ميلود ... تواحّشْت لبيصارا...كانْسخّان بها اجّوفْ... تكونْ عنْ .. قلْتلكْ اطلب.. دابا نْسا شويّا لبيصارا ... سبحان الله كيدايرْ لوطيلْ ... ياعجبا ..!! تسْمحْ لي آولْدي ميلود نجي ننْعاسْ معاكْ ... أوبيتاكْ نْتا..؟ لمّانْ ... تْواسع موجودا الحمد لله ... غيرْ زعْما.. نتوانسو.. لا..لا..لا .. آسي العربي كلْ واحادْ أوبيتو ... راها دوليم ما تبْغيشْ ... أوحْنا نايضينْ غدا بكْري عاد الفقيه العربي الى غرفته واستلقى على سريروثير.، وانهمك يدندن .. بعد أن نزع بلْغته وجلبابه ورمي بهما جانبا : اللهْ... الله... الله آه يالدنيا شْحال نتي زوينا ... يالد... (( وما الدنيا إلا لعب ولهو... )) أخذ يتمتم بها ويشد على لحيته الكثة ؛ وبصره مغروس في السقف . * * * في صباح اليوم التالي ، كان المكان شبه مقفر عندما تحركت سيارة الزوار الثلاثة باتجاه مطار محمد الخامس... بعد حين ترجل منها شخص في الخمسينيات بجلباب أبيض وصدرية مذهبة وعمامة مزركشة أرسل منها طرفا الى قفاه .. ينتعل حذاء أبيض اللون ، وإلى جواره شاب ممتلئ مديد القامة أسمر اللون بسترة ضارب لونها إلى الزرقة تجاوزت الركبتين يجمع بين صدرية فخمة وسروال فضفاض ، يكشف أسفله عن حذاء أسود يصل إلى منتصف الساق ... تتقدمهم فتاة في حلة قشيبة ؛ يطغى عليها الأحمر الزاهي ... تسير الهوينا باتجاه جناح الإقلاعات والسفريات . كانوا هم الثلاثة .. الفقيه العربي وميلود مع دوليم ... كان الجناح رحبا وغاصا بالمسافرين المتوجهين إلى الهند عبر إسطانبول ، تأثثت جنباته بلوحات ضوئية بمواعيد الإقلاع والهبوط . سلمت دوليم موظف الجمارك جوازات سفر الثلاثة ، بابتسامة ساحرة ؛ كادت أن تخذله فسألها : تنوون السفر الى اسطانبول ، هل أنت تركية ؟ !... استلمت الجوازات وأعادته إلى مقعده بكلمات انجليزية منغلقة ، احمرت لها خدا الموظف المسكين : “ yes we are on way towards Istanbul I'm not Turkish…I'm from anather world “ نعم ... في طريقنا إلى اسطانبول... أنا لست تركية ..أنا من عالم آخر !! * * * استقلوا مقاعدهم المتجاورة داخل الطائرة ؛ وأخذت إحدى المضيفات تردد على المسافرين بإنجليزية ذات لكنة استرالية الإجراءات الروتينية الواجب على كل مسافر اتخاذها ... شد الفقيه العربي بحرارة على يد ميلود وأخذ لسانه يلهج بالتشهد وهو يحس بالطائرة تقلع بهم نحو عنان السماء : ترجّلْ... ترجّلْ... آسي العربي... راه معانا الغاشي ... كيفاشْ... انتا لابسْ بحالْ شي أغا تركي ... تاجرْكبيرْ..وانت جالسْ كاطْاطِ بالخوفْ!!؟ شوفْ آولدي ميلود..! الأرض منْ تحْتنا.. والبشرْ ولا بحال النملْ... ايه يادنيا... شحال انتِ زوينا... ايه يادنيا .... ثم زال عنه روعه بعد أن أخذت الطائرة تستوي وتشق طريقها فوق السحاب وفي لحظة ما ؛ بعد مضي ثلاث ساعات من الطيران ؛ حانت من ميلود التفاتة نحو البحرعبر كوة الطائرة ... تراءت له من خلالها أشعة ذهبية أخذت تداعب أمواجه في شكل خطوط متموجة ..فتداعت إلى ذاكرته أحداث حلمه العجيب الذي جمع بين البحروالقارورة والطلسم المنقوش عليها فاستدار نحو دوليم ... وكم كانت دهشته وهو يرى مقعدها فارغا ...!! ياربّي... ياربّي...آشْ هدا.... فينْ مْشات...؟! ، استكان في مقعده وأخذ جبينه يتفصد عرقا ؛ فالتفت إلى الفقيه العربي لعله يجد عنده ما يواسيه... بيد أن هذا الأخير كان يغط في نوم عميق .. ملقيا بنصفه على الطاولة الأمامية... آخْ... تشخْ .. فك حزامه ودفن رأسه بين يديه... واستسلم لموجة من الهواجس ، يختلط فيها الماضي بالحاضر.. فكادت أن تعصف به ! وبينما هو كذلك ...؛ وقد أخذ الكرى يداعب أجفانه ؛ إذا بقهقهات وكأنها أصوات صبايا في مقتبل العمر؛ تقترب وتبتعد منه كما لو كانت آتية من بئر سحيقة ... ولكنها سرعان ما اختفت إثر يد ربتت على كتفه ..! فاستدار .. فإذا بدوليم ترمقه بوجه ناعم وباسم ، تغمره السعادة ... أية سعادة ..!! وأردفت قائلة في صوت عذب كشهد يقطرعسلا ! : أنا معاكْ... مْشيتْ غيرْ لْشي سخْرا خْفيفا... بالي.. ديما مْعاكْ ... قاطعها صوت حاد ... شد انتباه جميع الركاب ؛ وفي أثره خرجت كبيرة المضيفات من قمرة الطائرة ... وقذفت بكلمات انجليزية مدجنة : الكابتن هارلو.. يتمنى لكم بقية سفر ممتع على متن الطائرة البوينغ 717 ؛ وجبة الغداء تنتظركم ، ويسعدني أن أخدمكم ..هالوبيتا.. شكرا. بعد حين أضيئت جنبات الكراسي.. وانفتحت الطاولات أمام أصحابها ... وظهر في مقدمة الممشى مضيفتان تدفعان بعربة وجبة الغداء ؛ تتقدمهما هالوبيتا تستشير الركاب في وصفاتهم... حتى إذا اقتربت من دوليم صعقت وكادت تقع على الأرض ، وعيناها ما انفكتا تتفرسان وجهها !! هرولت مسرعة إلى داخل القمرة تتلاحق أنفاسها وهي تتوجه بهذه الكلمات : إنها هي ..هي بنفسها قاطعها الكابتن هارلو : ...الآنسة هالوبيتا..! ماذا دهاك ..؟ أي خطب أصابك ؟! ردت بصوت متهدج تحاول الإمساك بأنفاسها : صديقتي مضيفة الطائرة التي صاحبتنا في عديد من الرحلات دوليم والتي كانت على قائمة الهالكين على متن الطائرة الماليزية بوينغ 777 دوليم.. دوليم..! ( يرد الكابتن هارلو... باندهاش كبير ) أعرفها جيدا ... وقد كانت المضيفة الرئيسة في الطائرة الماليزية المنكوبة ... دعيني أنظر إليها ... فستعرفني لا محالة . كابتن مانديسو ! من فضلك شغل الكابتن الإلكتروني... سأعود حالا ... خرج الكابتن هارلو إلى الركاب ؛ وتمشي في أثره هالوبيتا ... فاعتذر قائلا : سيداتي ؛ سادتي إسمحوا لنا ..! إنه مجرد صداع خفيف .. لخادمتكم الآنسة هالوبيتا ... استمروا... شهية طيبة ياإلهي ...! إن مقعدها فارغ... أنظر سيدي الكابتن ..! ابحثوا جيدا في المرافق كلها..! وصناديق الطائرة ... هذا أمر محير..! عاد الكابتن هارلو إلى مقصورة القيادة ؛ ويده على جبينه من أثر المفاجأة ... فالتفت إلى مساعده : السيد مانديسو ! راجع لائحة المسافرين وتأكد من المقعد رقم... A033 ( قالتها الآنسة هالوبيتا ) ... ضغط مانديسو على زر هناك .. وكم كانت دهشته وهو يرى الرقم شاغرا ...! السيد الكابتن هارلو ..! كما ترى ... لا وجود لإسم في هذا المقعد !! ونحن قبل الإقلاع كانت المقاعد مليئة عن آخرها لا وجود لمقعد فارغ . ضغط الكابتن هارلو على شاشة أمامه محاولا الاتصال ... يظهر على الشاشة موظف جمارك في مطار محمد الخامس بالمغرب : مرحبا .. الكابتن هارلو ... مطار محمد الخامس المغرب .. نحن في الخدمة. السيد توفيك .. تأكد لي من المقعد رقم... A033 ... من يشغله ...؟ . يرد توفيق .. باستغراب شديد : وجدته فارغا ..! وأنا الذي رفعت تقريرا منذ ثلاث ساعات بشغل جميع مقاعد طائرتكم ... ياللغرابة !! أقفل الكابتن الشاشة ... والتفت إلى الآنسة هالوبيتا : اسألي أصحاب المقاعد المجاورة للرقم .. A033 ... ذهبت هالوبيتا ؛ وما زالت شحوب الرعب تكسوتقاسيم وجهها وقالت : من فضلكم السيد .. من كان بجوارك في هذا المقعد ؟! همهم أحدهم ؛ وكان يحتسي شايا : إنها كانت فتاة جميلة .. ذهبت .. ولم تعد حتى الآن ... حاولت الإستئناس بها .. لكن عيني لم تطاوعني ... كلما حاولت شعرت بالحاجة إلى النوم... قهقه أحد وهو يتوجه إلى الآنسة هالوبيتا : حاولت أن تشاركني قضمة شوكولاطة فأبت .. يبدو لي أنها من عائلة هندية أرستقراطية عريقة ..ها.. ها.. ها.. * * * الآنسة هالوبيتا..! الآنسة هالوبيتا ! أخذت لوحة الإعلامات الضوئية تومض بشدة .. فقفلت عائدة إلى القمرة ليبادرها الكابتن هارلو : توصلنا.. بأمر عاجل.. من برج المراقبة بإسطنبول يأمرنا بالنزول الاضطراري في مطار إزمير ... أخبري المسافرين أن كل شيء سيكون على ما يرام .. ولا داعي للقلق... فالطائرة تنتظرهم في في مطار إزمير.. وبعد برهة شعر الركاب أن طائرتهم .. شرعت في الهبوط ، فأخذهم الهلع ... وهم يتساءلون في هرج ومرج تختلط فيه لغات ولهجات عديدة من هندية .. انجليزية ...باكستانية ..وأفغانية : أين نحن..؟ ماذا أصاب الطائرة .. ياإلهي ... ياإلهي... هل هو نهاية مصيرنا ...!!! لا... لا... لا... عودوا إلى رشدكم ...سيداتي سادتي ..! نزول اضطراري فقط للتزود بالوقود ومن ثم سنكمل رحلتنا إلى إسطنبول... شكرا. ( شرعت ترددها مكبرات للصوت المنبثة على جنبات المقاعد ) في خضم هذا اللغط التفت الفقيه العربي إلى ميلود : آولدي ميلود .. آش كايقولو... كولشي منوّضْها قربلا إلا احْنا .. ياكْ لاباسْ ... ميلود ... في دهشة ... حينما رأى مقعد دوليم فارغا : مْشينا فيها... ياربِّ السلامة... ارتطمت عجلات الطائرة بالأرض.. وأخذ الجميع يتأهب لنزول السلم . * * * كانت الأضواء الكاشفة تضيء المدرج... ولشد ما كان الرعب يستولي على المسافرين وهم يرون فيلقا عسكريا يطوق المطار ...! ووحدات من الكوماندو متوجهة ببنادقها تجاه الطائرة ... يتقدمهم عميدهم بزي عسكري يحمل راديو سمعبصري تتلاحق على شاشته الصغيرة صور متحركة ؛ وإلى جواره مساعدون له ... بمسدسات صغيرة تعلو صدرياتهم . نعم أنا العميد بارخو ... من مطار إزمير .. جاءتنا معلومات بأن مسافرة تدعى دوليم ... مطلوبة للتحقيق معها في قضية اختفاء الطائرة الماليزية بوينغ 777 التي كانت مضيفة على متنها...! أخذ أفراد الكوماندو يقتربون خطوة .. خطوة باتجاه الطائرة ؛ في حين كان هناك أربعة أفراد لشرطة المطار بزي مدني يتفحصون جوازات السفر والأوراق الثبوتية ... ثم إركابهم إلى طائرة هناك تابعة للخطوط التركية . وقف الركاب جميعهم في طابور واحد ... ومن بينهم الفقيه العربي وميلود ... ينتظران دورهما للتحقيق ... وقد أصابهما وجوم كبير... أي مصير ينتظرهما..!!. وبينما هما كذلك إذا بدوي انفجاريسمع بمقربة من الطائرة ؛ على إثره تصاعدت أعمدة الدخان... حتى ظن الجميع أن مستودعها الوقودي تعرض لفعل إجرامي ... فذعر الجميع لهول الحادث ... وإذا بيد تمسك ميلود وتسحبه إلى الخلف هو والفقيه العربي .. وسط كرِّ وفرِّ...!! ساد ميدان المدرج ؛ كل يحاول أن ينجو بنفسه ..!! . اهدأو.. . اهدأو.. . اهدأو.. إنه فقط تسرب خفيف للغاز ؛ استطعنا تطويقه .. هيا اصعدوا الطائرة ..! وسنكمل التحقيق معكم داخلها ..( كان أحد أفراد شرطة المطار يردد في مكبر صوت يدوي ) ... انزوت دوليم وميلود والفقيه العربي إلى الجهة الخلفية ومنها تسللوا عبر سرداب قادهم جميعا إلى جناح الإقلاعات والوصول ومن ثم حثوا خطاهم إلى الميناء حيث سفينة تحمل العلم الهندي . * * * المياه هادئة اليوم.. ولعلها ساعة الإبحار ؛ ( قالها ضابط في البحرية الهندية ، وهو منتصب أمام لوحة مفاتيح الملاحة الإلكترونية إلى جانب أحد مساعديه ..) استقلت دوليم وميلود والفقيه العربي مقاعد في الطابق الأول الذي كان غاصا بالمسافرين ذوي سحنات باكسانية وهندية ، بعض أنظارهم كانت متجهة إلى دوليم .. كلها غنج وتودد ..ايه.. ..ايه.. ..ايه.. ! ... تحركت دواليب السفينة .. وشرعت الحبال تنفك عن حافة المرسى... وماهي إلا لحظات حتى اتخذت سبيلها وسط مراكب وبواخر كانت راسية هناك . غير ميلود مقعده إلى جوار دوليم التي ضغطت بحرارة على يده ... وضمته إلى صدرها الناهد ... فغمغم في فتحة صدرها : فايْنْ حْنا ماشْيينْ... عْييتْ ...مِنْ السفرْ... بْغيتْ ... نرْتاحو...فْشيمْكانْ....!! رفعت رأسه بين يديها... وهي تتأمله بعينين متموجتين كلجتين لبحر عميق..! قرِّبنا... مابْقا والو.. غيرْ.. صاحْبكْ هو لِّطولْ عْلينا السفرْ... عْلاشْ؟! ( قاطعها ميلود ؛ محملقا في عينيها ) هوِّ راجلْ مزْيانْ... مزْيانْ... ولكنْ ساكنْ فيه واحدْ المعدنْ صْعيبْ... إلى مْشى حتِّى .. تمْتمْ بْشي كلماتْ منّو..كتقْبطْني السخانه أو.. كنْحسْ بْحالْ العافيه .. غتحْرقْني...!! التفت ميلود إلى الفقيه العربي ... يتأمله . كان هذا الأخير نائما موليا جانبه الأيمن صوب كوة صغيرة تطل على البحر ... [email protected]