لم تفلح كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل في مساعيهما الدبلوماسية والإعلامية للحيلولة دون قيام الدكتور محمود أحمدي نجاد رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية بزيارة لبنان . وكانت الخارجية الأمريكية قد انتقدت بشدة هذه الزيارة رغم أنها زيارة عادية تأتي بناء على دعوة رسمية من طرف رئيس الدولة اللبنانية العماد ميشال سليمان ، وقامت الوزيرة هيلاري كلينتون بمناقشة هذا الموضوع مع هذا الأخير على هامش انعقاد أشغال الجمعية العامة لهيئة الأممالمتحدة . ونقل الكيان الصهيوني من جهته عن طريق فرنسا والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون رسالة إلى ميشال سليمان ورئيس الحكومة سعد الحريري مفادها أن زيارة الرئيس الإيراني إلى لبنان من الممكن أن تؤدي إلى تصعيد في المنطقة ، وطالب من خلال هذه الرسالة الحكومة اللبنانية بعدم السماح بزيارة أحمدي نجاد إلى لبنان . غير أن هذه المساعي غير الحميدة منيت في نهاية المطاف بفشل ذريع لأن أحمدي نجاد سيحل بالعاصمة بيروت صباح الأربعاء مرفوقا بأبرز مستشاريه السياسيين والعسكريين ، وبنحو خمسين من رجال المال والأعمال والفاعلين الاقتصاديين الإيرانيين . وكل الاستعدادات والترتيبات والتدابير الأمنية المتخذة تؤشر بأن هذه الزيارة التاريخية ستكون ناجحة بكل المقاييس وأن أحمدي نجاد - المرحب به على أوسع نطاق سياسي واجتماعي في لبنان باستثناء بعض الأصوات النشاز الموالية للمشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة - سيحظى باستقبال شعبي وحماسي حاشد على طول الخط من المطار الدولي إلى مقر إقامته بقلب العاصمة بيروت ، حيث سيقام له حفل استقبال رسمي في قصر بعبدا وفق البرتوكول الإيراني . ومن بيروت سينتقل أحمدي نجاد معززا مكرما إلى جنوب لبنان ، حيث رحبت قيادتا كل من حزب الله وحركة أمل التي يتزعمها نبيه بري في بيان مشترك لهما بمن أسموه " الرئيس المقاوم على أرض الوطن المقاوم " ودعتا الشعب اللبناني وخصوصا الجنوبيين إلى تسجيل مشاركتهم الواسعة في مراسم وأعراس الاستقبال في مدن وقرى الجنوب الحدودية مع العدو الصهيوني التي من المحتمل أن يزورها الرئيس أحمدي نجاد وهي حصبيا ، النبطية ، مرجعيون ، مارون الراس وبنت جبيل ، وذلك عرفانا من أهل هذه القرى والمدن لموقف جمهورية إيران الإسلامية الداعم للمقاومة اللبنانية عسكريا في حربها البطولية صيف عام 2006 ضد الكيان الإسرائيلي ، وامتنانا بمساهمتها الكبيرة في جهود الإعمار بعد الانتصار المدوي للمقاومة ودحرها لفلول الجيش الصهيوني الجبان . وإذا كنا نتفهم ما تشكله هذه الزيارة من استفزاز للإدارة الأمريكية بالنظر إلى العداء التاريخي بينها وبين النظام الإيراني الحاكم منذ الثورة الإسلامية على الشاه رضا بهلوي ، ونتفهم حجم المخاوف التي تنتاب الكيان الصهيوني من جراء ما قد يتمخض عليه اللقاء المباشر بين هذا الرئيس المثير للجدل بتصريحاته النارية وعدائه الشديد للصهيونية وبين قادة المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني ، فإننا لا نفهم موقف بعض الدول العربية المعترضة والمتحفظة على هذه الزيارة بأمر وتوجيه من الأمريكان والصهاينة ، وموقف بعض الأطياف السياسية اللبنانية المتمثلة فيما يعرف بفريق 14 آذار الذي اعتبرت أمانته العامة ، بحسب ما جاء في بيان صادر عنها ، زيارة أحمدي نجاد للبنان مثيرة للريبة والحذر بسبب تشدد هذا الأخير ومواقفه المناهضة للسلام . وقد أبدى بعض قادة هذا الفريق تخوفهم من ردة الفعل الإسرائيلية على هذه الزيارة التي وصفوها بالاستفزازية ، في حال ما إذا أصر أحمدي نجاد على الوقوف على مشارف الحدود اللبنانية المتاخمة للأراضي الفلسطينية المحتلة ، وإلقائه خطابا تهديديا لها من هناك . وبادرت في وقت سابق بعض العناصر المحسوبة على هذا الفريق إلى رفع لافتات مسيئة لشخص الرئيس أحمدي نجاد في بعض مدن الشمال اللبناني وبعض الشعارات غير المرحبة به ، قبل أن تضطر إلى سحبها في الساعات القليلة الموالية مرغمة من قبل رجال حزب الله المجاهدين وقوات الأمن اللبنانية اليقظة . إن تضايق هذا الفريق الخائن للوطن والقضية من هذه الزيارة هو بسبب تخوفه مما قد تمنحه زيارة هذا الرجل العظيم من دعم مادي ومعنوي للمقاومة الإسلامية بحضوره إلى معاقلها ، ومن شرف وقوة للفريق الآخر في ظل الظروف الراهنة والحراك السياسي المحتدم بين مختلف الفرقاء والانقسام الذي يعيش على وقعه الشارع اللبناني . أما تخوف الصهاينة من هذه الزيارة فإنها تأتي من إدراكهم لحجم الترسانة العسكرية الإيرانية ومنظومتها الدفاعية والهجومية المتطورة ، ومن القنبلة النووية التي باتت إيران على مرمى حجر من إنتاجها وقلب موازين القوى في المنطقة بامتلاكها . كما يأتي تخوفهم كذلك من قوة شخصية هذا الرجل الذي أكرم به الله تعالى الأمة الإسلامية لترهيب الكيان الصهيوني وردعه وكبح جماحه وترويعه وفضحه وتمريغ أنفه في تراب المنتديات والمحافل الدولية . هذه الشخصية التي يستمد قوتها أحمدي نجاد من إيمانه بالله وثقته الكبيرة في إمكانيات بلده وقدرات شعبه على الصمود والمواجهة ، ويستمدها كذلك من بساطته في العيش والمسكن والمأكل والملبس ، ومن تواضعه الشديد الذي يذهل ويبهر كل من التقى به أو حل ضيفا عليه في طهران . وقد سبق لوسائل الإعلام الإيرانية أن نشرت قائمة الممتلكات التي بادر أحمدي نجاد إلى التصريح بها في أعقاب فوزه بمنصب رئيس الجمهورية . ومن جملة ما جاء في هذه القائمة امتلاكه لسيارة متواضعة من طراز بيجو 504 تعود إلى حوالي ثلاثين عاما ، ومنزلا قديما بني قبل أربعين سنة مساحته 170 مترا مربعا يقع في حي شعبي شرق طهران ، وحسابين مصرفيين أحدهما فارغ والآخر يصل إليه راتبه الشهري بصفته أستاذا جامعيا . ولا زال إلى يومنا هذا - وهو رئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية العظمى - يسكن حسب ما يروى عنه بالمنزل الذي ظل يسكنه من أيام كان رئيسا لبلدية طهران . وتأملوا معي قبل الختام هذه الصورة النادرة الملتقطة للرئيس أحمدي نجاد ، والتي تبرز بوضوح كيف يعيش هذا الرجل الذي يقض مضجع الكيان الصهيوني في كل مرة بتهديده له بالمحو من الوجود وتوعده بالإزالة من خارطة العالم إن عاجلا أو آجلا ، وكيف ينام هذا المسلم المؤمن الذي دوخ أمريكا وحير ساستها وعسكرييها بصموده وصلابة موقفه وبعدم اكتراثه بالتهديدات العسكرية والعقوبات الاقتصادية والمصرفية المفروضة على بلاده . هذا هو أحمدي نجاد الذي وقف منذ وصوله إلى قمة هرم السلطة بإيران شوكة في حلق الكيان الصهيوني الغاصب ، والذي تشكل زيارته اليوم للبنان وجنوبه المقاوم مصدرا للقلق والأرق والجنون بالنسبة لأمريكا وإسرائيل . هذا هو الرجل الذي زعزع بمفرده أركان وزارة الدفاع الإسرائيلية بسبب هذه الزيارة المفاجئة وطير النوم من جفون ساسة الكيان العبري ودبلوماسييه ، واستنفر كل أجهزته الإعلامية والاستخباراتية وفرض عليها تسخير جميع إمكانياتها البشرية والتقنية لمواكبة هذه الزيارة وتتبع مسارها ونتائجها وتداعياتها على الصعيد الداخلي للبنان وعلى محيطه الإقليمي والدولي . إن إسرائيل تضطرب وتخشى وترتعد فرائسها من زيارة أحمدي نجاد لجنوب لبنان ، ولا تلقي بالا - أقول افتراضا - لقيام عشرة زعماء عرب بزيارة مماثلة لجنوب لبنان ومعهم التزامات مكتوبة بدعم المقاومة اللبنانية ومساندتها سياسيا وماليا وعسكريا ، لأن ساستها وقادتها العسكريين يعرفون أنه شتان ما بين القنبلة النووية الإيرانية والقنبلة الشفوية العربية . يعرفون جيدا حجم العرب وقدرتهم على المواجهة والصمود في وجه التهديدات الأمريكية والإسرائيلية للخارجين عن طوعها وعن دائرة تعليماتها وأوامرها ، ويدركون ما بوسع هذه الأمة المفككة الأوصال القيام به ، وهي الأمة العاجزة التي تعيش عالة على العالم عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا ، والأمة التي عوض أن تصرف أنظمتها وحكوماتها الفاشلة الميزانيات على البحث العلمي وتشجيع الباحثين والطاقات المبدعة الخلاقة في الوطن العربي ، فإنها تصرفها بكل سخاء على مظاهر البذخ والترف وعلى التعزيزات الأمنية والقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه الضخمة لتفريق المظاهرات وقمع الشعوب والانتفاضات والمسيرات السلمية المطالبة بالحق في الشغل والسكن وبالحد الأدنى من العيش الكريم . يعرفون جيدا أين يبدد رجال الأعمال وأثرياء هذه الأمة ثرواتهم ، وفي أي المجالات يستثمرون أموالهم . يعرفون كما نعرف نحن أنهم يخسرونها على موائد القمار طبعا وعلى تربية الخيول والجحشات في الاصطبلات الأوروبية والأمريكية ، ويستثمرونها في إطلاق فضائيات الأغاني الماجنة ومجالس الطرب وقنوات الفيديو كليب وأفلام العري والرومانسية ومحطات الإباحية والعهارة المقنعة . يعرفون جيدا أن العرب هم الأمة الجبانة التي ما إن شنق أحد رؤسائها وزعمائها البارزين فجر ذات عيد أضحى ، حتى سارع آخرون إلى نزع سراويلهم وتسليم ما كانوا يتوهمون بأنها معدات ووسائل تقنية لإنتاج السلاح النووي والكيماوي للأمم المتحدة وللأمريكان ، اتقاء شرهم وإنقاذا لأرواحهم ورقابهم من حبل مشنقة لا تفرق بين زعيم سياسي وزعيم عصابة ، ولا تعترف لرئيس دولة ذات سيادة بحصانة أو حرمة . [email protected]