أجرى الصحافي عبد الرحمان الأشعري بصحيفة الشروق الجديد حوارا صحافيا مع الباحث والحقوقي عبد السلام أديب حول مدى تحمل القاموس السياسي المغربي مفهوم "التقاعد السياسي" وذلك بتاريخ فاتح يوليوز 2010 ، وفي ما يلي مضمون الحوار. ما معنى التقاعد السياسي؟ وهل هناك معنى اصطلاحي معين لمفهوم "التقاعد السياسي" في أبجديات العلوم السياسية؟ انكم تقصدون هنا بالتقاعد السياسي اعتزال أحد الفاعلين السياسيين مجال السياسة، لأن عبارة التقاعد السياسي لا تعني شيئا بقدر ما تخلط الأشياء في أذهاننا خصوصا وأن كلمة التقاعد تعني إنهاء خدمة الموظف أو العامل إما بإرادته كالتقاعد الطوعي أو بسبب حد السن كبلوغ الموظف أو المستخدم سن الستين سنة مثلا كما هو معمول به في القانون المغربي. اذن فاستعمال كلمة التقاعد في مجال السياسة هو مجرد اقتباس لفظي لوصف حالة اختفاء أحد السياسيين عن الأنظار، كما حدث بالنسبة لليونيل جوسبان في فرنسا بعدما انهزم في الانتخابات الرئاسية وكما فعل عبد الرحمان اليوسفي بعد تجربة التناوب التوافقي في المغرب، وهناك العديد من الأمثلة كحالة عبد الله ابراهيم في اطار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وكحالة أبراهام السرفاتي بعد عودته من المنفى الذي دفعه إليه عنوة الحسن الثاني أو كحالة جلال السعيد بعد اختفاء إدريس البصري... وبطبيعة الحال فإن مجال السياسة هو مجال مفتوح يدخله الفاعلون السياسيون متى شاءوا ويخرجون منه متى شاءوا أو لأسباب معينة، قد يكون بعضها إرادي ذاتي وقد يكون بعضها الآخر موضوعي. والغلط الذي قد توقعنا فيه عبارة "التقاعد السياسي" هو اعتبار السياسة "كوظيفة عمومية" يدخل إليها الفاعل السياسي بعدما تتوفر فيه شروط معينة ويجتاز من أجل ذلك مباراة للاختيار تم بعد تفوقه يبدأ في شغل مهام وظيفته بعد اجتياز فترة تمرين معينة ثم إن هذه الوظيفة قد تنقطع لسبب ما قد يكون بعضها إراديا أو قانونيا، فيصبح الفاعل السياسي في حالة تقاعد. وسنلاحظ أن الفاعل السياسي المغربي قد يقترب من هذه النمطية على أساس تحوله الى مجرد موظف سياسي... لكن واقع الأمر بالنسبة للفاعلين السياسيين عموما هو غير ذلك، فالفاعل السياسي يعبر سياسيا عن مصالح طبقة سياسية معينة التي تكون في صراع سياسي متواصل مع الطبقات السياسية الأخرى. وبطبيعة الحال فإن لكل طبقة سياسية مصالح وإستراتيجية معينة لبلوغ أهدافها يتبناها فاعلوها السياسيين وأحزابها السياسية وفي خضم الصراع السياسي يتبوأ بعض السياسيين الواجهة الإعلامية فيتحدد مسارهم السياسي صعودا أو نزولا حسب عوامل الهيمنة في المشهد السياسي القائم. في بلادنا يحتدم الصراع بين مكونات الطبقات الثلاث، فالبرجوازية العليا والملاكين العقاريين الكبار والكومبرادور (وهي البرجوازية المتداخلة عضويا مع الرأسمال الدولي) وجزء من التقنوقراط والبيروقراطيين ذوي النفوذ في الأجهزة المدنية والعسكرية والأمنية يشكلون تحالفا طبقيا حاكما ويهيمنون على الساحة السياسية بواسطة فاعلين سياسيين ينتمون لنفس هذه الطبقة فيعملون على تشكيل الأحزاب السياسية المدافعة عن مصالحها وأطروحاتها والتي يمكنها أن تستقطب داخلها مختلف شرائح المجتمع بحسب قدرتها على الخداع والاستقطاب لخدمة مصالحها حتى من بين مكونات أخرى تنتمي لطبقات اجتماعية أخرى. ومن بين الأحزاب المغربية التقليدية أوالحديثة التي تدخل في هذا الإطار نجد حزب الاستقلال والتجمع الوطني للأحرار وحزب الأصالة والمعاصرة والاتحاد الدستوري والحركة الشعبية... ان نجاح الفاعل السياسي في هذا الإطار أو فشله واختفائه يتحدد بمدى قدرته على التعبير السياسي عن المصالح الطبقية التي يمثلها أو فشله في التعبير عن ذلك... نفس الشيء بالنسبة للتعبيرات السياسية للطبقة الوسطى أو ما نعبر عنه بالبرجوازية الصغرى وهي طبقة تتميز باشتغالها في قطاع الخدمات عموما وتتميز سياسيا بانتهازيتها المفرطة، نظرا لتمتعها بقسط من التعليم وتتوفر على شهادات جامعية تميزها وتجعلها تتوهم أنها أعلى مستوى من الطبقة العاملة وعموم الكادحين وأنها وجدت لقيادتها ولذلك فهي تنحاز دائما الى الطبقة الأقوى من أجل خدمة مصالحها وتحقيق التسلق الاجتماعي وتساهم في ممارسة العنف الطبقي على البروليتاريا. وفي هذا الإطار يمكن اعطاء أمثلة عن الأحزاب السياسية المغربية التي تعبر سياسيا عن مصالح الطبقة الوسطى فنجد مثلا حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والحزب الاشتراكي الموحد وحزب التقدم والاشتراكية وحزب المؤتمر الاتحادي والحزب الاشتراكي وجبهة القوى الديموقراطية... فصعود أو أفول نجم الفاعلين السياسيين والمعبرين عن مصالح هذه الطبقة داخل هذه الأحزاب يتحدد بمدى وفائهم لهذه المصالح ودفاعهم عنها، ومن هذا المنطلق يمكن تفسير الانهيار الكبير الذي لحق بعض النجوم السياسية لهذه الطبقة كعبد الرحمان اليوسفي ومحمد اليازغي وفتح الله ولعلوا وإسماعيل العلوي ومحمد الساسي ونوبير الأموي ...، فتحول التعبيرات السياسية لهؤلاء وخيانتهم لمصالح الطبقة التي يمثلونها جعلتهم يفقدون اللمعان الذي بفضله بوأتهم الساحة السياسية المكانة التي صعدوا إليها، وفي هذا الإطار لا يمكننا الحديث هنا عن التقاعد السياسي بل عن التحريفية السياسية التي ترمي غالبا أصحابها نحو مزبلة التاريخ... على مستوى الطبقة الثالثة الدنيا والتي تتشكل أساسا من الطبقة العاملة ومن عموم الكادحين ومن الفلاحين الفقراء والبروليتاريا المشردة فإن تعبيراتها السياسية ظلت منذ عهد الاستعمار ثورية تصارع الطبقة العليا والوسطى عبر فضح جرائمها السياسية والاقتصادية، ونظرا للطابع الثوري للتعبيرات السياسية للبروليتاريا (كمنظمة الى الأمام، منظمة 23 مارس، ومنظمة لنخدم الشعب خلال عقد السبعينات تم التنظيمات اللاحقة التي تحمل الارث الثوري البروليتاري داخل الجامعات وخارجها، كالماركسية اللينينية والماركسية اللينينية الماوية والتروتسكية ويمكن أن نضيف هنا أيضا النهج الديموقراطي ويعض التنظيمات الاسلامية) كانت دائما هدفا لقمع التحالف الطبقي الحاكم وبتزكية ومباركة التعبيرات السياسية للبرجوازية العليا والبرجوازية الصغرى نظرا لما تشكله التنظيمات البروليتاريا وتعبيراتها السياسية من تهديد لمصالحها القائمة على الاستغلال. فخروج بعض الفاعلين السياسيين من الاطارات السياسية الثورية للبروليتاريا قد يحدث بسبب القمع الوحشي للنظام حيث سقط العديد من المناضلين الثوريين من أمثال عبد اللطيف زروال وسعيدة المنبهي والدريدي وشباضة ... وقد يكون بسبب الإنهاك المعنوي والمادي في غياهب السجون مثل ابراهام السرفاتي وعبد الفتاح الفكهاني ... وهنا أيضا لا يمكننا الحديث عن التقاعد السياسي بل عن التصفيات السياسية... ان الصراع بين الطبقات السياسية الثلاث حول السلطة وحسمه مؤقتا بالنسبة للتحالف الطبقي الحاكم هو الذي يحدد في الواقع بقاء أو خروج بعض الفاعلين السياسيين، كما يفسر ترحال العديد من السياسيين الانتهازيين نحو هذه الأحزاب أو تلك المقربة لمراكز النفوذ. أما استعمال عبارة التقاعد السياسي فلا يعني شيئا في مجال التحليل السياسي للصراع الطبقي وقد تكون عبارة "الافلاس السياسي" هنا أفضل بكثير لتفسير بعض الحالات المستعصية على الفهم كما هو الشأن بالنسبة للتلون السياسي الكبير والخطير لبعض الشخصيات السياسية من أمثال أحمد احرزني وقبله ادريس بنزكري وغيرهم كثيرون وقد ينطبق الأمر أيضا على عدد من المثقفين الكبار من أمثال عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري... هل يمكن اعتبار أن السياسي إذا اختفى عن الأنظار ولم يعد يتحمل المسؤوليات أنه اعتزل العمل السياسي؟ قد يعني اختفاء أحد الفاعلين السياسيين الكثير من الأشياء، فقد يعني المراجعة السياسية للمرجعية الإيديولوجية للمعني بالأمر والخط السياسي الذي يتبناه فيختفي عن الأنظار مدة معينة لكي يظهر من جديد متقمصا قناعا ايديولوجيا جديدا مدافعا عن خط سياسي جديد. كما قد يعني اختفاء الفاعل السياسي الدخول في فترة راحة بيولوجية لقضاء فترة تأمل لشحد الأدوات السياسية التي تعود على استعمالها حتى تلقى من جديد قبولا من لدن الطبقة التي يمثلها وتشكل اختراقا وسطا شرائح الطبقات الأخرى لاستمالة بعض مكوناتها... ثم ان الفاعل السياسي لا يمكن اعتباره مرادفا لتحمل مهمة سياسية في دواليب الدولة من حكومة وبرلمان وتنظيمات سياسية ونقابية وجمعوية، فوصول السياسي الى احد هذه المنابر أوخروجه منها يشكل مجرد تكتيكات في إطار التعبير السياسي عن الطبقة التي يدافع عن مصالحها، فالصراع السياسي بظل مستمرا حتى من خارج هذه المنابر ولا يمكن وصف من لم يعد يتحمل مسؤولية سياسية بالمعتزل سياسيا. لماذا يتقاعد السياسيون؟ كما حاولت أن أفسره أعلاه هو أن السياسي لا يتقاعد بل قد يختفي عن الأنظار نتيجة إفلاس منتوجه السياسي أو خيانة تعبيراته السياسية للطبقة التي يمثلها أو عزمه على تغيير معطفه السياسي تزلفا للطبقة الحاكمة الأقوى أو التحاقا طبقيا بطبقة أدنى وهو ما يعبر عنه بالانتحار الطبقي. أو يتوارى عن الأنظار خوفا من بطش التحالف الطبقي الحاكم. في نظركم ماهي مختلف الأسباب والمسببات التي تجعل هؤلاء يعتزلون السياسة في المغرب؟ إذا خرجنا من الإطار النظري وأردنا إلقاء نظرة على المشهد السياسي المغربي فسنصطدم بما يلي: وهو أن الصراع السياسي بين الطبقات في المغرب مختل لصالح التحالف الطبقي الحاكم الذي يمتلك مختلف وسائل الإكراه المادي والإيديولوجي والرمزي، وفي ظل هذه الوضعية لا يمكن الحديث عن وجود مبارزة سياسية متكافئة ما بين الطبقات المتصارعة، ومن هنا يمكن الجزم بأن مجال فاعلية الأحزاب السياسية بيمينها ويسارييها واسلامييها وبكوادرها ومثقفيها تبقى جد ضيقة وتسير وفق خارطة طريق مرسومة سلفا من طرف التحالف الطبقي الحاكم. وفي هذه الحالة نجد أنفسنا أمام العديد من الأحزاب السياسية التي تدافع عن نفس البرنامج الذي يرتضيه النظام القائم وتخضع له كافة المركزيات النقابية، فتصبح النتيجة هي هيمنة نظام سياسي أتوقراطي بحزب وحيد يتوفر على "عدة رؤوس حزبية" ودراع نقابي وحيد لضبط الطبقة العاملة "بعدة مركزيات نقابية". إذن فممارسة السياسة في هذا النظام الذي ليس هو برئاسي ولا ببرلماني رغم ما قد توحي به الشكليات الدستورية القائمة وبالتالي خضوع الفاعل السياسي للنمطية التي يفرضها النظام القائم، تحول بالفعل الفاعلين السياسيين إلى "موظفين سياسيين كبار" يخضعون لأوامر وتوجيهات عليا، فإما أن يحسنوا أدائهم لتجسيد الإرادة العليا أو ينسحبوا من المشهد السياسي الذي تم توظيفهم فيه، وفي هذا الإطار تستعمل مختلف الوسائل لتقريب هؤلاء الموظفين السياسيين أو إقبارهم وعزلهم إلى الأبد، وهنا أيضا لا نكون أمام تقاعد سياسي بقدر ما نكون أمام تصفيات سياسية. الكثير من السياسيين المتقاعدين لا يرغبون في الحديث عن الأسباب الحقيقية التي جعلتهم يتنحون عن العمل السياسي، لماذا؟ هذا الصمت يؤكد على أن صعود نجم الموظفين السياسيين أو أفوله في المشهد السياسي المغربي لا يكون بأيديهم أو من خلال الطبقة التي يعبرون سياسيا عن مصالحها بل يكون بارادة عليا يحددها التحالف الطبقي الحاكم حسب مصالحه الظرفية... هل للتقاعد السياسي علاقة بالاختلالات السياسية التي تعاني منها منظومتنا السياسية؟ بالمفهوم الذي حاولت تقديمه للفاعل السياسي في المشهد السياسي المغربي على أساس صفته "كموظف سياسي" في إطار نظام أوتوقراطي تنعدم فيه التعددية السياسية الحقيقية وتنعدم فيه الأداة النقابية المستقلة الموحدة للطبقة العاملة، لا يصبح للفعل السياسي لهؤلاء الموظفين السياسيين الكبار من معنى سواء كانوا فاعلين في الساحة السياسية أو اعتزلوا مهامهم السياسية. وبطبيعة الحال نكون أمام منظومة سياسية مختلة يعاني فاعلوها ومثقفوها من العقم والاخصاء السياسيين، وهي أخطر وضعية يمكن أن ينحدر اليها المجتمع، لأن انعكاس ذلك على المجتمع يكون وخيما حيث يصاب بالتفكك والتحلل على جميع المستويات: فعلى المستوى الإيديولوجي تصبح منظومة الاستغلال المعتمدة الموروثة عن مختلف الإيديولوجيات الاستغلالية السابقة التي عرفها التاريخ المغربي وأيضا الاختلال الخطير بين قوى الإنتاج المتقدمة وعلاقات الإنتاج المتخلفة، عاجزة تمام العجز عن ضمان استمرار الوهم لدى الجماهير المستغلة، فتنهض ردود فعل قوية على هذا الواقع من خلال تصاعد الاحتجاجات الجماهيرية ومن خلال المقاطعة العارمة للانتخابات التشريعية والجماعية وهي مقاطعة صريحة مباشرة لهؤلاء "الموظفين السياسيين" الذين ينكشف أمرهم مع الزمن... ويدخل في هذا الإطار أزمة استمرار الهيمنة الدينية وأزمة الجامعة والمثقف الجامعي. ويبدوا هذا التفكك الإيديولوجي بشكل صارخ لدى الشباب الذي يرفض الواقع القائم ويبحث عن مختلف أشكال الهروب، نحو الجنس، والمخدرات، والموسيقى الاحتجاجية الصاخبة. فردود الفعل هذه نتيجة تطور الاستغلال الاقتصادي الاجتماعي القائم والذي تعمل "نخبة الموظفين السياسيين" على تزكيته وليس على انتقاده من أجل تغييره. على المستوى الفلسفي، يؤدي العقم السياسي لهؤلاء الموظفين السياسيين الى غياب كلي لفلسفة الأمل وتحقيق الارتقاء الذاتي للطبقة العاملة وعموم الكادحين والانسجام في المنظومة القائمة بل تسود الفلسفات الثورية أو التشائمية أو الظلامية أو الانزوائية أو الخرافية ... على المستوى الفني، يختفي الإبداع ويتم اجترار القوالب الفنية الماضوية أو تتجه التعبيرات الفنية نحو الاحتجاج والتعبير عن الألم والخوف من المستقبل. على المستوى الاجتماعي يظهر الاختلال جليا للمنظومة السياسية الاقتصادية القائمة واستقالة "الموظفين السياسيين" حيث يصبح حضورهم مثل غيابهم، من خلال تصاعد الاحتجاجات الجماهيرية العفوية من خلال تنظيمات ذاتية نظرا لانسداد الأفق أمام الطبقة العاملة ولدينا أمثلة عديدة عن الانتفاضات الجماهيرية العارمة في عدد من المناطق المهمشة مثل تاماسينت وتالسينت وبني تادجيت والحسيمة وسيدي افني وصفروا وميسور وآيت عبدي ... على المستوى السياسي، أدى تفكك وتحلل المجتمع نتيجة الانحراف السياسي القائم واستقالة "الموظفين السياسيين" عن الدفاع عن مصالح المجتمع إلى تقوية الاجهزة القمعية للدولة وحضورها المبالغ فيه، وهو المظهر الأكثر بروزا في هذا الانحراف، فأمام مخاطر التفكك والتحلل القائم الذي أدى إلى انقشاع الوهم أمام عيون الطبقة العاملة حول نجاعة النظام السياسي القائم لتحقيق ذاتها وآمالها وبداية تكون الموجات الثورية الجماهيرية بجميع تعبيراتها النقابية والحقوقية والسياسية والجمعوية يقوم رد فعل التحالف الطبقي الحاكم من خلال تكريس القمع الوحشي في مواجهة الجميع: الصحافة، الجمعيات الحقوقية، المركزيات النقابية، مجموعات الدفاع عن المصالح، التنظيمات السياسية المعارضة... إن التفكك والتحلل القائم وردود فعل النظام على نتائج التفكك وتقوية الجهاز القمعي للدولة يكرس نمطية "الموظف السياسي" وإعادة إنتاج نفس نمطية الحزب السياسي الوحيد "متعدد الرؤوس" الذي يدافع عن الاختيارات الاقتصادية والسياسية للتحالف الطبقي الحاكم للمحافظة على استمراريته. فنحن نوجد إذن في إطار محطة منحطة مسدودة المنافذ كما يقول فؤاد النميري تسود فيها فعاليات وأحزاب رجعية وانتهازية في مواجهة طبقة بروليتارية تتزايد ثورية يوما عن يوم. هل يمكن القول أن لجوء السياسي إلى التقاعد بمثابة رد فعل مباشر على الأوضاع السياسية والحزبية المتدهورة؟ لن أتحدث هنا عن "الموظف السياسي" في أفعاله وردود أفعاله ودخوله أو خروجه من الساحة السياسية، فقد شرحت وجهة نظري بخصوص ذلك، بل أريد الحديث عن الدور السياسي للمثقف عموما ولماذا نفتقد حاليا للمثقف السياسي، أو المثقف العضوي، الذي ينتقد المحطة المنحطة الحالية المسدودة المنافذ ويسعى باقتراحاته للقيام بدوره التاريخي من أجل تفجير هذه المحطة المنحطة وإحداث التغيير المنشود لصالح الطبقة المستغلة ومن اجل الاشتراكية والديمقراطية واختفاء التفاوت الطبقي والعمل المأجور؟ منذ أكثر من أربعين سنة بدأ المثقف الثوري يختفي ويحل محله المثقف الانتهازي الذي يبحث عن الكسب المادي فقط ومن دون إنتاجية حقيقية، فلقد استطاع النظام البرجوازي التبعي في المغرب أن يلوث الثقافة والمثقفين ويطبعهم بالطابع الانتهازي النفعي، فبدأنا نلاحظهم كجامعيين وكصحافيين يتسابقون على موائد البرجوازية المتعفنة ويحاولون من خلال كتاباتهم إضفاء صبغة الشرعية على تعبيراتهم السياسية. لم يعد المثقف الاشتراكي اشتراكيا ولم تعد البرامج السياسية للأحزاب الاشتراكية والشيوعية تحمل مضمونا اشتراكيا أو شيوعيا، فليبحث الجميع في البرامج السياسية لهذه الأحزاب منذ أربعين سنة سواء في المغرب أو خارج المغرب عن صياغات تحمل بالفعل مشروع مجتمعي اشتراكي أو شيوعي، لن تجدوا حديثا عن الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج ولا عن إرادة القضاء على التفاوت الطبقي وعلى العمل المأجور ولن تجدوا حديثا عن ديكتاتورية البروليتاريا. لقد انتصر التيار المضاد للثورة البروليتارية واستطاع تدجين الجميع في إطار فلسفة نهاية التاريخ التي تنحدر إليها الرأسمالية تدريجيا عبر احتضارها المزمن... منذ أكثر من أربعين سنة اختفت التعبيرات السياسية المنظمة للطبقة العاملة وساد التشردم والبحث عن الذات في ظل التفكك والتحلل السائد. فالانتفاضات الشعبية في المغرب والتي تم كتم انفاسها خلال محطات 1965 و1981 و1984 و1990 وقد ساهم في كتم انفاس هذه الانتفاضات المثقفون الانتهازيون من اليمين واليسار ومن الاسلاميين، فشكلوا بذلك تيارات مضادة للثورة الشعبية على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتخلفة والمتدهورة. وبطبيعة الحال فإن الانتفاضات الشعبية العفوية غالبا ما تصطدم بالفشل والإحباط في غياب تنظيم سياسي ثوري يقودها ويحمل مشروع مجتمعي اشتراكي ديمقراطي متكامل ويشكل أداة سياسية للطبقة العاملة التي تكون منخرطة فيه بشكل واسع... وفي مقابل انهزامية المثقفين وانتهازيتهم والتحاقهم بالمشهد السياسي "كموظفين سياسيين" ظل المثقفون الثوريون منعزلون وهم يبتلعون ألسنتهم بعدما تم تدمير كافة المنابر الإعلامية المستقلة أمامهم والتي كانوا يعبرون من خلالها بين الفينة والأخرى عن مواقفهم النقدية المعارضة والصريحة للمحطة المنحطة المسدودة المنافذ. إن المثقف الحقيقي هو من يصنع تاريخه فيعبر عن روح العصر وينتقد القوى الرجعية وينتصر للقوى الثورية من أجل تغيير الواقع ويحمل مشروعا مجتمعيا ثوريا، لكن هذا المثقف العضوي الذي نفتقده حاليا لا يمكنه أن ينشأ من عدم، بل لا بد أن يكون وراءه عمل تنظيمي سياسي مضن، ليس بالضرورة أن يكون علنيا، يعمل على تجميع القوى الثورية القادرة على تفجير هذه المحطة المنحطة المسدودة المنافذ القائمة ببلادنا من أجل بعث الأمل أمام البروليتاريا المستغلة. إلى أي حد يساهم المشهد السياسي المتشرذم في اعتزال السياسيين؟ ان المشهد السياسي القائم حاليا في بلادنا والذي يعمل على تفكك المجتمع وتحلله، يشبه إلى حد ما الوضع السياسي والاجتماعي الذي تحدث عنه عبد الرحمان الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" فإذا كان المجتمع المغربي المتفكك يعيد إنتاج نفس الشخصية النمطية التي تنتصر للاستبداد فتعيد خلق "الموظف السياسي" مقابل قمع وتهميش "المثقف العضوي" فإن المحطة المنحطة تزداد انغلاقا مع ازدياد الحاجة الى تفجيرها. ومن هنا يمكننا أن نتوقع هزات عنيفة عفوية في غياب التنظيم السياسي الثوري. من الذي يتخلى عن الآخر، هل العمل السياسي هو الذي يلفظ السياسي أم أن العكس هو الصحيح؟ لقد بلغ النظام السياسي القائم درجة قصوى من التناقض والتفكك والانغلاق وهيمنة أجهزة الدولة القمعية على المشهد السياسي مما يلغي كل عمل سياسي نبيل حتى بالمفهوم الديمقراطي الاجتماعي، أي وجود أحزاب سياسية مستقلة يعبر بعضها عن مصالح البرجوازية العليا، وبعضها الآخر عن مصالح الطبقتين الوسطى والعاملة وتدخل في تنافس سياسي على كراسي البرلمان وتشكل الأغلبية المنتصرة حكومة تعمل على تطبيق البرنامج الذي تبارت من أجله على أصوات الطبقات الشعبية المتصارعة. فهناك إذن أزمة سياسية عامة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية. لنأخذ الوزير الأول السابق لحكومة التناوب، عبدالرحمان اليوسفي كنموذج، هل كان من الضروري أن تعتزل هذه الشخصية الكبيرة، العمل السياسي، علما أن المغرب في حاجة لمثل هؤلاء على اعتبار أن لها تراكمات سياسية مهمة تفيد في معالجة الكثير من الملفات التي يعاني منها المغرب؟ إن مثال عبد الرحمان اليوسفي يشكل مثالا صارخا لفشل اختيارات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ سنة 1975 تاريخ ولادة هذا الحزب من رحم حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فبعد 35 سنة من العمل السياسي تحول فيه الحزب وفاعليه السياسيين إلى أشباه "موظفين سياسيين كبار" لا أقل ولا أكثر، بينما لم يتحرك النظام السياسي قيد أنملة نحو الإصلاح كما كان يعد بذلك زعماء هذا الحزب طيلة هذه المدة، بل ظل النظام يحمل جيناته المتخلفة الطاردة لكل عمل سياسي نبيل ولكل إصلاح سياسي جذري بالمفهوم الديمقراطي الاجتماعي كما كان يأمل مؤسسو هذا الحزب في البداية، بل لم يحترم عبد الرحمان اليوسفي حتى ما كان يدافع عنه عبد الرحيم بوعبيد بأن المشاركة في الحكومة لا يمكنها أن تتم الا من خلال صناديق الاقتراح فكان التحاقه بحكومة التناوب وأداء وزرائه يسير عكس طموحات الطبقة الوسطى التي يشكل أحد تعبيراتها وبذلك شكل سلوكه السياسي خيانة للبرجوازية الصغرى التي يمثلها فكان الانهيار مريعا... فاعتزال عبد الرحمان اليوسفي للسياسة جاء نتيجة إفلاس المشروع السياسي الذي دافع عنه الى جانب عبد الرحيم بوعبيد من داخل الاتحاد الاشتراكي منذ سنة 1975. وليس اليوسفي وحده، بل هناك أيضا، الراحل عبدالله إبراهيم، الذي ظل لمدة سنوات على هامش العمل السياسي، بعد أن تنكر له الجميع، علما أن له ما يقدمه لبلده، وأيضا نفس الشيء ينطبق على الراحل الفقيه البصري وغيرهما، لماذا برأيكم يتم التعامل مع هؤلاء بمنطق التهميش؟ يختلف مثال عبد الله إبراهيم عن مثال عبد الرحمان اليوسفى، فالحصار الذي تعرض له عبد الله إبراهيم وكذا الحصار الذي تعرض له الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كان من القوة بمكان مما جمد كل نشاط سياسي لهذه الشخصية التي لم تقبل بأن تلعب لعبة النظام، فظل عبد الله إبراهيم في ظل الحصار إلى أن توفي. أما الفقيه البصري الذي ينتمي أيضا إلى المدرسة الاتحادية والذي اختار أيضا في مرحلة السبعينيات اختيارا ثوريا بلانكيا اثبت فشله في إحداث التغيير الجذري في العديد من التجارب التاريخية، فكان فشل الاختيار أحد أسباب جمود الفعل السياسي للفقيه البصري ولأتباعه... ألا ترون أن تراكمات هؤلاء السياسية التي برزت على أكثر من صعيد لم تستثمر في تحقيق تقدم في العديد من القضايا، أهمها قضية وحدتنا الترابية، أو على الأقل تحسين علاقات الجوار بين المغرب والجزائر، على اعتبار أن لهم علاقات صداقة مع أكثر من جهة في هذا البلد، واليوسفي نفسه في أحد تصريحاته تأسف لكون لم يحظى بالوقت الكافي للقيام بهذا الدور؟ عندما تختفي التعددية ويسود المنطق الوحيد والاختيار الوحيد والحزب الوحيد برؤوس متعددة والنقابة الوحيدة بالمركزيات المتعددة فلا يمكننا الحديث عن وجود امكانية تطور في العملية السياسية وفي البعد الديمقراطي الاجتماعي وفي إمكانية الإبداع السياسي وتحقيق مكتسبات سياسية حقيقية. فإذا كانت الشخصيات السياسية المذكورة مجرد "موظفين سياسيين كبار" لا إرادة سياسية مستقلة لديهم فكيف سيتسنى لهم المساهمة الفعلية في تحقيق مشاريع سياسية تعود بالنفع على الشعب المغربي عامة وعلى الطبقة العاملة خاصة؟. وعلى العكس من ذلك، يتمسك سياسيون آخرون بالعمل السياسي، ويجدون فيه ضالتهم، ولا يرغبون في التخلي عنه، على الرغم من أن الساحة السياسية لم تعد في حاجة إليهم أو أن أدوارهم استنفذت، لماذا لا يلجأ هؤلاء إلى التقاعد السياسي؟ إنه منطق التوظيف السياسي للمثقف الانتهازي الباحث عن الكسب المادي ولو على حساب المبادئ والتحرر السياسي والاقتصادي للشعب المغربي. وأغلب هؤلاء المثقفون الانتهازيون ينتمون للطبقة الوسطى والتي لا تشكل في الواقع سوى نصف طبقة ولا تحمل أي مشروع سياسي تاريخي وتتسم بسيطرتها على الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية وتعتبر أكثر الطبقات تشبثا بالنظام القائم نظرا لما يحققه لها من مكتسبات مادية، ويخلق لديها الوهم بإمكانية التموقع في مراتب البرجوازية العليا وأن تشكل جزءا لا يتجزأ من التحالف الطبقي الحاكم. هل يمكن الحديث في هذا الإطار عن تعليمات فوقية، حول من الذي يجب أن يبقى ومن الذي يجب أن يغادر؟ لقد كانت تلك هي خلاصتي عبر جوابي عن أول سؤالكم، فالتحالف الطبقي الحاكم في المغرب والمتغلغل عضويا مع الأوليغارشية الرأسمالية المهيمنة دوليا من خلال تبادل المصالح، وفي اطار تعمق أزمة النظام الرأسمالي عالميا ومحليا وما ينتجه كل ذلك من تفكك وتحلل المجتمعات وردود الفعل القوية للطبقات المستغلة محليا وعالميا، فإن تدبير الأزمة والمحافظة على استمرارية المنظومة الرأسمالية على الرغم من وجودها في مرحلة احتضار تاريخية، تطلب تنسيق الحكامة الدولية مع الحكامة المحلية للهيمنة والضبط الدولي والمحلي، وفي هذا الإطار لا يبقى أي معنى للفاعل السياسي المستقل بل يسود مفهوم "الموظف السياسي" الذي يتلخص دوره في المحافظة على النظام قائما بجميع الوسائل حتى الفاشستية منها. هل الخريطة السياسية في المغرب، بما في ذلك اللاعبين فيها، خريطة متحكم فيها، أم العكس هو الصحيح؟ لقد أشرت منذ البداية إلى أن اللعبة السياسية برمتها متحكم فيها من أعلى وما على "الموظفين السياسيين الكبار" سوى التنفيذ أو التنحي من المشهد السياسي. متى يكون، في نظركم، التقاعد السياسي صحيا؟ ومتى يكون غير ذلك؟ في إطار لعبة سياسية مغشوشة ولاعبين سياسيين مزيفين، فإن عبارة التقاعد السياسي تثير الضحك والشفقة أكثر مما تطرح موضوعا سياسيا جديرا بالنقاش داخل المشهد السياسي المغربي.