لا يختلف المراقبون كما السياسيون في تشخيص الحالة السياسية بالمغرب ،فهناك من يتحدث عن موت السياسة وهناك من يصف ما يجري بالعبث السياسي و هناك من يلطف لهجته فيكتفي بالحديث عن الفراغ السياسي .وإذا تأملنا هذه المفردات سنجدها ترمي إلى نتيجة واحدة و هي أن المشهد السياسي و على الرغم من كل هذا الضجيج و الصخب الذي يغشاه ،يمكننا القول أنه دخل في شبه موت سريري، ما أدى إلى رتابة قاتلة،نزلت بالجدل و النقاش السياسي و طوحت به إلى مستويات غير مسبوقة من الركود و الإنكماش ،وهي الوضعية التي تتحمل جل الأحزاب السياسية وزر نتائجها مع تفاوت في المسؤولية إذا أخدنا بعين الاعتبار حجم و دور الأحزاب في سياقات المرحلة السياسية التي انطلقت مع عهد التناوب التوافقي. وحتى لا يبقى الكلام عاما ،سأركز حديثي حول الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية نظرا لأهمية الحزب في البناء السياسي الوطني و لكونه كان في قلب قيادة هذه المرحلة الحرجة والدقيقة من تاريخ المغرب. فلماذا إذن حزب الإتحاد الإشتراكي ؟و هل تمة علاقة بين الحالة السياسية الراهنة و الحالة التي بات يوجد عليها حزب الوردة؟ وهل هناك من انعكاسات على الحياة الحزبية و السياسية للطريقة التي أدار بها الإتحاد و ما يزال الخلافات التي برزت داخله ؟ و بلغة أكثر صرامة هل هناك مسؤولية يتحملها الاتحاديون في ما آل إليه الوضع السياسي الراهن ؟ قبل ملامسة هذه الأسئلة ،وجبت الإشارة إلى أن هذه الورقة لا تهدف إلى شيطنة الإتحاد الاشتراكي و لا إلى إلقاء كل اللوم عليه ،بقدر ما هي مساهمة في النقاش و إبداء الرأي حول مسار حزب وطني أساسي علقت عليه آمال عريضة في بناء الديمقراطية و دولة القانون. لنبدأ من البداية ،من المؤاخذات أو لنقل من بين الأعطاب البنيوية التي عانى منها التناوب التوافقي هي أنه انطلق عاريا من أي سند دستوري ،الشيء الذي عرضه للإرتكاس حينما عين إدريس جطو من عالم المال و الاقتصاد على رأس الوزارة الأولى عقب انتخابات 2002، و هو ما دفع بالاتحاديين يومها إلى إصدار بيان عبروا فيه عن موقف الحزب مما أسموه بالتراجع عن المنهجية الديمقراطية : إلا أن هذا التراجع لم يدفع الاتحاديين إلى تغيير اتجاههم حيث اكتفوا بتسجيل موقف دون أن يرتبوا عليه الآثار السياسية اللازمة كأن يختاروا العودة مثلا إلى المعارضة بدلا من المشاركة في حكومة برئاسة وزير أول من خارج الحقل السياسي إلى جانب أحزاب من اليمين ليتعمق بذلك الخلط و تتداخل الألوان السياسية مع بعضها البعض و ليتجه بعدها أنصار المشاركة داخل الإتحاد إلى إنتاج خطاب يحتمي تحت مظلة تدبير مرحلة الانتقال الديمقراطي التي طال أمدها حتى أصبح العديد من علماء السياسية يشككون في ماهيتها ووجودها أصلا . و بسبب تكريس هذه الصورة مع توالي الأيام و التي تبدو فيها الأشياء تسير على رأسها بدلا من على قدميها ،نجحت الأحزاب السياسية في تخفيض شعبيتها و تنفير الناس من العملية الانتخابية لكونهم لم يعودوا قادرين على تمييز هذا الحزب عن ذاك و أصبحت مقولة "ولاد عبد الواحد كلهم واحد " التي طالما رددها على أسماعنا في مدرجات كلية الآداب و العلوم الإنسانية السوسيولوجي و عضو المكتب السياسي لحزب الإتحاد الإشتراكي محمد جسوس شفاه الله هذه المقولة أصبحت في وعي الفئات الواسعة تلخص تناقضات المشهد السياسي الذي تعايشت فيه أحزاب يمينية مع أحزاب اشتراكية لمدة تجاوزت عقدا من الزمن، و هكذا وضع لا يمكن التقليل من خطورته و تداعياته المدمرة على الحياة السياسية التي لا زمتها العطالة و عمتها الميوعة السياسية و هو الأمر الذي دفع بالعديد من القيادات و الأطر الاتحادية إلى دق ناقوس الخطر و إطلاق مبادرات علها تنجح في إخراج الإتحاد من واحدة من أخطر الوعكات الصحية التي ألمت به خلال العقد الأخير من تاريخه . و من بين الصرخات ،تلك التي أطلقها إبن الزعيم الإتحادي عبد الرحيم بوعبيد وعضو المكتب السياسي علي بوعبيد حين عنون إحدى مقالاته بإحدى الأسبوعيات الناطقة بالفرنسية "socialistes reveillez-vousأيها الإشتراكيون أفيقوا " أقر فيها ب "أن مصير الديمقراطية بالمغرب في مأزق ...و الإنتقال إلى مجتمع ديمقراطي كمطلب جماعي لم يعد منذ 2002 هدفا حقيقيا لأحد.إنها معاينة قاسية " كما دعا في إحدى تصريحاته إلى ضرورة امتلاك الحزب لحرية قراراته و "كما يستطيع الدخول إلى الحكومة يجب أن يكون قادرا على الخروج منها إذا استدعت الظروف ذلك ". لكن يبدو أن الشعار الذي أطلقه زعيم الاتحاديين الراحل عبد الرحيم بوعبيد حينما قال "المقاعد لا تهمنا "لم يعد يستهو أحدا من ربابنة الإتحاد الحاليين و هو ما اتضح جليا في دعوة السيد عبد الواحد الراضي الكاتب الأول للإتحاد الاشتراكي الذي دافع باستماتة على بقاء الحزب في الحكومة حينما اعتبر أن "الدخول في ديناميكية الإصلاح ... تقتضي التواجد في "مركز القرار" بنسبيته و محدوديته و بعيدا عن التساؤل حول صحة تواجد الحكومة في "مركز القرار" من عدمه فإن الاستمرار في الحكومة أو الإنسحاب منها ظل يمثل واحدة من الإشكالات الخلافية بين الاتحاديين ، بين متشبت بالبقاء في الحكومة مهما كانت كلفة الفاتورة التنظيمية والسياسية و بين دعاة الانسحاب و فتح أبواب الحزب من أجل تقويم المسار ومراجعة الرهانات و من أقوى المبادرات تلك التي تزعمها أعضاء المكتب السياسي الثلاثي علي بوعبيد و محمد الأشعري والعربي عجول الذين عبروا في مناسبات كثيرة عن إرادة تهدف إلى إيقاف الانحدار ، واسترجاع القرار إلى مؤسسات الحزب و على الرغم من أن التباين و الاختلاف داخل الحزب الواحد هو مسألة مطلوبة وضرورية لإنضاج الأجوبة المناسبة للمشكلات المطروحة إلا أنها في حالة معظم الأحزاب السياسية لا تنتهي إلى إثراء وتصليب الممارسة الديمقراطية الداخلية بقدر ما تكشف عن هشاشة و نقص مريع على هذا الصعيد و تعبر عن ضيق الهامش المتروك لنقاش الإستراتيجيات المعتمدة . و في هذا السياق تطفو على السطح خطورة بنية الاستبداد التي استبطنتها بعض الأحزاب السياسية و لم تشرع في تفكيك بعض مظاهرها إلا في الآونة الأخيرة ،فالأمناء العامون لم تكن تنتزعهم من مواقعهم سوى الموت و كان منهم من استقر على كرسي الأمانة العامة لمدة نافست الجمهوريات العتيقة و الملكيات التقليدية ، و عليه فليس سليما أن يضع المرء كل البيض الفاسد في سلة السلطة ،فالأحزاب السياسية تتحمل بدورها قسطا من المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع الحالية : و المنطق يدفع نحو أولوية تنظيف الأحزاب من بنيات و أغلال ثقافة الاستبداد و التخلف و تحريرها من قبضة ما يسمى les eminences grises التي تقوم مقام مؤسسات الحزب في توجيه سياساته بشكل خفي و مستتر . وهذه ظاهرة خطيرة قادرة لوحدها إفراغ العمل الحزبي من غاياته النبيلة في التعبير عن آمال و تطلعات الفئات الشعبية التواقة للانفكاك من البؤس والاستغلال الاجتماعي. فلا يعقل أن نلوم المواطنين على عدم اهتمامهم بالسياسة وبالانتخابات على وجه التحديد ما دام مفهوم السياسة تم سحقه من طرف السلطة والأحزاب السياسية كل من موقعه ، و كل بطريقته .لذا فالسياسة التي نهجتها الدولة في المراحل السابقة اتجاه الأحزاب و التي تأسست على الإضرار ببعضها ، إما عن طريق البطش بقياداتها وأطرها و إما عبر تشتيتها وزرع كل بذور الفتن بداخلها و انصياع هذه الأحزاب لمثل هكذا سياسات قد أضر كثيرا بشخصيتها المعنوية و بخس صورتها لدى مختلف الفئات الاجتماعية و خاصة منها ،الأحزاب التي تجر وراءها تاريخا طويلا من النضال كما هو حال حزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية .فكيف يستقيم المنطق إذن لتفسير كل هذه التصدعات التي حدثت في الماضي القريب و ما تزال تحدث في أسوار هذا الحزب الذي فقد جزءا يسيرا من رأسماله المادي و الرمزي و فقد بذلك عددا لا يستهان به من القيادات والمناضلين الذين اضطروا لتأسيس إطارات جديدة فيما اختار بعضهم تجميد نشاطهم بالمفهوم الحزبي بعدما ضاقت عليهم فضاءات الحزب بما رحبت .فأمام استحكام الأزمة داخل حزب القوات الشعبية يبقى السؤال مشروعا حول مدى قدرة الحزب على لم الأسرة الاتحادية ؟ وحول تأسيس حزب اشتراكي كبير؟ وعن مآل الإصلاحات السياسية والدستورية أو لنقل الجيل الجديد من الإصلاحات ما دام هذا التعبير بات يمارس إغراء قويا على السياسيين . إن الاتحاديين هم أدرى من غيرهم أن الديمقراطية تشترط أحزابا قوية تخلو من المسلكيات الضارة بالمصلحة العامة و لا مكان بداخلها لتوالد الاتجاهات النفعية و قوية كذلك ببرامجها واختياراتها السياسية والاجتماعية . إن الأحزاب السياسية تعيش أزمة مشروعية ،فالانتخابات التي هي واحدة من المعايير الأساسية للتمثيلية الديمقراطية هوت إلى قعر غير مسبوق عام 2007 حيث قاطعها أكثر من ثلثي الكتلة الناخبة ،و معلوم أن ضعف الأحزاب لا يخدم مصلحة البلاد و لا سبيل إلى تجاوز هذه الوضعية إلا بإصلاحات حقيقية تتبناها الأحزاب بوضوح و تتجاوب معها الدولة بجرأة و إرادة سياسية .عندها فقط ستذب الروح من جديد في شرايين السياسة و السياسيين. *صحفي معتقل رأي بسجن سلا بالمغرب