احتضن المعهد الفرنسي بالدار البيضاء مساء الأربعاء لقاء حنينيا استرجعت فيه ثلة من المثقفات المنتميات لمشارب فكرية مختلفة، لكنها توحدت في نبع واحد يصدر عن فكر الراحل الكبير محمد أركون، ذاكرة الرجل الفكرية وإسهاماته في تجديد الفكر الإسلامي ومساءلة العقل العربي. فعلى طاولة واحدة، التقت باحثات ومتخصصات في الفكر والفلسفة وعلوم السياسة لتقديم شهاداتهن بحق هذا المفكر الذي أغنى المنجز العربي بمؤلفات عكست رؤيته المجددة للفكر والموروث الثقافي العربي والإسلامي، والناقدة لكل المسلمات، في اتجاه بلورة رؤى حديثة تقوم على مراجعة كل الأنماط التقليدية في الثقافة الإسلامية. وبالمناسبة تم عرض شريط وثائقي للباحثة ورئيسة جمعية (ذاكرة-بروكسيل) مريم عمراني تحت عنوان "محمد أركون، من أجل فكر متحرر"، عرض فيه الراحل تصوراته وعصارة قراءاته النقدية الدقيقة للمنتج الفكري الإسلامي، وذلك قبل سبعة أشهر من رحيله ذات ثلاثاء من شهر شتنبر 2010 بعاصمة الأنوار باريس. واعتبرت عمراني أن هذا العرفان النسائي بإنجازات الرجل يشكل محطة للتلاقح الفكري والنقاش حول جرأة أركون وشجاعته في تجاوز التفكير النمطي التقليدي، خاصة مقولاته عن "الإسلاميات التطبيقية" أو ما كان يطلق عليه "الإسلامولوجيا التطبيقية"، وهي التخصص الذي عمل على تطويره كمختبر للدراسة والبحث بمختلف المؤسسات الجامعية الأوروبية والأمريكية والمغاربية. و"الإسلاميات التطبيقية" مشروع فكري تبناه أركون بهدف قراءة ماضي الإسلام وحاضره، انطلاقا من خطابات المجتمعات الإسلامية والعربية وحاجياتها الحالية. وهو ما يعني بالنسبة للباحثة، محاولة منه لإعادة قراءة تاريخ المدارس الفلسفية الإسلامية باستخدام أدوات إبستمولوجية ومعرفية حديثة وإخضاع تلك التيارات الفلسفية لمجهر النقد بدل التسليم بها كحقائق غير قابلة للمراجعة. وأكدت أن الشريط الوثائقي الذي جرى عرضه هو دعوة للتعايش الفكري، مشددة في الاتجاه ذاته على أنه حان الوقت للتفكير بجدية في مسألة "العيش المشترك" في إطار يصون الفكر الحر والمجدد. أما المفكرة والباحثة الألمانية أورسولا غونتر، التي تعتبر نفسها الابنة الروحية لمحمد أركون، فاعتبرت أن هذه الشخصية تعد من بين أبرز الأسماء التي بصمت تاريخ الفكر الإسلامي، والتي آمنت بالحوار بين الأديان ودعت إليه. وأضافت أن أركون كان شغله الأوحد ترسيخ ثقافة الحوار داخل منظومة الفكر الإسلامي، واستخراج الأدلة التاريخية التي تؤكد على أنه مبدأ متجذرا في العقل الإسلامي، مشيرة إلى أنه كان على قناعة دائمة بأن التاريخ لم يكن دوما تاريخ صراعات بين الغرب والشرق. وبحنين دافق، وصونا لذاكرة هذا المفكر العربي الذي أثرى المكتبة العربية، أكدت زوجة الراحل تورية اليعقوبي أركون، على أنها تجهد من أجل "أن لا يتحول كل ما قدمه أركون إلى نسي منسي بين رفوف المكتبات"، مشيرة إلى أنها قامت بعمل ضخم لتجميع أرشيف المفكر الراحل، وإحداث مؤسسة تصون تراثه المعرفي حملت إسم "مؤسسة محمد أركون للسلم بين الثقافات". وقالت إن إحداث هذه المؤسسة يتغيى تجميع فكر أركون وإنتاجه المعرفي بما في ذلك الندوات واللقاءات المصورة والمسجلة وكل النصوص التي خلفها بعد رحيله قبل أربع سنوات. وأوضحت أن هذا العمل تطلب منها ثلاث سنوات، غير أنه سيمكن من حفظ ذاكرة محمد أركون حية، وجعل مؤلفاته مفتوحة للعموم، ملحة على أنها باتت تراثا إنسانيا يجدر حفظه لتطلع عليه الأجيال الصاعدة، مع إشارتها إلى أنها تعتزم إعادة طبع المؤلفات التي نفذت، ونشر الدراسات التي تتناول بالدرس والتحليل فكر محمد أركون، وتنظيم ندوات متخصصة بفرنسا والمغرب. والراحل محمد أركون من مواليد 1928 ببلدة تاوريرت في تيزي وزو بمنطقة القبائل الكبرى بالجزائر. وبعد أن أكمل دراسته الثانوية في وهران، تابع محمد أركون تعليمه الجامعي بكلية الفلسفة في الجزائر قبل أن ينتقل إلى السوربون في باريس، حيث واصل دراسته. وقد ترك الراحل ، مكتبة واسعة من المؤلفات من بينها "الإسلام : أصالة وممارسة" و"تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، أو نقد العقل الإسلامي" و "الفكر الإسلامي : قراءة علمية" و "الإسلام : الأخلاق والسياسة" و "من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي" و "الإسلام أوروبا الغرب ، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة" ، و"نزعة الأنسنة في الفكر العربي" ، و" قضايا في نقد العقل الديني ، كيف نفهم الإسلام اليوم".